على رغم صعوبة التنبؤ بالتفاصيل، لكن يبدو أن هناك احتمالاً كبيراً بأن تشن إسرائيل غزواً برياً على قطاع غزة في المستقبل القريب. وإذا حدث ذلك، فسوف تتضمن الحملة العسكرية عناصر متعددة تتشابه مع غيرها من حروب المدن الشعواء. خلال هذا القرن، واجهت القوات العسكرية تعقيدات مستمرة ترتبت على القتال في المناطق الحضرية المأهولة في مدن الفلوجه والموصل والرمادي العراقية، ومدينة ماراوي الفيليبينية، ومدينتي باخموت وماريوبول الأوكرانيتين، وأماكن أخرى كثيرة.
لن يكون الهجوم البري المحتمل على غزة مختلفاً [عما كانت عليه الأحوال في القتال في مدن مأهولة أخرى]. فهو سوف ينطوي على ظروف تكتيكية صعبة للغاية، بما في ذلك قتال على مسافات قريبة ومباشرة من شأنها أن تؤدي إلى خسائر فادحة. وسوف يقتضي الأمر معارك برية، وجوية، وبحرية، تُخاض بشكل متزامن ومنسَّق بعناية. سوف يكون القتال شاقاً وطويلاً، ومن المرجح أن يؤدي الدمار الناجم عن ذلك إلى اختبار درجة متانة وثبات الدعم الدولي للغزو الإسرائيلي. ومما لا شك فيه أن مخططي الحرب الإسرائيليين يأخذون هذه القضايا العملياتية والاستراتيجية في الاعتبار فيما يدرسون قرار شن الغزو، ويحددون المسار الأكثر فعالية في حال قرروا المضي قدماً في ذلك.
براً وبحراً وجواً
وقعت غالبية الصراعات في القرن الحادي والعشرين في مناطق حضرية ومترابطة وذات كثافة سكانية عالية، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى أن الصراعات المسلحة تميل إلى النشوب حيث يتركز الناس، ومن نافل القول إن العالم شهد تحضراً مستمراً منذ الثورة الصناعية. منذ عام 2008، يعيش أكثر من نصف سكان العالم في المدن، ويتوقع الخبراء أن يصل معدل التحضر إلى 67 في المئة بحلول منتصف هذا القرن. علاوةً على ذلك، تميل المجتمعات البشرية إلى التجمع على طول السواحل، لذا فإن صراعات المناطق الحضرية تتطلب من القوات إجراء عمليات في البر والبحر والجو معاً. ومع استخدام القوات العسكرية أسلحة بعيدة المدى، يمكن استهداف المناطق الداخلية بشكل متزايد بأسلحة موجودة في البحر، كذلك، يمكن للأسلحة المتمركزة في البر أن تستهدف السفن في البحر. ومن هذا المنطلق، يشكل شرق البحر الأبيض المتوسط بأكمله مسرحاً إقليمياً واحداً، يؤثر ويتأثر بالأحداث التي تجري براً في غزة.
في عام 2015، وبعد أن أدرك حلف الناتو الأهمية المتزايدة للصراع في المناطق الحضرية، أطلق مشروعاً يهدف إلى دراسة التحديات المستمرة التي يفرضها التوسع الحضري. تضمّن المشروع جولات متعددة من المناورات والتجارب الحربية، واستفاد من خبرات 18 مركزاً من مراكز التميز المتخصصة التابعة لحلف شمال الأطلسي جنباً إلى جنب مع منظمات العلوم والتكنولوجيا داخل الناتو وتحالف العيون الخمس (الذي يضم أستراليا وكندا ونيوزيلندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) [تحالف استخباراتي تتعاون دوله بشكل وثيق في جمع المعلومات الاستخبارية ومشاركتها وتحليلها. أسس في الأصل لتسهيل التعاون الاستخباراتي بين هذه الدول أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية]. كما قام بتقييم تأثير التقنيات الناشئة والمدمرة على العمليات العسكرية الحضرية المستقبلية. وتشكل النتائج التي توصل إليها حلف شمال الأطلسي نقطة انطلاق مفيدة لفهم صراعات مثل تلك التي تلوح في الأفق في غزة.
صاغ باحثو الناتو اسم “الرباعية الحضرية” لوصف المناطق الحضرية على اعتبار أن المدن تجمع بين المناطق العمرانية، والكثافة السكانية العالية، وأنظمة البنية التحتية المعقدة، وبيئة معلومات متصلة عالمياً بشبكة رقمية. يتميز القتال في مثل هذه المناطق بالعديد من التحديات بما في ذلك العقبات العسكرية والكثافة السكانية والتعقيد والتهديدات التي يمكن أن تظهر بشكل غير متوقع ومن كافة الاتجاهات.
تتميز حرب المدن بطبيعتها البطيئة والمضنية، وبما تسببه من دمار واسع النطاق وضرر كبير بالبيئة المحيطة إلى جانب الخسائر البشرية الرهيبة التي تصيب المدنيين بشكل خاص. فهي تنطوي على مواجهات في كل منزل ودار، وفي كل شارع وحي، وتستنزف الجنود والقوة النارية، إذ إنها تتطلّب تأمين كل غرفة، وكل زاوية من زوايا الشوارع، وكل سطح، وكل مجرى صرف صحي، وكل قبو، قبل التقدم للسيطرة على الموقع التالي. ويُعتبر هذا النوع من القتال خطيراً بشكل خاص بالنسبة إلى قادة المعارك المبتدئين والقليلي الخبرة الذين يتعيّن عليهم وضع أنفسهم في مواقع مكشوفة من أجل الحفاظ على الاتصال البصري مع جنودهم والتواصل معهم ومع قيادتهم بشكل فعال.
تمثل حرب المدن تحديات استثنائية. لذا، فإن الاختصاصيين مثل المهندسين القتاليين، والقناصين، والمسعفين، وفرق الأسلحة الثقيلة، ومشغلي لهم قيمة كبيرة مما يجعلهم عرضةً للاستهداف بشكل أكبر. كذلك، تعتبر المركبات المدرعة، بما في ذلك الجرافات المدرعة، بالغة الأهمية وقد لعبت دوراً رئيساً في المعارك الأخيرة، مثل تلك التي دارت في الرمادي والموصل في العراق، وكانت للدروع أيضاً أهمية كبيرة في باخموت وماريوبول في أوكرانيا. بيد أن المركبات المدرعة قد تكون معرضة لأضرار جسيمة ما لم تكن مصحوبة بمشاة يتولّون أمر الأسلحة المضادة للدبابات، والألغام، والأجهزة المتفجرة المصنوعة يدوياً. وبدوره يُعدّ الدعم من الدبابات أمراً حيوياً من أجل حماية المشاة على الأرض. بطريقة موازية، هناك حاجة إلى المدفعية وقذائف الهاون والصواريخ لضرب تعزيزات العدو والتسديد نحو أهداف بعيدة. إضافة إلى ذلك، تبني الجيوش الحديثة “شبكة تدمير” من المراقبين وأجهزة الاستشعار والاتصالات مهمتها تحديد الأهداف التي ينبغي توجيه الأسلحة البعيدة المدى نحوها. ويسعى القادة جاهدين لخلق تأثير الأسلحة المشتركة من أجل خلق وضع يدفع الأعداء إلى تعريض أنفسهم لأحد التهديدات، على سبيل المثال، طائرة مسيرة أو ضربة مدفعية من الأعلى، بينما يسعون إلى تجنب آخر، مثل دبابة أو فرقة مشاة تتحرك براً. ولكن قول هذا أسهل بكثير من فعله.
إن ما بدأ كهجوم مروع على المدنيين الإسرائيليين، مستغلاً عاملَي الصدمة والمفاجأة، من المرجح أن يتحول الآن إلى معركة شاقة وبطيئة ومثيرة للجدل ومكلفة، في الجو والبر والبحر، وفي الفضاء الإلكتروني
قد يبدو القتال في المناطق الحضرية متمحوراً حول المعارك في البر، لكن في الواقع تلعب الأسلحة الجوية دوراً حاسماً. في الحقيقة، تعتبر الضربات الجوية، من الطائرات الحربية أو المسيرة، أو الأنظمة الآلية والذاتية القيادة بما في ذلك الطائرات الانتحارية من دون طيار والمسيرات التي تحمل عبوات ناسفة، ضرورية لتمكين القوات من المناورة في البر. ويرجع ذلك إلى تأثير الأسلحة المشتركة: فالعدو الذي يتفرق تجنباً للغارات الجوية يصبح عرضةً للهجمات البرية، في حين أن العدو الذي يركز على مواجهة قوة أخرى في البر يصبح هدفاً أسهل للضربات الجوية. وعلى نحو مماثل، تشكّل المراقبة والاستطلاع من أجهزة الاستشعار الجوية والفضائية وسيلة بالغة الأهمية لفهم البيئات الحضرية المزدحمة والمعقدة. وتعتبر أنظمة الاتصالات والملاحة الفضائية ضرورية للاستهداف وقيادة العمليات، وتُعدّ الحرب السيبرانية والإلكترونية أيضاً من سمات هذه البيئة.
واستطراداً، تحظى الأنظمة البحرية بأهمية حاسمة أيضاً، إذ إن السفن الحربية، والطائرات الموجودة على متن حاملات الطائرات، والدعم المدفعي البحري، والمسيرات والصواريخ التي تطلق من البحر، تعمل معاً على تمكين القوات من المناورة عن طريق البحر، والبقاء خارج المناطق الحضرية أثناء ضرب الخصوم على اليابسة. كذلك، تسمح السيطرة البحرية بإنزال القوات البرمائية أو القوات المحمولة جواً في مواقع غير متوقعة، مما يؤدي إلى زعزعة دفاعات العدو في المناطق الحضرية. ويمكن للقوات المنقولة بحراً [القوات المجهزة الموجودة على متن السفن والجاهزة للنشر] أن تمنح مرونة للقائد الموجود على اليابسة، مما يتيح حرية المناورة في المعارك الراكدة [التي لا تشهد تقدماً كبيراً من أي من الجانبين]. في المقابل، قد يتطلب الحرمان البحري، أي منع الخصوم من استخدام البحر، صواريخ أرضية مضادة للسفن إضافة إلى سفن حربية، أو زوارق هجومية سريعة، أو زوارق سطحية غير مأهولة، أو طائرات مسيرة تحت الماء. كل هذه العناصر كانت متاحة خلال المعارك الأخيرة في أوكرانيا، حيث استخدمتها القوات الأوكرانية بشكل ممتاز ضد البحرية الروسية في البحر الأسود.
في غزة، أمضت “حماس” ما يقرب من عقدين من الزمن في تطوير شبكة كثيفة من الدفاعات، بما في ذلك واحدة من أكبر أنظمة الأنفاق وأشدّها تحصيناً على الإطلاق في القتال الحضري
في الواقع، يمتلك طرفا الصراع في غزة بعض أو كل هذه الأنظمة البحرية. لدى البحرية الإسرائيلية زوارق هجومية سريعة وزوارق حربية مزودة بالصواريخ وزوارق الدوريات [زوارق خفر السواحل] إضافة إلى سفن حربية أكبر وقوات بحرية خاصة. في المقابل، لدى “حماس” قوة كوماندوز بحرية خاصة بها، “النخبة”، التي نُقل عناصرها بحراً لشنّ غارة على شاطئ زيكيم في إسرائيل خلال الخطوات الأولى في هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول)، حيث استولت على قاعدة عسكرية جنوب عسقلان. وعلى نطاق أوسع، تتجلى أهمية الأنظمة البحرية في المجموعتين الهجوميتين من حاملات الطائرات اللتين نشرتهما البحرية الأميركية في المنطقة، مما يمنحها القدرة على إسقاط الصواريخ التي تستهدف إسرائيل (وهو ما فعلته السفن الحربية الأميركية بالفعل). إضافة إلى ذلك، تتواجد مجموعة مهام بحرية صينية في المناطق المجاورة، وتعمل طائرات روسية مسلحة بصواريخ كينجال بعيدة المدى فوق البحر الأسود، على مسافة قريبة من القوات البحرية العاملة قبالة غزة، بما في ذلك
أما على اليابسة، بالنسبة إلى الجنود والمدنيين العالقين وسط القتال في المناطق الحضرية، فإن الخطر، والإرهاق، والشعور بالتهديد الدائم من كل اتجاه، ورعب القتال المباشر من مسافة قريبة، كلها أمور تُلحق أضراراً جسدية ونفسية هائلة. وتميل المعارك إلى أن تكون فوضوية، وخاطفة (تقاس بالثواني)، وقصيرة المدى، وغالباً ما تكون الأهداف قريبة ضمن مسافات لا تتخطى 50 ياردة [45 متراً]. من الممكن أن يركز الجنود على المنزل أو الغرفة التي يقاتلون فيها، ولكن في الوقت نفسه قد تستهدفهم أيضاً فرق الهاون والقناصة ومشغلو الطائرات المسيرة، من مسافة بعيدة.
وهذه كلها أمور يعرفها حق المعرفة أي شخص اكتسب خبرة قتالية خلال العشرين عاماً الماضية. وهو أمر مألوف أيضاً بطبيعة الحال بالنسبة إلى الجيش الإسرائيلي، الذي لعبت تجربته الواسعة في حرب المدن، والمكتسبة من الاشتباكات في أماكن مثل جنين بالضفة الغربية عام 2002، وجنوب لبنان خلال الحرب مع “حزب الله” عام 2006، والأراضي الفلسطينية، دوراً مهماً في تشكيل استراتيجيته ووجهات نظره المعاصرة في ما يخص الحرب الحضرية.
الحد من الخسائر في صفوف المدنيين
في غزة، كان الهدف الأولي الرئيس للجيش الإسرائيلي هو فصل مقاتلي “حماس” عن المدنيين. وكان ذلك في جزء منه من أجل حماية السكان وفي جزء آخر من أجل تحديد الأهداف المشروعة. وهذا يشكّل أحد أصعب جوانب القتال في المناطق الحضرية، نظراً لأن قوات العدو غالباً ما تعيش وتختبئ بين السكان غير المقاتلين الذين يتحولون، سواء دعموا العدو أم لا، إلى دروع بشرية. في أواخر الأسبوع الماضي، صرح الأدميرال دانييل هاغاري، المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، بأن “تركيز إسرائيل تحوّل من الاستهداف الدقيق إلى الضرر والتدمير” في محاولة لجعل غزة غير مناسبة أو غير عملية كقاعدة لـ”حماس”. ويشير هذا إلى أن الجيش الإسرائيلي أصبح يشدّد بشكل أقل على تجنب الأهداف المدنية مقارنة بنهجه السابق.
في كل الأحوال، وفق ما أظهرته التجارب الماضية في مدينتي ماراوي والموصل، فإن الجهود الرامية إلى تشجيع المدنيين على المغادرة عبر نقاط العبور الرسمية أو الممرات الإنسانية المحددة لا يمكن أن يكتب لها النجاح بشكل كامل. ففي كلتا المدينتين، أعاق الإرهابيون محاولات إنشاء ممرات إنسانية، مانعين المدنيين من المغادرة. كما أن المتحدثين باسم الجيش الإسرائيلي كانوا قد زعموا أن “حماس” تمنع المدنيين من مغادرة منازلهم اليوم. وحتى عندما يحاول المدنيون الرحيل، فإن الدمار والفوضى الناجمين عن القتال في المناطق الحضرية يجعلان الأمر خطيراً للغاية ويصعبان عليهم القيام بذلك، مما يدفع الكثيرين إلى الاحتماء في مكان آمن حيثما يوجدون. وعلى رغم التحول الرسمي من الدقة في الأهداف إلى التدمير، فالجيش الإسرائيلي يملك في الواقع سجلاً حافلاً في السعي لتجنب وقوع إصابات في صفوف المدنيين، بما في ذلك من خلال إطلاق تحذيرات قبل القصف وما يسمى بالـ “الطرق على السطح”، وهي طريقة يرمون فيها مواد متفجرة متدنية القوة أو أجهزة غير متفجرة على أسطح المنازل من أجل حثّ المدنيين على المغادرة قبل تنفيذ الضربة الكبرى. إذاً، في حالة وقوع هجوم بري واسع النطاق، يمكننا أن نتوقع من الجيش الإسرائيلي أن يرسل فرق الشؤون الإنسانية والمدنية لإجلاء المدنيين وتحديد هوياتهم وانتمائهم ودعمهم في حين يغربلون ويفصلون مقاتلي العدو الذين يسعون للاختباء بين النازحين والمشردين. لكن مثل هذه الجهود لا يمكنها أن تحقق سوى نتائج محدودة، وكثيراً ما تؤدي الفوضى وعدم اليقين في المعركة إلى أخطاء تودي بحياة المدنيين.
في الحقيقة، إن مدينة غزة، وخان يونس، ورفح (الأجزاء الثلاثة الأكثر اكتظاظاً بالسكان في قطاع غزة) عبارة عن متاهات من مبانٍ متعددة الطوابق مشيّدة من الخرسانة والطوب الإسمنتي، ومبنية غالباً بشكل سيئ، ومتهالكة ومعرضة للانهيار تحت القصف المدفعي أو الغارات الجوية. وهذا أمر خطير للغاية بالنسبة إلى المدنيين المحاصرين، وكذلك بالنسبة إلى الجنود، فالأضرار التي لحقت بالمباني الحضرية يمكن أن تحد من قدرة القوات على المناورة، إذ إنها تؤدي إلى قطع طرقات الشوارع بالركام وتوجيه القوات المتقدمة نحو كمائن يتعرضون فيها للقتل. وكان هذا أحد الأسباب التي جعلت معركة الموصل تستغرق عدة أشهر، إذ كان المدافعون يقاتلون وسط الأنقاض، ويخرجون من الحطام لشن هجمات مضادة، ومحاصرة المقرات والمنشآت اللوجستية من اتجاهات غير متوقعة.
وفي غزة، أمضت “حماس” ما يقرب من عقدين من الزمن في تطوير شبكة كثيفة من الدفاعات، بما في ذلك واحدة من أكبر أنظمة الأنفاق وأشدّها تحصيناً على الإطلاق في القتال الحضري، وهي شبكة من الممرات تحت الأرض التي تدعي “حماس” أنها تمتد لأكثر من 300 ميل. ومن المرجح أن تشكل الحرب تحت الأرض، بما في ذلك في الأنفاق القريبة جداً من الساحل، التي تغمرها المياه بشكل دوري، أحد أكثر جوانب المعركة تحدياً. لذا، يمكن للأنظمة الروبوتية والذاتية القيادة، بما في ذلك الطائرات المسيرة القادرة على استكشاف أنظمة الأنفاق والاشتباك مع الأعداء تحت الأرض أو تحت الماء، أن تساعد في إخلاء الممرات تحت الأرض. ويمكن أن يكون الإغراق بالماء والغاز المسيل للدموع وغيرها من السبل حاسماً أيضاً عند القتال في الأنفاق أو الأقبية أو المساحات الداخلية. ولكن مع احتشاد المدنيين غير المقاتلين في مثل هذه الأماكن، فإن هذه الأساليب تعرّضهم إلى أخطار كارثية محتملة. وفي نهاية المطاف، لا شيء يحلّ محل البشر المزودين بالأسلحة وأجهزة الاستشعار والكلاب المدربة وأجهزة الرؤية الليلية لتأمين مثل هذه الأنفاق. ستكون مهمة صعبة ومميتة وبطيئة للغاية.
اعرف عدوّك
إن “حماس” هي قوة متمكنة تكنولوجياً ومترابطة اجتماعياً تقاتل على أرض وطنها الأم. يعمل مقاتلوها في فرق صغيرة مترابطة ومجهزة بأنظمة أسلحة فتاكة من النوع الذي لم يكن متاحاً تقليدياً في التاريخ الحديث إلا للقوات المسلحة للدول ذات السيادة. من المرجح أن تستعمل تكتيكات دفاعية شبكية [مترابطة وجماعية] تنطوي على الاحتفاظ بمواقع استراتيجية ونقاط قوة من أجل تأخير وعرقلة تقدم الجيش الإسرائيلي وفي الوقت نفسه إبقاء قوات متنقلة في الاحتياط، جاهزة للهجمات المضادة أو التسلل مجدداً إلى المناطق التي جرى تطهيرها. وسوف تستخدم على نطاق واسع المعدات العسكرية التقليدية والمتوافرة بسهولة، فضلاً عن الأفخاخ المتفجرة والعبوات الناسفة اليدوية الصنع. إضافة إلى ذلك، أظهرت “حماس” بالفعل قدرتها على خوض حرب إعلامية متقدّمة من أجل حشد الدعم الدولي.
إن ما بدأ كهجوم مروع على المدنيين الإسرائيليين، مستغلاً عاملَي الصدمة والمفاجأة، من المرجح أن يتحول الآن إلى معركة شاقة وبطيئة ومثيرة للجدل ومكلفة، في الجو والبر والبحر، وفي الفضاء الإلكتروني. وسيكون من الصعب للغاية فهم ما يحدث داخل بيئة غزة المعقدة والمزدحمة والمكتظة بالسكان، حتى بالنسبة إلى أولئك الموجودين في الميدان. كذلك، فإن تأثير التقنيات الناشئة، والسمات الدائمة للقتال في المناطق الحضرية وفق ما حدده حلف شمال الأطلسي، (العقبات العسكرية، والكثافة، والتعقيد، والتهديدات الشاملة) إلى جانب القيود المادية والبشرية والمعلوماتية وقيود البنية التحتية التي تفرضها المدن على القوات العسكرية، كلها أمور ستلعب دوراً مهماً في تشكيل الأحداث المقبلة.
في الواقع، يوفّر استيعاب الصعوبة التكتيكية لحرب المدن سياقاً قيّماً يمكن لإسرائيل أن تستخدمه في تقييم مدى صوابية (أو عدم صوابية) أي هجوم بري واسع النطاق في غزة. ومن المرجح أن يشعر مخططو الجيش الإسرائيلي بالقلق من أنه بمجرد التزام قواتهم بشكل حاسم بالقتال البري في غزة، فإن اللاعبين الإقليميين الآخرين، مثل “حزب الله” في لبنان، والميليشيات المدعومة من إيران في سوريا، أو القوات الإيرانية نفسها، قد يهاجمون إسرائيل، مما قد يخلق حرباً متعددة الجبهات. وقد يدفع هذا الاحتمال إسرائيل إلى شن ضربة استباقية على تلك الجهات الفاعلة الإقليمية قبل دخول غزة، لكن مثل هذا القرار ينطوي على أخطار كبيرة.
واستكمالاً، تحمل الحملة البرية في غزة أيضاً أخطار استراتيجية. وفي خضم حرب المعلومات التي تشنها “حماس” وإيران، فإن تدمير الممتلكات والإصابات بين المدنيين والتهجير القسري للسكان في حال نشوب معركة حضرية في غزة، وهو أمر يُنظر إليه على الأرجح في أحسن الأحوال على أنه تطهير عرقي، يمكن أن يضر بشرعية إسرائيل الأخلاقية، مما يجبرها على إيقاف العملية سياسياً بغض النظر عن التقدم على الأرض. لقد اختبر الجنود ومشاة البحرية الأميركيون وضعاً مماثلاً خلال معركة الفلوجة الأولى في أبريل (نيسان) 2004 في العراق، عندما أجبرت الاحتجاجات الدولية إدارة بوش على وقف المعركة على رغم التقدم الكبير المحرز، وسمح ذلك للمتمردين بالتقاط الأنفاس وتعزيز الدفاعات قبل نشوب معركة ثانية في نوفمبر (تشرين الثاني) من ذلك العام. ويمكن القول إن هذا التردد السياسي كلّف أرواح أميركيين. ولكن في المقابل، فإن التأثير الاستراتيجي لفقدان الشرعية الأخلاقية يمكن أن يكون شديداً للغاية، سواء بالنسبة إلى إسرائيل أو حلفائها، بما في ذلك الولايات المتحدة.
وتشير كل هذه العوامل إلى أن الهجوم البري على غزة سيكون على الأرجح مروعاً، وسيخلّف عواقب وخيمة. ولكن كما يعلم كل جندي، قد يكون هذا مساراً ضرورياً لا مفر منه، ومن الممكن أن تبدأ هذه المرحلة في القريب العاجل.
*ديفيد كيلكولين أستاذ الدراسات الدولية والسياسية في جامعة نيو ساوث ويلز، والرئيس التنفيذي لشركة البحوث العالمية “مجموعة تطبيقات كورديليرا” Cordillera Applications Group، وهو مؤلف كتاب “خارج الجبال: العصر المقبل لحرب العصابات في المناطق الحضرية”. شغل منصب كبير مستشاري الجنرال الأميركي ديفيد بترايوس في شؤون مكافحة التمرد في عام 2007.
مترجم عن فورين أفيرز 23 أكتوبر 2023