حرب غزة بدت فرصة بالنسبة إلى الرئيس التركي رجب طيب تساعده على تحقيق هدفين: الأول هو تعديل الموقف الذي انتقد فيه “حماس” وعملية “طوفان الاقصى” في اتجاه الدعم الكامل لغزة والانتقاد الحاد للتوحش الإسرائيلي ضد المدنيين الآمنين في منازلهم. والثاني إقامة أهم مهرجان داعم لغزة في الذكرى المئوية لقيام الجمهورية التركية يوم 29 أكتوبر (تشرين الأول) 1923، ضمن عمل منهجي لتهميش المناسبة المئوية
وما كان أمراً عفوياً أن يرفع أردوغان شعار “القرن التركي” بدلاً من شعار “المئوية الثانية” للجمهورية الذي ترفعه الأحزاب المعارضة. فما يريده هو الحد من آثار اتاتورك الذي قاتل وانتزع نصر الجمهورية، من فك الهزيمة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، والتصرف على أساس أنه يبني جمهورية جديدة “أردوغانية”. وما سجله كثيرون وبينهم المؤرخ ألبير أورتايلي والمؤرخ أكرم إيسان والبروفيسورة شولا أوزيل هو طمس التحرير الذي قام به أتاتورك ومحاولة العودة من الجمهورية العلمانية المنفتحة على أوروبا إلى جمهورية بطابع ديني عثماني.
لكن إلى أين الهرب من الحقيقة؟ إلى أين في تصعيد القصف على المراكز الكردية في سوريا والعراق بداعي “محاربة الإرهاب” مع أن “قوات سوريا الديمقراطية” ذات الغالبية الكردية هي أقوى محارب ضد “داعش”؟ ماذا بعد دعمه لأذربيجان في اجتياح قره باغ ومتابعة الضغط على الأرمن الناجين من مذبحة السلطنة العثمانية لهم خلال الحرب العالمية الأولى؟ وما حدود الرجل في لعبة الأمم؟
حين أسس كمال أتاتورك الجمهورية التركية عام 1923 وألغى السلطنة وأقام نظاماً علمانياً واتجه إلى أوروبا، انتقده أهل الحنين إلى السلطنة بالقول “تركيا كانت الأولى في الشرق فجعلها أتاتورك الأخيرة في الغرب”، لكن التاريخ ناطق: لولا أتاتورك والمعارك العسكرية التي خاضها وقادت إلى معاهدة لوزان لما بقي بلد اسمه تركيا. أما أردوغان، فإنه يحاول القيام بلعبة مزدوجة: أن يكون الأول في الشرق واللاعب المهم الذي لا يستغنى عنه في الغرب. وليس ذلك من دون كلفة على البلد. فلا الرجل الحاكم منذ 2002 يعترف بأنه صار في خريف الحكم. ولا التنقل بين سياسة “صفر مشكلات” وسياسة “100 في المئة صراعات”، رافقه ما هو أقل من الانكماش الاقتصادي وانهيار الليرة مقابل الدولار، ذلك أن أردوغان سلطوي أوتوقراطي يحكم دولة ديمقراطية بحسب الدستور، وتعددية ومنقسمة سياسياً في الواقع.
رئيس حزب إسلامي يدير نظاماً علمانياً عجز عن تغييره. وإن مارس الخروج عليه عملياً. أطلسي عضو في الناتو وأوراسي في وقت واحد. أوروبي وشرقي يقول إن “تركيا هي أكثر بلد شرقي في الغرب وأكثر بلد غربي في الشرق”. باحث عن دور في أمكنة عدة: سوريا، العراق، ليبيا، القوقاز، البلقان، و”الوطن الأزرق”. وسيط بين روسيا وأوكرانيا في ما يتجاوز اتفاق تصدير الحبوب. أكروبات بين أميركا والصين وروسيا. ومقاتل من أجل حصة ودور في شرق المتوسط وغازه ونفطه.
وهذه لعبة أكبر من قدرة تركيا على مسرح أوسع من طموحات أردوغان. فما يخطط له من احتفالات يعكس تفكيره الحقيقي. احتفال في عام 2053 الذكرى الـ600 لفتح القسطنطينية عام1453. واحتفال عام 2071 الذكرى الألفية لمعركة ملاذكرد بقيادة ألب أرسلان. ولا احتفالات مهمة في مئوية الجمهورية التي أسسها أتاتورك، وسط كثير من نوازع العودة إلى نسخة عصرية من السلطنة العثمانية. وما لم يقله أردوغان قاله حليفه الانتخابي أوندير إقصانال رئيس حزب “اليسار الديمقراطي” الديني: “الانتخابات ليست بين يمين ويسار بل هي انتخابات أمة الوطن ولن نسلم وطننا للكفار”.
والأمة، عند أردوغان، أوسع من الجمهورية، بحيث يرى أن لها حقاً في الوجود العسكري في دول عدة كانت ضمن “جغرافيتنا القديمة”. بعد الفوز الثالث لأردوغان قال المعلق التركي المعارض طه أقيول إن “الشخصية التركية تميل إلى عبادة الرجل القوي”، لكن الظاهرة ليست في تركيا وحدها. فماذا عن بوتين في روسيا، وشي في الصين، وأوربان في المجر، وحتى ترمب في أميركا؟ وهل صحيح ما قاله توماس كابلان وبرنار هنري ليفي من أن تركيا التي كانت “رجل أوروبا المريض” قبل قرنين هي اليوم “سبب أمراض أوروبا؟”.
