لا يمكن للضمير أو الوجدان الإنساني إلا أن يجد نفسه متضامناً كلياً مع الشعب الفلسطيني في غزة، ومع كل الشعوب التي تأكل آلة العسكر والتطرف أمانها واستقرارها. أحداث غزة وإدلب وشرق الفرات تعيد علينا التساؤل القديم الجديد: من المستفيد من مقتلة الشعوب وترحيلها وارتكاب مجازرها؟ فبينما يعاني الوجدان الشعبي العربي بعامة، والسوري والفلسطيني بخاصة، من إرهاصات الاختلاط الحاد بين حق الحياة الآمنة في دولة تعيش بسلام واستقرار، لم يزل استنزافنا الشعوري متولد يومياً تحدثه أدوات التحوّر والتجييش الفظ العسكراتاري التي تديره أدوات الصراع العسكرية في عموم المنطقة. والرابح الوحيد لليوم من مجريات أحداثها هي القوى العسكرية الإقليمية، وفي مقدمتها إيران ومن خلفها النظام السوري أو تركيا، والخاسر هم الشعوب.
ربما لا يمكن المقارنة بين مجريات الحدث الدموي في غزة الفلسطينية، وبين ما يجري في السويداء السورية لكن ثمة ما يمكن أن يقال أدناه. بينما يمكن إيجاد نقاط مقارنة متعددة من حيث أوجه التشابه والاختلاف بين أحداث غزة والأحداث الجارية في كل من إدلب ودير الزور وفي عموم شرق الفرات. فرغم اختلاف المنفذين لكن هناك إشارات واضحة على تحرك عسكري متزامن روسي، إيراني، تركي، وإسرائيلي كل في منطقة نفوذه، واستخدام القوة العسكرية المفرطة في تنفيذه. ويدعي كل منها أنه يحارب الإرهاب في المنطقة حسب تصنيفه لها، والضحية هي الشعوب.
إلى اليوم معظم التصريحات التي ترفض عملية عسكرية في منطقة تقبلها في منطقة أخرى، فأمريكيا التي ترفض بخجل ما تقوم به تركيا في شرق الفرات تقبل بما يجري في غزة، وروسيا التي دعت للتهدئة في غزة ترتكب المجازر في ادلب. وتركيا التي ترتكب المجازر في شرق الفرات ترفض ما يجري بغزة. فيما إيران موافقة على كل ما يجري بالمنطقة وتحاول أن تستفيد من محصلاته وتناقضاته ضمن معادلة متحركة اقليمياً تنشر الرعب بين السكان المدنيين، وتشي بمرحلة جديدة لتقاسم النفوذ في الشرق الأوسط برمته، إن لم يكن إعادة ترتيبه ديمغرافياً وجغرافياً.
وإذ يصح القول إنه من غير الممكن تعميم ذات الصفات على المناطق الثلاث أعلاه، فالاختلاف فيها يحتاج لدراسات مدقّقة حسب معطيات وطبيعة كل منها. لكن الواضح أن ثمة تشابه بالسياق العام لها يتلخص في جملتين: الأولى، لم يتمكن السوريون إلى اليوم من الاتفاق على مشروع دولتهم الوطنية، الأمر الذي سمح للقوى الإقليمية والدولية التحكم في مصيرنا وذلك من خلال قوى أمر الواقع في كل منطقة والمتحاربة فيما بينها، والمشابه لمجريات الحدث الفلسطيني بين فتح وحماس. فيما تبرز النقطة الثانية أكثر وضوحاً في تزامن تحرك المتحورات الإقليمية لتعزيز نفوذها وهيمنتها بالمنطقة وإحداث تغيير ديموغرافي وجغرافي فيها، كما حدث مع غالبية المدن السورية عام 2018.
مشروع حل الدولتين في فلسطين هو المعطى السياسي الذي يقدم للشعب الفلسطيني أقل ما يمكن من حقوقه في الاستقرار في دولة ترفض التطرف والحلول العسكرية العنفية. وهو الحل الذي يقيم معايير السلام وحقوق الإنسان في حدودها الدنيا. فرغم أنه يأتي على حق الشعب الفلسطيني التاريخي بكامل أرضه، لكنه يؤسس لإمكانية الفعل السياسي على المستوى الوطني الفلسطيني، ويمنع استثمار القوى الإقليمية في قضيته، ومنع الاستقرار والسلام لهذا الشعب وتكرار مأساته لليوم تهجيراً وقتلاً. وللأسف قد يلاقي سكان غزة اليوم ذات المصير. فقد استمرأت نظم وسلطات المنطقة التلاعب بالوجدان الشعبي العربي برفع رايات “تحرير القدس”، لكنها في كل مرة كانت تمر من مدينة عراقية أو سورية، فساهمت في هدم العراق وتفريغ المدن السورية مدينة تلو الأخرى، والفاعل واحد، هي سلطات العسكر ومن خلفها إيران وميليشياتها الطائفية ومشروعها التوسعي في المنطقة على حساب السوريين والعراقيين والفلسطينيين واللبنانيين، مرة برعاية أميركية في العراق، وأخرى برعاية روسية في سوريا.
حتى الآن، لم يزل مشروع الدولة الوطنية في كل من سوريا ولبنان والعراق أسير القوى المحلية المتصارعة فيما بينها تغذيها القوى الإقليمية والدولية. والأهم من هذا بدأت شعوب المنطقة تخبو إرادتها في السعي لهذا الفعل لتحوله لمجرّد فكرة نظرية أمام الواقع بمعطياته وقوى صراعه المتناقضة، ووقوعه تحت مطرقة عسكر القوى الإقليمية وسندان قوى الأمر الواقع المحلية.
رسالة السويداء المعلنة من جنوب سوريا كانت واضحة بهذا الاتجاه، عنوانها الأول الحل السياسي السوري السلمي، وبناء الدولة الوطنية، ورفض العنف والارتهان لقوى الأمر الواقع أو الأدوات الخارجية والإقليمية. رسالة السويداء متضامنة مع الشعب الفلسطيني في غزة، وتبعث الأمل في نفوس السوريين جميعاً ومتضامنة مع سكان إدلب وشرق الفرات. رسالة تمر بعلانية وحذر بين الأجندات الدولية التي تعبث بالمنطقة، فيما يصر الإعلام العام على تجاهل مضمونها بشتى الطرق. إذ إن تحقق مطالبها سيغيّر وجه المنطقة تجاه الاستقرار والسلام ويمنع تمدد العنف والتلاعب بمصير الشعوب وتهجيرها من حواضرها وتاريخها.
الخيط الواصل بين غزة والسويداء، هو مشروع الدولة الوطنية والحل السلمي للوصول إليه، وهو ما ترفضه بقوة إيران. وليس هذا فحسب، بل تفاوض من الخلف مع الإدارة الامريكية على تثبيت نقاط وجودها في سوريا والعراق، والثمن يدفعه سكان غزة تهجيراً من جهة، ومنع تفعيل مشروع حل الدولتين في فلسطين والحل السياسي في سوريا من جهة أخرى. لتبقى دول المنطقة أسيرة قوى العسكر ومقدمتها إيران وميليشياتها الطائفية.
المشهد الإقليمي بعد أحداث غزة قابل للتوسع بإحدى طريقتين: التفاوض على حصتها في كل من سوريا والعراق على حساب غزة، والثانية إمكانية التمدد لحرب شاملة إقليمية تتفادها دول الخليج العربي. وفي الحالتين تعني ضلوع النظام السوري في معادلاتها التفاوضية أو العسكرية. ما يعطل الحل السوري متجاهلًا حراك السويداء بالضرورة. وحيث أن السويداء ترفض الوجود الإيراني كلياً كما ترفض جميع الاحتلالات العسكرية لسوريا؛ فمن الضرورة السعي إلى التماسك المجتمعي وعدم الانجرار خلف معادلات التحريك الإقليمي المفتعلة، والتمسك بالحل السوري والانتقال السياسي. ما يتوافق وينسجم مع شروط “المبادرة العربية” بشكل رئيسي، ويزيد من فرص تفعيل الحل السوري العام ويشكل عمقاً حيوياً للسويداء يقيها من أية ارتدادات عنفية قد يفتعلها النظام وميليشيات إيران الطائفية وحزب الله كامتداد لمجريات أحداث غزة لإجهاض حراكها السلمي العام.
يبدو أن على شعوب المنطقة أن تبتلي بويلات العسكر وصراع النفوذ الإقليمي والدولي فيها وعليها، لكن عليها أن تختار بعناية وعقلانية شروط قدرتها على الفاعلية والاستحقاق الوطني مهما طال الطريق. وسيبقى مشروع الدولة الوطنية في كل الشرق مشروع راهن وممكن، إذا ما تمكنت شعوب المنطقة من اعتماد تعاقدها الأهلي في التضامن العام، وتحييد قوى العسكر المحلية والإقليمية من معادلة وجودها السياسي. وهو الخيط الشفاف بين غزة والسويداء رغم اختلاف حيثياتها، لكنه الخيط الذي يمكن أن تبدأ منه الحلول المختلفة عن إرادة قوى الصراع الإقليمية في المنطقة. فلكل من إيران وتركيا وإسرائيل سياسات متحورة سياسياً وتبحث عن مصالحها بغض النظر عنّا وعن حقوقنا العامة، ومتكئة على قوى الأمر الواقع التي تعيش على حسابنا.