لأكثر من شهر، الحياة مقصوفة في جنوب لبنان، وتكاد تكون معدومة في شريط القرى الحدودية. والبلد برمته يرتجف ويرتعد. الأمن الوطني ليس متحققاً. ومعادلة “الردع” تبدو هشة جداً، ويتم تجاوزها كسائرٍ على حبل يفقد توازنه. الأمان النسبي طوال 17 عاماً عند الحدود يتفتت يومياً كستارة مهترئة.
الخروج من “الاحترام” الشكلي للقرار الأممي 1701، وكسر بنده المتعلق بوقف الأعمال العدائية، نحو مجهول مخيف، ليس أبداً أمراً يرغبه الجنوبيون خصوصاً، وسائر اللبنانيين.
في الآونة الأخيرة، عم الاستياء في البيئة المؤيدة لحزب الله تحت شعار “أهل الجنوب لبنانيون أيضاً”. والاستياء محق تماماً كما الشعار الصائب والبديهي. وانطلاقاً من هذا الحرص، يجوز القول أن سكان رامية والناقورة والظهيرة وكفرشوبا وشبعا ورميش ويارين والجبين وطير حرفا ومروحين وعيناثا وعيترون وحولا والعديسة.. هم أيضاً لبنانيون، ويحق لهم الأمن والطمأنينة والحماية. يحق لهم حصاد ثمار أشجارهم والنوم الهانئ في بيوتهم وذهاب أطفالهم إلى مدارسهم. يحق لهم التسكع في ساحات قراهم، والسهر البهيج على سطوح منازلهم. يحق لهم العيش الكريم والازدهار بسلام.
من هذا الحق، يأتي الواجب السياسي. بل هو الواجب الأول. وربما هو أشرف “التكليفات الشرعية”.
أهل القرى الحدودية تلك لبنانيون، وإذا كان منطق الأعمال العسكرية الجارية يتلحف بحجة أنها أعمال ردع وتمنع العدوان على لبنان، فهي حجة تستثني أولئك اللبنانيين ولا تحسب حسابهم ولا تقيم وزناً لتهجيرهم ودمار بيوتهم وخراب أرضهم واحتراق زرعهم وأحراجهم، وموت أبريائهم وأطفالهم وخسارة كراماتهم. استخفاف بالحياة نفسها وبالأرواح، سمعنا من يعلنه متبجحاً بكثرة النساء الحوامل في غزة. كما لو أننا وأطفالنا منذورين لـ”مصنع موت” (mass production) جهنمي.
وحصاد الشهر هذا، بغض النظر عن خسائر لبنان الاقتصادية والأكلاف الاجتماعية والسياسية (وهي باهظة)، كان حصاداً مريراً، عسكرياً وإنسانياً. ويبدو أن عقيدة الردع بأكملها باتت موضع تساؤل وشكّ، طالما أن الاستباحة تتوسع وتتعمق. وفي النتيجة الأبعد، حدث تقهقر حتى عن “تفاهم نيسان”، وإحياء خطير لزمن “اتفاق القاهرة” المشؤوم الذي جلب الويلات على الجنوب والتراجيديا التاريخية للبنان.
والأسوأ أن “المعركة” المحدودة لم تغير شيئاً من المسار المشؤوم لغزة، وأي مكابرة بهذا الشأن مفضوحة وفاشلة. بل إن المعركة هذه، تعزز أكثر أشد الاحتمالات قتامة، أي اندفاع الجنون الإسرائيلي وآلته الحربية نحو لبنان بذريعة منع تكرار سيناريو 7 تشرين في الشمال. وهي ذريعة ستجد سنداً أميركياً، سياسياً وعسكرياً، حسب ما يأتينا من أخبار البحر المتوسط المزدحم بالأساطيل.
بهذا المعنى، لبنان يرتجف خوفاً ويرتعد. فلم تعد العمليات الحربية مجرد اختبار متبادل لحصانة الردع وتوازن القوى، وتجاوزت ما يسمى “قواعد الاشتباك” التي تحفظ أمن الحدود على الجانبين، والشعور بالاستقرار.
أن تأتي الحرب والبلد مفلس ودولته أشبه بـ”مستودع فراغ”، فقط من أجل حفظ ماء وجه “المحور”، هدف ليس جذاباً لأي مواطن لبناني. والأفدح أنها قد تأتي على مثال غزة. ففي هذه الحال، قد لا نجد حتى التعاطف الذي ناله الفلسطينيون بسبب عدالة قضيتهم.
لذا، فحتى لو طرحنا جانباً كل أدبيات السيادة والدستور وما يقوله المعارضون لسلاح حزب الله، يبدو أن “التكليف الشرعي” المرغوب هو إفشال أي رغبة إسرائيلية ممكنة لتكرار نموذج غزة في لبنان. ومن الواضح حتى الآن أن ما يحدث في الجنوب يسير بالاتجاه المعاكس.
نقول هذا، كي لا يكون الدم رخيصاً والبطولات مجانية، وموت شباننا سهلاً. لسنا بحاجة للمزيد من مجازر الأطفال كي نثبت أننا ضحايا أو أن العدو متوحش. فحتى توحشه قد لا يثير العالم إن كنا انتحاريين إلى هذا الحد.