يطلق الناس عليه اسم مخيم الشهداء. وهو يقع بين مجموعة جميلة من التلال بين حقول الحمضيات قرب الحدود الإسرائيلية، مخيم اللاجئين هذا كان مقراً لعمليات الخدمات الاجتماعية والسياسية وتجنيد المقاتلين، كانت قد أسسته منظمة التحرير الفلسطينية، لكن، وعند بدء الاجتياح [عام 1982]، كان استهدافه بين أولويات القوات الإسرائيلية. في البداية طوقت الميليشيات التي تدعمها اسرائيل  المخيم محاصرة سكانه المدنيين في داخله، ثم وصلت قوة مؤلفة من نحو دزينتين من دبابات جيش الدفاع الإسرائيلي إلى الموقع. ووفقاً لشهود عيان، فتحت الدبابات الإسرائيلية نيرانها على المباني مستهدفة أدراجها الداخلية ـ وهي عادة ما تكون أضعف نقاط البناء ـ من أجل تدمير المخارج التي قد تستخدم في الهرب، والمساعدة على اختراق الطوابق السفلى وصولاً إلى ملاجئها تحت الأرض. قصف الدبابات هذا تلاه قصف جوي مكثف. إحدى القنابل سقطت على مبنى مركز اجتماعي، ومن بين 96 مدنياً كانوا يحتمون في داخله، لم ينج إلا شخصان منهم. الميليشيات الفلسطينية المتمركزة في المخيم صمدت في وجه الإسرائيليين لمدة ثلاثة أيام ونصف اليوم. في النهاية استخدمت قوات الدفاع الإسرائيلية الذخيرة الفوسفورية للقضاء عليهم. ويقول ناجون إنهم يتذكرون سحب الدخان الأبيض الذي تخلفه مكوناتها الكيماوية في الجو – إضافة إلى البقع السوداء التي تشبه الحفر التي تخلفها الحروق على جلد المواطنين. ووفقاً لوجهاء المخيم، لقد خلفت المعركة نحو 2600 قتيل من مجمل سكان المخيم الذي كان عددهم يبلغ 16 ألفاً

هذا الهجوم كان يمكنه أن يكون مشهداً من مشاهد الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، حيث تقوم قوات الدفاع الإسرائيلية باستخدام الدبابات والضربات الجوية والقذائف الفوسفورية (استناداً إلى الهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان) في هجماتها على المدن الفلسطينية ومخيمات اللاجئين، لكن تلك المعركة كانت قد جرت في الواقع خلال نزاع دارت أحداثه قبل 41 عاماً. الهجوم على مخيم البرج الشمالي، وهو الاسم السابق لما أصبح لاحقاً يعرف بمخيم الشهداء، كان من أولى معارك المدن التي خاضتها إسرائيل خلال اجتياحها لبنان عام 1982. الحرب كانت قد بدأت بعد قيام جماعة فلسطينية هامشية بمحاولة اغتيال سفير إسرائيل في المملكة المتحدة. وكان الهدف المباشر للاجتياح هو القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها المسلحة (ومن بينها حركة “فتح”، و”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”)، وجماعات فلسطينية مسلحة أخرى، لكن المسؤولين الإسرائيليين كانوا يسعون إلى أهداف أخرى. ففيما كانت القوات الإسرائيلية تستهدف المواقع المدنية والعسكرية الفلسطينية في جنوب لبنان، سعت القيادة الإسرائيلية إلى إرساء منطقة عازلة على طول الحدود المشتركة بين لبنان وإسرائيل، وإنهاء الوجود السوري في لبنان، إضافة إلى وضع حكومة صديقة مشكلة من اليمين المسيحي على رأس السلطة في بيروت.

إن أوجه الشبه بين الاجتياح الإسرائيلي للبنان [عام 1982] وعمليات الجيش الإسرائيلي في غزة اليوم، لا تقتصر على وجه العمليات التكتيكي. في تلك الفترة كما اليوم، بدأ الاجتياح بعد هجوم فلسطيني صادم. في تلك المرحلة كما اليوم، اختار صقور القيادة الإسرائيلية القيام برد يعتبر قاسياً إلى أبعد حد. في ذلك الأمس كما اليوم، يدور معظم القتال في مناطق حضرية مكتظة بالسكان، يتوزع فيها المسلحون بين المدنيين. في تلك الفترة كما اليوم، يلجأ جيش الدفاع الإسرائيلي إلى القوة المفرطة.

 

إن هذه المقارنة ليست مطمئنة كثيراً. فإذا كان يمكن للبنان أن يكون حالة نجري المقارنة معها، فإن حرب إسرائيل في غزة ستنتهي على نحو سيئ للجانبين الفلسطيني والإسرائيلي سواء على حد سواء. على رغم تفوقها العسكري، لم تنجح إسرائيل أبداً في استئصال منظمة التحرير الفلسطينية. بدلاً من ذلك، لم ينجح جيش الدفاع الإسرائيلي الأساس سوى في قتل عشرات آلاف المدنيين، وتفتيت الفصائل الفلسطينية لتتحول إلى خلايا أصغر تمضي سنواتها في شن عمليات كر وفر، وألهم ذلك نشوء حزب لبناني متشدد هو “حزب الله”، وأدى إلى خسارة إسرائيل أكثر من 1000 من مواطنيها في احتلال [لجنوب لبنان] استمر حتى عام 2000. يبدو أن هذا النمط يتكرر من جديد على مرأى منا. منذ الـ12 من نوفمبر (تشرين الثاني)، عندما أدى هجوم جيش الدفاع الإسرائيلي إلى قطع الاتصالات مع كثير من مستشفيات غزة، وكان ما لا يقل عن 11 ألف مدني فلسطيني قد قتلوا بسبب الاقتتال، وهذا رقم يتصاعد باضطراد. في هجوم “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) ارتكبت مجزرة راح ضحيتها 1200 إسرائيلي معظمهم من المدنيين، وادعت الحركة أن بعضاً من الرهائن وعددهم 240، وكانوا قد أخذوا أسرى خلال عملية الاختراق، قد قتلوا بسبب قصف جيش الدفاع الإسرائيلي، هذا وخسرت القوات الإسرائيلية 39 جندياً في الأقل في غزة أيضاً [حتى الآن].

وبعد كل ما رأيناه وسمعناه، من المستبعد أن تتمكن إسرائيل من التخلص تماماً من حركة “حماس” أو من “حركة الجهاد الإسلامي”. قد يسعها أن تقوض قوة الجماعتين إلى حد كبير، كما فعل جيش الدفاع الإسرائيلي في الماضي مع منظمة التحرير الفلسطينية، وكثير من الفصائل المسلحة الأخرى في 1982، ولكن هذه الجماعات ستعيد رص صفوفها، وستبصر الضوء تنظيمات أخرى لتملأ الفراغ، على نحو ما حصل مع الجماعات الإسلاموية منذ نهاية الثمانينيات. وما سيكتشفه صناع القرار الإسرائيليون، وهو أمر كان حري بهم أن يكونوا قد فهموه في الماضي، وهو ما كان يعرفه الخبراء في المنطقة منذ سنوات: أليس هناك حل عسكري للنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني.

فيتنام الإسرائيلية

لقد أقام اللاجئون الفلسطينيون في لبنان منذ نكبة عام 1948، عندما طرد أكثر من 700 ألف فلسطيني وأجبروا على الرحيل عن أرضهم على يد الجماعات المسلحة الصهيونية التي كانت تسعى إلى طرد العرب من الأراضي التي ستصبح إسرائيل.

ما بين 100 و130 ألفاً من هؤلاء اللاجئين هربوا إلى لبنان. هناك، أقام معظم الفلسطينيين ـ وبشكل موقت كما ظنوا ـ في المدن الساحلية اللبنانية. الأفقر من بينهم اتجهوا نحو مخيمات اللاجئين. القوانين اللبنانية منعت عن الفلسطينيين حق التملك، وحظرت عليهم مزاولة 72 مهنة مختلفة، كما لم تمنحهم حق الحصول على الجنسية، مما دفع بكثير من بينهم إلى براثن الفقر واعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية.

وفي عام 1969، وقعت السلطات اللبنانية والفلسطينية على اتفاق القاهرة، ونقلت الحكومة اللبنانية بموجب الاتفاق إدارة مخيمات اللاجئين من شعبة الاستخبارات اللبنانية، إلى منظمة التحرير الفلسطينية. وعكفت منظمة التحرير بعد ذلك، وعلى مدى سنوات، على تأسيس نظام حكم ضخم وجهاز للخدمات الاجتماعية في لبنان، ومن ضمنها تأسيس التشكيلات المسلحة. هذه الفصائل المسلحة، مثل حركة “فتح”، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، بنت دوراً للحضانة، ومستوصفات طبية، إضافة إلى تمويل إقامة جهاز للكشافة والفرق الراقصة. بموازاة ذلك أدار الفلسطينيون مخيمات تدريب عسكرية وقاموا بحملات تجنيد كبيرة خصوصاً في صفوف المهمشين من أهالي المخيمات، ومن أبناء المجتمع اللبناني، كما حولوا مناطق جنوب لبنان إلى قاعدة لإطلاق صواريخ “كاتيوشا”، وانطلاق هجمات الفلسطينيين القاتلة على المدن الإسرائيلية الشمالية. إسرائيل كانت ترد من خلال القصف المتكرر على المخيمات الفلسطينية والقرى الحدودية اللبنانية، إضافة إلى اعتمادها على عمليات الاغتيال وهجمات قوات النخبة “الكوماندوس”.

وجيش الدفاع الإسرائيلي كان قد شن أيضاً عمليات أكبر. ولم تكن عملية “سلامة الجليل” ـ وهذه هي التسمية الإسرائيلية لاجتياح 1982 ـ الاجتياح الأول في نوعه، إذ كان جيش الدفاع الإسرائيلي في الواقع قد اجتاح جنوب لبنان قبل أربع سنوات من عام 1982، في رد على عملية شنتها حركة “فتح” عبر الحدود واستولت خلالها على حافلة ركاب إسرائيلية أدت إلى مقتل العشرات من الإسرائيليين. كان اجتياح عام 1978 أصغر حجماً من اجتياح 1982، ولكن العملية أدت إلى تهجير أكثر من 285 ألف مواطن من جنوب لبنان وأدت إلى مقتل آلاف المواطنين اللبنانيين والفلسطينيين. وانتهت تلك العملية باعتماد قرارين دوليين دعت من خلالهما الأمم المتحدة إسرائيل إلى الانسحاب من لبنان، وتشكيل قوة موقتة للأمم المتحدة لتنفيذ القرارين، إضافة إلى التوصل إلى اتفاق على وقف لإطلاق النار بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، لكن ذلك لم يضعف حركة المسلحين الفلسطينيين.

عملية سلامة الجليل [السلام في الجليل] كانت قد صممت لتكون أوسع في نطاقها وأكثر حسماً من خطة اجتياح عام 1978. في البداية كان يفترض فيها أن تكون عملية سريعة. أصحاب القرار من الجيش والاستخبارات كانوا قد أعدوا في الأساس لمهمة تدوم 48 ساعة يستأصل خلالها جيش الدفاع الإسرائيلي بنية منظمة التحرير الفلسطينية التحتية، وتجمعات قواتها المسلحة ضمن نطاق منطقة حدودية عمقها 40 كيلومتراً قبل الانسحاب.

بعد الانتهاء من العمليات والتصريحات، من المستبعد أن تنجح إسرائيل في القضاء على حركة “حماس” و”الجهاد الإسلامي”.

لكن وبعد انطلاق الاجتياح في شهر يونيو (حزيران)، تأثرت عملية سلامة الجليل مباشرة ببطء عمليات التقدم وكثرة الآراء المطروحة [على مستوى القيادة الإسرائيلية]. رئيس أركان الجيش الإسرائيلي في حينه رافائيل إيتان، وأرييل شارون وزير الدفاع، كانا ينتهجان عدوانية خاصة، ويدفعان القوات العسكرية إلى التحرك إلى عمق الأراضي اللبنانية أكثر مدى مما كان مخططاً له. شارون، تماماً مثل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كان قد اتهم بشن الحرب خدمة لمصالحه السياسية الشخصية (استطلاعات الرأي المحلية الإسرائيلية تظهر دعماً ضئيلاً جداً لنتنياهو (اليوم)، الذي يواجه كذلك محاكمة بتهم الفساد وقد يطاح بعد انتهاء الحرب).

حكومة نتنياهو، شأن حكومة رئيس الوزراء مناحيم بيغين عام 1982، يسيطر عليها المتشددون الإسرائيليون، ولذلك تتخذ الحرب منحى عدوانياً. القوات الإسرائيلية تقاتل حالياً داخل أكبر مدن غزة، وأبرز أهداف الحكومة ـ اقتلاع “حماس” من جذورها ـ يشي بأنها لا تملك استراتيجية واضحة تحدد “كيف ومتى” يجب أن يتوقف القتال. في لبنان، كانت هناك كلفة جراء استراتيجية سياسة عدوانية مشابهة، وغير محددة، قد بلغت عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين وأدت إلى تدمير بنية البلد التحتية. شارون وإيتان وجها قوات الدفاع الإسرائيلية حتى بضرب حصار على مدينة بيروت خلال صيف 1982، ونتيجة لذلك قطعت المياه والغذاء والكهرباء وحركة النقل عن المواطنين في العاصمة البالغ عددهم في حينه نحو 620 ألفاً لمدة فاقت الشهر. إسرائيل في النهاية نجحت في إجبار “منظمة التحرير” الفلسطينية والفصائل المسلحة على الانسحاب من بيروت، ولكن بعد قتل 6775 من المقيمين في العاصمة اللبنانية، ومن بينهم 5 آلاف مدني.

أما اليوم فتقوم إسرائيل بضرب حصار محكم أكثر على غزة، وسيكون لذلك نتائج كارثية مشابهة كذلك، لكن لا يبدو أن القادة الإسرائيليين آبهون بالثمن الإنساني. وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت على سبيل المثل، أعلن أن بلاده تحارب “حيوانات بشرية” وهي ستتصرف بموجب ذلك. ويتردد في كلامه أصداء القائد إيتان، الذي كان قد تبجح في أبريل (نيسان) عام 1983، أنه “متى نجح الإسرائيليون باستيطان الأرض، كل ما سيكون بإمكان العرب القيام به هو الالتفاف حولها مثل صراصير مخدرة في قنينة”.

إن تقدير إيتان المثير للدهشة المجرد من الإنسانية يبرهن في جزء منه، لماذا واجهت قوات الدفاع الإسرائيلية هذا الحجم من المشكلات في جنوب لبنان. إن اقتناع الإسرائيليين بتفوقهم العسكري أدى بقادتهم العسكريين إلى العزوف عن تدريب القوات على أمثل وجه، أو أنهم لم يتوقعوا مواجهة هذه المقاومة الفلسطينية واللبنانية القوية.

والنتيجة أنه متى تحركت القوات الإسرائيلية شمالاً على خط الطريق الساحلي الذي يربط مدن لبنان الرئيسة، كانوا في أكثر من مرة متفاجئين بشراسة المقاومة التي واجهوها في المناطق المكتظة بالسكان من الفقراء الفلسطينيين والجماعات اللبنانية. حتى وبعد انهيار عديد من وحدات جيش التحرير الفلسطيني، وهرب قادة المجاميع المسلحة تحت وطأة نيران جيش الدفاع الإسرائيلي، قامت الميليشيات على مستوى مخيمات اللاجئين، التي كانت مولجة حماية المدنيين في أماكن إقامتهم، ونجح هؤلاء وبشكل منفرد بوقف تقدم القوات الإسرائيلية لأيام من خلال استنزافها في حرب شوارع، وتفجير الدبابات وقتل عديد من الضباط الإسرائيليين.

تخيلوا للحظة مثلاً، معركة جيش الدفاع الإسرائيلي للسيطرة على مخيم عين الحلوة، وهو مخيم للاجئين يقع في مدينة صيدا. طوال أسبوع كامل نجحت مجموعات صغيرة من الميليشيات الفلسطينية بإحباط سيطرة القوات الإسرائيلية على المخيم من خلال تحركها في الأزقة الملتوية، والتمركز في داخل المباني، وأنفاق تحت الأرض، قبل نصب الأكمنة للقوات الإسرائيلية. لقد تمكنوا من تفجير ناقلات الجند الإسرائيلية المدرعة والدبابات من خلال استخدام أسلحة خفيفة فقط. في الأقل، ذاع صيت شاب فلسطيني واحد لقدرته على ضرب أبراج الدبابات الإسرائيلية عند نقطة (الضعف) الصحيحة بواسطة السلاح المضاد للدبابات، مدمراً من خلال ذلك مفاصل الدبابة مما يؤدي إلى تعطيلها وكشف غطاء الجنود الموجودين بداخلها. ألحق القتال في المخيم أذى ضخماً بالإسرائيليين إلى حد حمل قوات الدفاع الإسرائيلية على الانسحاب منه ليلاً من أجل سلامة الجنود، مضحين بسبب ذلك بالمكاسب التي كانوا قد حققوها خلال ساعات النهار. في النهاية لجأت قوات جيش الدفاع الإسرائيلي إلى قصف المخيم بالذخائر التقليدية، والأسلحة الحارقة، ومن ضمنها القذائف الفوسفورية من أجل السيطرة عليه، والقيام بتسوية منازله بالأرض لمواصلة الزحف شمالاً.

القتال البري لم يكن وحده الطريقة التي حاولت من خلالها إسرائيل التخلص من المقاومة. لقد لجأت قياداتها العسكرية إلى عمليات الاعتقال الواسعة، إذ أوقفت 9064 رجلاً فلسطينياً ولبنانياً في معتقل واحد في عام 1982 وحده، لكن ذلك خلف كذلك انعكاسات سلبية على جيش الدفاع الإسرائيلي. فبعد تعرضهم للتحقيقات والتعذيب، نظم المعتقلون، وجلهم لم يكونوا من المسلحين ـ محاولات تمرد وهرب. كثير منهم ممن كانوا من المقاتلين السابقين عادوا إلى جماعاتهم المقاتلة السابقة وواصلوا المعارك. وكانت عمليات الاعتقال الواسعة التي أجرتها القوات الإسرائيلية وتدمير مخيمات اللاجئين قد أدت إلى ترك مجموعات كبيرة جداً من النساء والأطفال والشيوخ الفلسطينيين في العراء، ولم يعد جيش الدفاع العدة لتقديم المساعدة لهم ـ وهؤلاء تحولوا إلى أقوى المنتقدين لجيش الدفاع الإسرائيلي. على سبيل المثال، قادت مجموعة نسائية فلسطينية في مخيم عين الحلوة حركة احتجاجية اتصلن من خلالها بالهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان، والشبكات الإعلامية والأمم المتحدة في محاولة ناجحة للفت الأنظار إلى معاناتهم. لقد نظمن التظاهرات، وأغلقن الطرقات، وأحرقن بشكل رمزي الخيام غير المناسبة التي وفرتها لهم الأمم المتحدة، وكلها كانت أعمال نقلتها وسائل الإعلام ونشطاء حقوق الإنسان. وتلطخت جراء ذلك سمعة إسرائيل الدولية وتقلت ضربة جديدة على رغم أنها كانت تعاني ذلك في الأصل.

سمعة إسرائيل اليوم ليست بأفضل حال. فبعد تدفق التعاطف الذي تلا مباشرة هجمات حركة “حماس” العنيفة، تركزت القصص الإخبارية التي تغطي النزاع أخيراً على نقل أنباء المذابح التي يتسبب بها جيش الدفاع الإسرائيلي في غزة. الإعلام الدولي نقل أخباراً عن عنف ميليشيات المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية أيضاً. ووفقاً لتقارير في صحيفة “نيويورك تايمز”، وصحيفة “واشنطن بوست”، ووكالة “رويترز” للأنباء، ومنظمات حقوق الإنسان، فقد أودى المستوطنون بحياة ثمانية فلسطينيين منذ السابع من أكتوبر من ضمنهم طفل. جيش الدفاع الإسرائيلي الذي يقوم بحماية المستوطنين من جهته قتل في الأقل 167 فلسطينياً آخرين، من بينهم 45 طفلاً. إضافة إلى قتلهم، لجأ المستوطنون إلى حرق ممتلكات الفلسطينيين عمداً، واعتدوا عليهم تحت تهديد السلاح، وهددوهم بالقتل للعمل على تهجير 1000 منهم من قراهم. هذه الاعتداءات تشبه إلى حد بعيد أعمال العنف التي كانت قد ارتكبتها الميليشيات اليمينية اللبنانية في عامي 1982 و1983، والتي هددت وطردت الفلسطينيين من مدينة صيدا، مرة أخرى تحت أعين جيش الدفاع الإسرائيلي.

في الواقع، إن تحالف جيش الدفاع مع الميليشيات [اللبنانية] أدى إلى إحدى أسوأ المجازر التي اشتهرت بها عملية سلامة الجليل في وقت لاحق. فبعدما قتلت متفجرة حليف إسرائيل، الرئيس اللبناني المنتخب بشير الجميل، في سبتمبر (أيلول) 1982، احتل جيش الدفاع الإسرائيلي المناطق الغربية في العاصمة اللبنانية بيروت، وطوق مخيمي صبرا وشاتيلا. الجيش الإسرائيلي عمل بعد ذلك على منع الفلسطينيين من الدخول والخروج من المخيم أو من الأحياء المجاورة، لكن الإسرائيليين سمحوا في المقابل لعناصر الميليشيات المسيحية الحليفة بالوصول إلى المنطقة. وعلى مدى يومين كاملين، أطلقت عناصر تلك الميليشيات العنان لها في القطاع المحيط بمخيمي صبرا وشاتيلا، وقتلوا نحو 2000 مدني فلسطيني، كما ارتكبوا مجموعة من الانتهاكات من بينها التعذيب والعنف الجنسي، هذا تزامناً مع قيام جيش الدفاع الإسرائيلي بقصف المنطقة وتوفير إنارتها بقنابله المضيئة ليلاً.

أثارت المجزرة غضباً عارماً بين الناس حول العالم، بما في ذلك في إسرائيل. وتشير التقديرات إلى أن نحو 350 ألف إسرائيلي تقريباً شاركوا بتظاهرات احتجاجية واسعة تدعو إلى استقالة كل من (رئيس الوزراء في حينه مناحيم) بيغين، و(وزير دفاعه أرييل) شارون، مما دفع الحكومة إلى فتح تحقيق عام في ظروف مذبحة صبرا وشاتيلا. وخلصت لجنة كاهان التي أنشئت للتحقيق، إلى أن وزير الدفاع شارون كان مسؤولاً بشكل شخصي عن العنف الذي وقع، واعتبرت تصرفات رئيس الأركان رافائييل إيتان “بمثابة انتهاك لواجباته”. واضطر شارون بسبب ذلك إلى الاستقالة، كما اضطر إيتان إلى التقاعد، وذلك في عام 1983. من ناحيته استقال بيغين كرئيس للحكومة في وقت لاحق من ذلك العام أيضاً.

ما بين الماضي والحاضر

المفاوضات (لوقف) حرب 1982، والتي قام بجزء منها المبعوث الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط في حينه فيليب حبيب، استمرت طوال ذلك الصيف. في أغسطس (آب) من ذلك العام، كانت الأطراف قد وافقت على وقف لإطلاق النار. ووفقاً لشروطه، نص الاتفاق على إجلاء 14398 شخصاً في الإجمال من لبنان، هم أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية وعناصر الميليشيات المختلفة، هذا ووافقت القوات السورية والإسرائيلية على الانسحاب من بيروت أيضاً. وتم تشكيل بعثة لقوات حفظ السلام مؤلفة من قوات من المملكة المتحدة، وفرنسا، وإيطاليا، والولايات المتحدة، وأنشئت في شهر أغسطس نفسه لتسهيل عمليات الإجلاء، وحماية المدنيين الفلسطينيين، والمساهمة في وقف إطلاق النار. ونقلت منظمة التحرير الفلسطينية وحركة “فتح” مقرها العام إلى دولة تونس، فيما توزعت باقي الفصائل الفلسطينية على مواقع في الدول العربية المختلفة. مجزرة صبرا وشاتيلا وقعت بعد أقل من شهر [من موعد التوصل للاتفاق].

كانت مجزرة [صبرا وشاتيلا]، واحدة من كثير من المؤشرات على أن هزيمة منظمة التحرير الفلسطينية لم تشكل نهاية لتلك الحرب، كما لم يؤد ذلك إلى القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية. على رغم أن إسرائيل قد قتلت كثيراً من قادة تلك الميليشيات، ومنعت منظمة التحرير من إقامة قواعد لها في لبنان، نجحت المنظمة في إعادة تجميع نفسها في تونس. من ناحيتها، واصلت إسرائيل احتلالها معظم أراضي جنوب لبنان، ونجح أفراد الميليشيات الذين كانوا قد نجوا من عملية سلامة الجليل في إعادة تشكيل خلايا جديدة وتشكيلات عسكرية واصلت عمليات قتال إسرائيل. تلك الجماعات التي كانت تتحرك بغياب أي سلسلة قيادة وسيطرة رسمية، برهنت عن قدرات على شن هجمات عنيفة، وأخرى مثيرة للفوضى ضد قوات الاحتلال الإسرائيلية، مستهدفة أيضاً المتعاونين مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، هذا وكانت تلك الجماعات تتحرك أيضاً في بيئة بدأت تؤثر فيها فصائل مقاومة لبنانية لقوات الاحتلال الإسرائيلي، ومن ضمنها جماعة حزب الله ـ التي كان قد تم تأسيسها من أجل طرد المحتل الإسرائيلي ـ إضافة إلى فصائل يسارية مثل الحزب الشيوعي اللبناني. بشكل جماعي، برهنت تلك الجماعات على أنها رقم صعب يتعذر إلحاق الهزيمة به. بعد ذلك احتلت القوات الإسرائيلية أجزاء من لبنان لمدة 18 عاماً أخرى، وعكفت على شن الهجمة تلو الأخرى، وعملية الاعتقال تلو الأخرى، ولكن وعلى رغم كل قدراتها ـ من غارات جوية، ونشاط عملاء الاستخبارات، والدوريات المؤللة وعمليات قوات النخبة ـ لم ينجح جيش الدفاع الإسرائيلي بالتخلص من أعدائه.

إن أي مخارج لحرب غزة ستعتمد على المفاوضات التي ستتركز على أمور مختلفة عن المواضيع التي سادت إبان اجتياح لبنان. فلبنان دولة ذات سيادة لديه حكومته، وشعبه واقتصاده، وظروفه الداخلية المعقدة الخاصة (أدت استضافة لبنان لمنظمة التحرير الفلسطينية ومجموعاتها المسلحة إلى شرخ على مستوى السياسة المحلية اللبنانية، التي أسهمت بتأجيج حرب البلاد الأهلية التي استمرت 15 عاماً)، أما في ما يتعلق بغزة اليوم، فهي أراض فلسطينية تقول المنظمات الدولية وجماعات حقوق الإنسان إن إسرائيل قد احتلتها، كما تقوم إسرائيل منذ 16 عاماً إضافة إلى مصر بفرض حصار عليها. وتفتقر غزة إلى اقتصاد يعتمد على قدراته الذاتية، كما تفتقر إلى بنية تحتية خاصة توفر الماء والكهرباء في القطاع.

لكن الدروس العسكرية والإنسانية التي يمكن استقاؤها من لبنان تشير بقوة إلى أن الأوضاع الكارثية الحالية في غزة من شأنها أن تتعاظم وتتفاقم، وأنها ستخلف انعكاسات كارثية على المدى البعيد لجميع الفرقاء. إن الموقف الإسرائيلي الراسخ ونهجها خوض حروب شوارع، وخططها لاحتلال أراضي القطاع (كما كان نتنياهو قد قال إن إسرائيل ستتولى “المسؤولية الأمنية الكاملة” في غزة و”لمدة غير محددة من الزمن”)، إضافة إلى تحالفاتها مع جماعات غير حكومية، واستخدامها سلاح الاعتقالات بشكل كبير، كلها أمور تذكر بما كان قد جرى في لبنان. لكل تلك الأسباب من الصعب تخيل أن تكون نتائج حرب غزة مختلفة إلى درجة كبيرة.

وهذا ينطبق أيضاً على حصيلة القتلى. فلا أحد يعلم بشكل دقيق كم كان عدد الذين قضوا في الاجتياح وحرب عام 1982. السجلات الرسمية لا تحصي الذين دفنوا تحت الأنقاض، أو أولئك الذين دفنهم ذووهم في باحات منازلهم أو على التلال، أو من اختفى خلال أحداث مثل مجزرة صبرا وشاتيلا، لكن وفق تقديرات وضعتها الحكومة اللبنانية وإدارات المستشفيات، فقد قتلت عملية سلامة الجليل 19085 لبنانياً وفلسطينياً خلال الأشهر الأربعة التي تلت بدايتها، و80 في المئة منهم كانوا مدنيين. “منظمة التحرير” الفلسطينية من ناحيتها تقدر الخسائر في تلك الحرب بـ49600 مدني، سقطوا بين قتيل وجريح فيما بلغت الخسائر العسكرية 5300 قتيل. في الأشهر الأربعة نفسها عام 1982 خسرت إسرائيل 364 جندياً في المعارك، فيما أصيب 2388 عسكرياً آخرين. وخلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان واحتلالها المناطق الجنوبية فيه، والتي امتدت من عام 1982 وصولاً إلى عام 2000، سجل مقتل 1216 جندياً إسرائيلياً معظمهم في مواجهات مع “حزب الله”.

عدد الإصابات في صفوف الفلسطينيين، بالطبع، هو أكبر بكثير من الإصابات في صفوف الإسرائيليين ـ وذلك هو دليل آخر على مدى عدم تكافؤ الرد والتكتيك الإسرائيلي، وذلك لا يعني أن مجموع الإصابات الإسرائيلية غير ذي أهمية. إن الضرر الذي كان قد لحق بإسرائيل هو حقيقي للغاية، وهو يمتد إلى أبعد من مجرد عدد القتلى والإصابات الجسدية. ففي دراسة أعدها مركز الصدمات والصمود، قدر المركز أن نحو 20 في المئة من نحو 70 ألف إسرائيلي كانوا قد خدموا في اجتياح 1982 للبنان، قد أظهروا أعراضاً عن آثار ضغوط ما بعد الصدمة، و11 في المئة منهم فقط لجأوا إلى العلاج. لذا، يشار إلى لبنان على أنه كان بمثابة “فيتنام إسرائيل”.

على رغم التداعيات المتوقعة الناجمة عما يجري حالياً، لم تظهر إسرائيل استعداداً لمناقشة إمكانية وقف إطلاق النار، مدعية بأن من شأن ذلك أن يعتبر نصراً لحركة “حماس”، ولكن ذلك أمر مضلل. إن الرابح الحقيقي من أي وقف لإطلاق النار سيكون المدنيين، والحركات المجتمعية غير العنيفة، وعديد منها كثيراً ما طالبت ومنذ زمن طويل بإنهاء كل من الاحتلال، والحصار، وحركة الاستيطان الإسرائيلي غير الشرعية، والاعتراف بالمساواة للفلسطينيين، كأساس بالنسبة إلى أمن كل من إسرائيل وفلسطين. والخاسر من أي توصل لوقف لإطلاق النار في المقارنة ستكون حركة “حماس” والمتشددين الإسرائيليين، والاثنان معا يعتمدان على نوع من العنف الشديد ـ على رغم كون أحد الطرفين يستفيد من دعم قوة الدولة العسكرية ونظام مراقبة واسع للغاية ـ من أجل تحقيق غاياتهما. بعض المتطرفين الإسرائيليين مثلاً، كانوا قد دعوا بشكل علني إلى تطهير غزة من الفلسطينيين، أو طرد الغزاويين إلى مصر. أي من الحلين لا يمكن تحقيقه من دون إطلاق الرصاص.

نتيجة الثقة بتفوقهم، لم يجر القادة العسكريون الإسرائيليون ما يكفي من التدريبات 

بالأخذ بمستويات التوتر المرتفعة القائمة حالياً، من الصعب القول كيف ومتى قد يمكن أن تنتهي هذه الحرب. دولة قطر أصبحت وبشكل متزايد الدولة الوسيطة الأساسية بين الطرفين في هذا النزاع، في مساعيها إلى عقد صفقة بين حركة “حماس” وإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، لكن واشنطن هي الطرف الوحيد القادر على الضغط بفعالية على الحكومة الإسرائيلية لوقف عمليات القتل الواسعة التي تجري في غزة والعنف المستمر في الضفة الغربية [من قبل المستوطنين]. وعلينا الانتظار كي نرى إذا نجحت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، وإن كانت ستتمكن من القيام بذلك. حتى الآن، لقد رفض الرئيس بايدن بحزم أن ينفذ تلك المطالب مردداً أصداء ما تدعيه إسرائيل بأن من شأن أي وقف لإطلاق النار أن يصب في مصلحة حركة “حماس”. المسؤولون الأميركيون نجحوا في دفع إسرائيل إلى قبول عدد من “الوقفات الإنسانية” تدوم الواحدة منها أربع ساعات للسماح بوصول المساعدات. وإذا أخذنا في الاعتبار حجم المساعدات المطلوب، وشراسة الاعتداءات، ليس من شأن تلك الوقفات أن تؤثر إلا بشكل محدود في الوضع الإنساني للمدنيين في غزة، لكن الأمل يتركز على أن يضع بايدن في النهاية حداً فعلياً لهذه الحرب.

إن فعل بايدن ذلك، فقد يتبع بذلك تقليداً أرساه رئيس آخر للولايات المتحدة الأميركية هو رونالد ريغان. فعندما كان [الاجتياح] والحرب في لبنان قد بدأ، انقسمت إدارة ريغان بين مسؤولين يريدون مطالبة إسرائيل بالانسحاب الفوري تحت طائلة فرض العقوبات، فيما شعر آخرون بأن منظمة التحرير الفلسطينية وسوريا عليهما أن تجبرا على الانسحاب من لبنان أيضا، ولكن وفيما تطور النزاع ليتحول كارثة إنسانية، اعتمد الرئيس ريغان خطاباً أكثر انتقاداً. في يوليو (تموز) 1982، أوقف البيت الأبيض شحنات من القنابل العنقودية كانت متجهة إلى إسرائيل، معلناً أن إسرائيل قد خرقت اتفاق توريد الأسلحة الموقع الذي يمنع استخدام [تلك الذخائر] في المناطق المأهولة بالسكان. وبعد موجة من القصف العنيف بشكل خاص، قام بها جيش الدفاع الإسرائيلي على بيروت المحاصرة، اتصل ريغان برئيس الحكومة الإسرائيلي بيغين وطلب منه أن يوقف الجيش الإسرائيلي قصفه. واختار في سبيل ذلك استخدام عبارات عاطفية. وقال ريغان: “نحن نرى هنا على شاشاتنا ليلة تلو الليلة شعبنا وهو يتابع أشكال هذه الحرب، وهي بمثابة محرقة”. في شهر أبريل من عام 1983، أعلن ريغان أن إدارته قد أوقفت بيع طائرات “أف 16” القتالية لإسرائيل. وقال إن تلك المبيعات لن تستأنف قبل انسحاب دولة إسرائيل من لبنان.

إن هناك أدلة تشير إلى أن مطالب الإدارة الأميركية قد أجبرت صناع القرار الإسرائيليين على تغيير تصرفاتهم. في يوليو 1982، كانت صحيفة “واشنطن بوست” قد تناولت موضوعاً عن الاعتدال “الصادم” في تصرفات الحكومة الإسرائيلية ـ واستشهدت بأن الرئيس ريغان كان السبب الأساس وراء ذلك. “الإعلام الإسرائيلي كان قد نقل بأن العامل الأساس في “المرونة” التي تنتهجها حكومة بيغين وراءها رسالة حادة تلقاها من الرئيس ريغان في الأسبوع الماضي”، بحسب ما جاء في مقال الصحيفة.

واليوم، على بايدن من جديد أن يستخدم نفوذ الولايات المتحدة للضغط في اتجاه إنهاء حرب إسرائيلية أخرى. إن الاتفاق على وقف إطلاق النار هو السياسة الوحيدة المنطقية سياسياً، والتي تدعم الوضع الأمني، والمسار الأخلاقي السوي الذي يجب اتباعه، خصوصاً إذا كان لدى واشنطن أي أمل في البقاء كلاعب محترم في الشرق الأوسط. البديل عن ذلك هو أن نحكم على أهل غزة ـ ومعظمهم يعارضون “حماس” ـ بتحمل مزيد من القنابل والطلقات والحروق، وذلك يعني أنه سيحكم على أهل غزة بمزيد من العطش، والجوع، والأمراض. إن ما يجري من شأنه فقط أن يزيد من معاناة قطاع محروم وفيه كثافة سكانية ضخمة، وتأخير أي أمل بتغيير الوضع فيه لعقود إضافية. إن استمرار ما يجري من شأنه خلق جيل جديد من المتشددين الذين سيضحون بحياتهم من أجل قتال إسرائيل. “كل هذا سبق أن رأيناه  من قبل” [نعرف مآله]، وهذه العبارة هي أقوى حجة دامغة في المتناول لوقف ما يجري والحيلولة دون أن يقع ذلك من جديد.

*سارة إي باركينسون، هي أستاذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية المساعدة في معهد أرونسون في جامعة جون هوبكينز. هي مؤلفة كتاب: ما وراء الخطوط: الشبكات الاجتماعية والمنظمات الفلسطينية المقاتلة في زمن الحرب بلبنان

مترجم من فورين أفيرز، 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2023