حدّد وزير خارجية إيران عباس عراقجي تصنيفات متعدّدة لأنواع التفاوض في كتابه “قوّة التفاوض”. لربّما قصد من توقيعه النسخة العربية للكتاب في بيروت ترك بعض مفاوضيه اللبنانيين في حيرة حيال أيّ منها يعتمد بعلاقته معهم. فالكتاب يتحدّث عن 9 أنواع من التفاوض، لكلّ منها وظيفته.
هل حضر إلى لبنان لاستخدام منبره الإعلامي بهدف “خفض الضغوط” أم “لشراء الوقت” أم لتأكيد “مكانة” طهران في بلاد الأرز؟ مع إشاعته أجواءً تُنبئ بمراجعة طهران علاقاتها العربية بهدف ترميمها.
يبدو أنّ أبرز الحوارات التي أجراها عباس عراقجي خلال زيارته لبنان هو النقاش بينه وبين نظيره اللبناني يوسف رجّي. في لقاءاته مع رؤساء الجمهورية العماد جوزف عون، البرلمان نبيه برّي والحكومة نوّاف سلام أثار مواضيع متقاطعة، لكنّه ركّز مع كلّ منهم على أحدها.
أوّل لقاء إيرانيّ مع “القوّات اللّبنانيّة”
مع الرئيس عون تناول حصريّة السلاح معلناً دعمه الدولة اللبنانية وخياراتها الدبلوماسية، مؤكّداً أنّه شأن لبناني داخلي. ومع برّي تركّز البحث على إعادة الإعمار والتغييرات في المنطقة، ومع سلام كان الأبرز طلبه العودة عن قرار حظر نزول الطائرات الإيرانية في مطار بيروت، فردّ الأخير بأنّ أسباباً أمنيّة تقف وراءه. كان نقاشه مع الوزير يوسف رجّي الأطول، إذ امتدّ ساعة ظهر خلالها الخلاف بأسلوب دبلوماسي اعتمده الجانبان، “بصراحة ولطف”. تكمن أهمّية الاجتماع أنّها المرّة الأولى التي يلتقي فيها مسؤولٌ إيرانيٌّ بمستوى عراقجي ، شخصيّة تمثّل حزب “القوّات اللبنانية”، المصنّفة متشدّدة حيال إيران و”الحزب”، ولو أنّ لها صفة حكوميّة. بدا أنّ الزائر الإيراني جسّ النبض اللبناني بافتتاح لقاءاته مع رجّي ممهّداً لدعوته إلى “فتح صفحة جديدة” تشمل استعداد طهران لتطوير العلاقات بالمساهمة في إعادة الإعمار وتعزيز العلاقات التجارية إلى أقصى الحدود. من جهته أبدى رجّي انفتاحاً على “كلّ ما تريدونه لكنّك تعلم أنّ المشكلة معكم هي تدخّلكم في شؤوننا الداخلية وعلاقتنا تحتاج إلى حصرها من دولة إلى دولة بدل علاقتكم بفريق”. أمّا مع الأمين العامّ لـ”الحزب” الشيخ نعيم قاسم فتناول موقع طهران ولبنان من التغييرات الإقليمية والمفاوضات مع أميركا في الملفّ النووي، الذي أخذ حيّزاً أوسع من لقاءاته مع رجال السلطة.
أبرز الحوارات التي أجراها عباس عراقجي خلال زيارته لبنان هو النقاش بينه وبين نظيره اللبناني يوسف رجّي
التّأقلم مع التّغييرات والتّنصّل من قرار الحلفاء
من عناوين محادثات عراقجي يمكن ذكر بعض ما حملته من دلالات:
بادر الوزير الإيراني إلى الإقرار بأنّ تغييرات كبرى حصلت في المنطقة تعمل إيران على التأقلم معها، وبأنّ هذا ينطبق على لبنان. وفق من التقوه، حرص على أن يترك انطباعاً بأنّ القيادة الإيرانية تدرك جدّية التغييرات الإقليمية، وأهميّة التغيير من قبلها لمواكبتها. صبّ هذا التوجّه، ولو نظريّاً، لمصلحة رئيس الحكومة في سجاله مع الحاملين عليه بعد قوله إنّ عصر تصدير الثورة الإيرانية انتهى. من انعكاسات “التغيير” الإيراني تأكيده أنّ العلاقات هي من دولة إلى دولة وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية. لكن بقدر ما يشكّل ذلك تلبية لمطلب “سياديّ”، فإنّه الوجه الآخر للتنصّل من دور بلاده مع “الحزب” لتطبيق مبدأ حصريّة السلاح بيد الدولة، الذي أيّده بعد لقائه عون. بتبنّيه شعار عدم التدخّل في الشؤون الداخلية يتفادى الطلب من “الحزب” أن ينخرط في نزع سلاحه شمال الليطاني. جدّد تأكيد ما كان أعلنه في القاهرة قبل مجيئه إلى بيروت في شأن العلاقة مع “حماس” والحوثيين و”الحزب”، وهو أنّ طهران لا تملي على حلفائها الموقف وتترك القرار لهم.
بادر الوزير الإيراني إلى الإقرار بأنّ تغييرات كبرى حصلت في المنطقة تعمل إيران على التأقلم معها، وبأنّ هذا ينطبق على لبنان
للمقاومة دورها… والسّلاح للحوار
قبل أن يعلن من القصر الرئاسي دعم بلاده جهود لبنان الدبلوماسية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، كان رجّي طالبه بأن تساعد إيران على المستوى الدبلوماسي في دعم مطلب لبنان انسحاب إسرائيل من أراضيه المحتلّة. أبدى عراقجي استعداده لذلك، على الرغم من أنّه “ليس مقتنعاً بأنّ الوسائل الدبلوماسية كافية”. رأى أنّه ما يزال للمقاومة دورها في تحقيق إنجاز في هذا الشأن. كرّر رجّي الحجّة القائلة بأنّ المغامرات العسكرية جاءت بحصيلة كارثية، لأنّها لم تحقّق إسناداً لغزّة، وتسبّبت بضرب قدرات “الحزب” وبدمار في لبنان. اتّفق الجانبان على أنّ هذا العنوان موضوع خلاف، واقترح رجّي مواصلة الحوار في شأنه في لقاءات مقبلة.
لا بحث بغير النّوويّ مع أميركا
كرّر عراقجي أمام الرؤساء ونظيره أنّ علاقة إيران مع الدول العربية، ولا سيما السعودية، على أحسن ما يرام وفي تطوّر مستمرّ من باب ضرورة تعاون دول المنطقة.
حين سئل عن وضعيّة المفاوضات مع أميركا في الشأن النوويّ أكّد أنّها تتقدّم. وعندما استفسر منه رجّي عن تناولها مواضيع أخرى غير النووي، أكّد أنّها محصورة بهذا الملفّ. وليس خافياً على أحد أنّ معالجة مسألة سلاح “الحزب” تتوقّف على نتائج مفاوضات طهران مع واشنطن، الأمر الذي لم تتناوله المفاوضات، حتّى إشعار آخر.
كرّر عراقجي أمام الرؤساء ونظيره أنّ علاقة إيران مع الدول العربية، ولا سيما السعودية، على أحسن ما يرام وفي تطوّر مستمرّ
شراء الوقت… ومن يتعب أوّلاً
يصعب تجاهل خلفيّات محادثات عراقجي وفصلها عن استعراضه في بيروت فحوى كتابه “قوّة التفاوض”، الذي حدّد أنواعه كالآتي:
“التفاوض لحلّ الخلاف، التفاوض لمواجهة الضغوط الداخلية والخارجية، التفاوض الوقائي، التفاوض من أجل الوساطة، التفاوض لأجل التفاوض، وأسباب هذا الأخير عديدة، منها شراء الوقت، خفض الضغوط، لعبة إلقاء اللوم، كسب المعلومات، تأكيد المكانة والاعتبار الدولي لهذه الوحدة السياسية أو تلك”.
يقول عراقجي عن أسلوب التفاوض بأنّه “أسلوب تجّار البازار… أو أسلوب مساومة تاجر السجّاد بعملية تفاعل “تحتاج إلى صبر كبير ووقت وثمن ضخم، وخلالها من يتعب أوّلاً ويملّ سيكون الخاسر”.
يستدلّ عراقجي على أهمّية فنّ التفاوض بتغريدة لوزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف بعد توقيع اتّفاق 2015 النووي، قال فيها إنّ “فنّ الدبلوماسي يكمن في أن يخفي دهاءه كلّه خلف ابتسامته”.
إقرأ أيضاً: التّمسّك بالسّلاح… تمسّك بالاحتلال