مفاوضات تبادل الأسرى في دائرة مغلقة، وكلّ الاتّفاقات الجزئية السابقة واللاحقة، ليست دليلاً على تقدُّم ما نحو إنهاء مأساة سكّان قطاع غزّة، بل على العكس، هي الطريق التدريجي إلى الطرد الكامل للسكّان، وجرف القطاع بأكمله، وفق برنامج إسرائيليّ محدّد ومعلن: جمع الغزّيّين في معسكر اعتقال واحد، تصل إليه الإغاثة الغذائية حصراً، وكلّ شخص خارجه محكوم عليه بالموت إمّا قتلاً أو جوعاً.
بعد أسابيع قليلة من هزيمة الجيوش العربية عام 1967، ومضاعفة مساحة الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل ثلاث مرّات تقريباً، شكّل رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك ليفي إشكول (توفّي عام 1969) فريقاً من الأكاديميين من أجل إيجاد سُبُل تشجيع الفلسطينيين على الهجرة من الأراضي المحتلّة حديثاً. ووفقاً لوثائق كشف عنها الباحث الإسرائيلي عمري شافر رافيف، فقد ضمّت اللجنة، عالم الاجتماع الإسرائيلي البارز شموئيل نوح آيزنشتات، والاقتصادي مايكل برونو، والديمغرافي روبرتو باكي، وعالم الرياضيّات أرييه دفوريتسكي، وجميعهم على صلة بأروقة السلطة. كان الهدف نظريّاً من “لجنة تطوير الأراضي الخاضعة للإدارة الإسرائيلية”، المعروفة باسم “لجنة الأساتذة”، إنشاء هيئة مسؤولة عن “التخطيط الطويل الأمد” في الأراضي المحتلّة، وإجراء مقابلات مع الفلسطينيين عن حياتهم واحتياجاتهم ورغباتهم. أمّا الهدف الثاني، كما يقول رافيف، فكان فهماً أفضل لفلسطينيّي الأراضي المحتلّة بما يضمن عدم مقاومتهم للنظام العسكري الذي فرضته عليهم إسرائيل، علاوة على تشجيعهم على الرحيل بالطرائق المناسبة.
مفاوضات تبادل الأسرى في دائرة مغلقة، وكلّ الاتّفاقات الجزئية السابقة واللاحقة، ليست دليلاً على تقدُّم ما نحو إنهاء مأساة سكّان قطاع غزّة، بل على العكس
لذا أوّل من فكّر في ترحيل الفلسطينيين من وطنهم ليس اليمين المتطرّف بل حزب “ماباي”، واسمه الكامل “حزب عمّال أرض إسرائيل”. وقد تأسّس عام 1930، وبن غوريون (توفّي عام 1973)، هو زعيمه التاريخي. واستمرّ الحزب في تشكيل الحكومات حتّى عهد ليفي إشكول (توفّي عام 1969)، عندما تحوّل بعد إعادة تشكيله إلى حزب العمل.
لقد اكتشف الباحث عمري رافيف، منذ أكثر من 10 سنوات، في الأرشيف السرّي للجيش الإسرائيلي مجموعة وثائق مهمّة عن الخطط والآراء المتضاربة في تلك الحقبة. لكنّ المفاجأة أنّ إسرائيل آنذاك كانت تعتبر تهجير الفلسطينيين من القطاع هي الأولويّة قبل الضفّة الغربية، من أجل ضمّ القطاع. فكيف انقلبت الأولويّات، ولماذا لم ينجح اليسار الإسرائيلي في مشروع الترحيل؟
قدّمت حكومة إشكول عام 1967 حوافز للأُسر والأفراد تشجيعاً لهم على الهجرة من غزّة، مع الإبقاء على مستوى معيشة منخفض في القطاع ومعدّل بطالة مرتفع، إمّا إلى الضفّة الغربية وإمّا إلى خارج فلسطين. وبعد تقليل عدد السكّان، وكان آنذاك حوالى 350 ألفاً فقط، ونصفهم من لاجئي عام 1948، يُضمّ قطاع غزّة إلى إسرائيل. وضمن هذا المخطّط، أجرت الحكومة الإسرائيلية محادثات سرّيّة مع دول أخرى لنقل سكّان قطاع غزّة إليها، تماماً كما يجري الآن. وكان مفترضاً بعد ذلك أن تنقل إسرائيل أعداداً كبيرةً من سكّان قطاع غزّة بالحافلات إلى مطار قريب يُبنى لهذه الغاية. الفرق بين مخطّط إشكول وخطّة نتنياهو، أنّ الأوّل استخدم الأدوات الاقتصادية الناعمة، وفشل في نهاية الأمر، فيما يستعمل الثاني العنف المفرط والتجويع والإبادة المنهجيّة لفئات محدّدة من المجتمع، أي النخبة المتعلّمة، من أطبّاء ومهندسين وصحافيين ودعاة، إضافة إلى القيادات السياسية والعسكرية والأمنيّة والإدارية للمقاومة الفلسطينية، ويحاول تنفيذ ما فشل فيه قادة اليسار قبل عقود.
أوّل من فكّر في ترحيل الفلسطينيين من وطنهم ليس اليمين المتطرّف بل حزب “ماباي”، واسمه الكامل “حزب عمّال أرض إسرائيل”
لماذا فشل التّرحيل الهادئ؟
ما عرقل الترحيل بعد عام 1967 هو بروز أنواع متنوّعة من المقاومة الفلسطينية السلميّة والفدائية. فبدأ الهاجس الأمنيّ يسيطر على العقل الإسرائيلي، بدلاً من الهندسة الديمغرافية المزمع تطبيقها، والتي كانت بداياتها مشجّعة وإن كانت بطيئة. فكان البديل هو التركيز على هجرة الشباب الفلسطيني المتعلّم، والواعي سياسياً، الذي يؤثّر في الجمهور، فيصعّب السيطرة الإسرائيلية على السكّان. وهذه الفئة طامحة، ويتجاوز طموحها حدود غزّة، وجنوحها نحو الهجرة أكبر. وبهذا حدث تغيير في السياسة الإسرائيلية، وفي أقلّ من عامين: اختفى تدريجياً الأمل في دمج القطاع في دولة إسرائيل وجعله جزءاً لا يتجزّأ منها، وحلّت محلّه الرغبة في السيطرة على القطاع بالوسائل العسكرية. وبدلاً من توطين قسم من الغزّيّين في شمال الضفّة الغربية، حيث يُمنحون “حكماً ذاتيّاً”، أو في العريش في سيناء المصرية، التي كانت تحت الاحتلال، ارتأت حكومة إسرائيل آنذاك أنّ الأولوية هي لضمّ القدس الشرقية، وإبعاد الفلسطينيين إلى خارج فلسطين التاريخية، وليس إعادة توطينهم داخلها. ففي وثيقة وافق عليها وزير الدفاع آنذاك موشي ديان (توفّي عام 1981)، ورد أنّ إسرائيل تطمح إلى تقليل عدد السكّان العرب الخاضعين لسيطرتها قدر الإمكان، لكن لتحقيق هذا الهدف وضعت ترتيباً للأولويّات. أُعطيت الأولويّة القصوى لإجلاء لاجئي عام 1948 من مخيّمات اللاجئين في قطاع غزّة، تليه مغادرة المقيمين الدائمين، أي السكّان الأصليّين، القطاع. وأخيراً، تقليل عدد سكّان الضفّة الغربية. وعلى هذا، لم تعد فكرة إعادة التوطين في الضفّة الغربية مرغوبة في نظر إشكول. إذا بقيت الضفّة الغربية تحت السيطرة الإسرائيلية، فسيبقى سكّانها أيضاً في دولة إسرائيل. أوليس من الأفضل بقاء اللاجئين في قطاع غزّة، حيث يمكن للحكومة العسكرية الضغط عليهم حتّى يتفرّقوا إلى دول أخرى؟ في السياق نفسه، يبدو فكّ الارتباط بين إسرائيل والقطاع عام 2005 في عهد أرييل شارون (توفّي عام 2006) خطوةً في الاتّجاه نفسه، مع حصار غزّة اقتصاديّاً والضغط العسكري المتعاقب عليها، في فترات متقاربة. وكانت غزّة لا تغرق عمليّاً في البحر كما تمنّى إسحاق رابين (اغتيل عام 1995)، بل في الانفجار السكّاني، إذ كان من المتوقّع وصول العدد الإجمالي إلى 2.6 مليون نسمة عام 2030، بدلاً من 2.2 مليون، قبل “طوفان الأقصى”، وهو ثلاثة أضعاف العدد عام 1997، فيما كان طموح إشكول خفض سكّان غزّة 1% كلّ عام.
إقرأ أيضاً: هل ينطبق “قانون الفراغ” على وقائع التّاريخ؟(2-2)
في آخر مشروع قرار في مجلس الأمن لوقف إطلاق النار فوراً، وإدخال المساعدات إلى القطاع، برّرت الولايات المتّحدة وضع الفيتو عليه بأنّه لم يتضمّن عبارات معيّنة من مثل: إدانة “حماس”، تجريدها من السلاح وإخراجها من القطاع. الآن، بعد الطوفان، لم يعد تجريد غزّة من السلاح، ومن المقاتلين، ومن الأنفاق، ضماناً لبقاء الفلسطينيين على أرضهم، بل هي الكلمات المفتاحيّة لعنوان واحد هو “التهجير الطوعيّ”.