الكلام عن رفيق الحريري وجان عبيد هو سيرة علاقة بين رئيسين. الأول، شغل رئاسة الحكومة 5 مرات، والثاني، أطلق عليه لقب فخامة الرئيس عشرات المرات من دون أن يتم انتخابه.
“أساس” للاضاءة على هذه العلاقة وتفاصيلها تنشر على حلقات أجزاء من كتاب “جان عبيد ستة عقود في الوطن” للزميل نقولا ناصيف الصادر عن دار النهار.
هي حكاية علاقة لا فضل لأحد على بدايتها كما يقول الزميل نقولا ناصيف في الكتاب.
يتحدّث نقولا ناصيف في الحلقة الأولى عن بدايات الصداقة بين عبيد والحريري ودخول الحريري الحياة السياسية.
عرف جان عبيد رفيق الحريري للمرّة الأولى في أواخر السّتّينيات. كان لا يزال يشغل منصب نائب رئيس التّحرير في مجلّة “الصّيّاد”
ظهور مُتَدرِّج
عرف جان عبيد رفيق الحريري للمرّة الأولى في أواخر السّتّينيات. كان لا يزال يشغل منصب نائب رئيس التّحرير في مجلّة “الصّيّاد”، عندما باشر رفيق الحريري عمله في تصحيح بروفات المقالات. كِلاهُما لم يكن يتوقّع ما سَيَرْسُمُه له القدر في السّنين التّالية. الأوّل في منتصف الطّريق بين الصّحافة والسّياسة، والثّاني يتلمّس طريق الحياة قبل أن يُمنح حظّ الانتقال إلى السّعوديّة عام 1965 والعمل مدرّساً ثمّ محاسباً فمقاولاً، ثمّ التّحوُّل إلى رجل أعمال عملاق ذي شبكة واسعة من الصّداقات العربيّة والدّوليّة يُحسد عليها، ثمّ أصبح قريباً من عرش المملكة.
عندما كانا يتحدّثان عن مطلع تعارفهما، يتذكّران “الصّيّاد” بلا إسهاب أو مبالغة. لم تنشأ بينهما صداقة بفعل وظيفتَيْهما المتفاوِتَتَيْ الأهمّيّة والمكانة. ليست أكثر من علاقة رئيس ومرؤوس ومحطّة عابرة لكلَيْهما. يُعزى تجاهلهما إيّاها وقتاً طويلاً إلى فقدان تعارفهما ذاك أيّ مغزًى قبل ظهور رفيق الحريري على المسرح السّياسيّ اللّبنانيّ. لكنّها سَتُمْسي ذات دلالة بعد عقود طويلة عندما يقول رفيق الحريري لجان عبيد وزير الخارجيّة في حكومته على أبواب انتخابات رئاسة الجمهوريّة عام 2004: “كنتَ رئيسي في ما مضى وصرتُ أنا الآن رئيسك. لا مانع عندي من أن تعود رئيسي”.
لا يُدين بدء صداقتهما لأحد ما خلا مفارقة المرّة الأولى في الحازميّة. ذهب رفيق الحريري إلى المملكة وعمل فيها في السّنوات التّالية، بينما كان جان عبيد يخوض غمار الشّأن العامّ، إلى أن التقيا مجدّداً في ولاية الياس سركيس دون أن يظهر أنّهما أضحيا صديقَيْن. ليس في المفكّرة اليوميّة لجان عبيد، بين عامَي 1978 و1982، ذكرٌ لاسم رفيق الحريري في مواعيده، يوماً تلو آخر. لم يتكشّف فيها أنّ رجل الأعمال الآتي حديثاً إلى الشّأن العامّ ذو موقع في حياته أو دَوْر أو حتّى أهمّيّة تشبه ما لأولئك المُدوَّنة أسماؤهم في مفكّرته وعليه مخابرتهم يوميّاً أو الاجتماع بهم.
أعدّ رفيق الحريري تدريجيّاً لولوجه الحياة السّياسيّة اللّبنانيّة. كانت الخطوة الأولى لرجل الأعمال الثريّ جدّاً والصيداويّ الحامل للجنسيّة السّعوديّة عندما عزم عام 1977 على الانخراط في المغمار
طائرة خاصّة لسليم الحص
أعدّ رفيق الحريري تدريجيّاً لولوجه الحياة السّياسيّة اللّبنانيّة. كانت الخطوة الأولى لرجل الأعمال الثريّ جدّاً والصيداويّ الحامل للجنسيّة السّعوديّة عندما عزم عام 1977 على الانخراط في المغمار. جيء على ذكر اسمه عندما أهدى رئيس الحكومة سليم الحصّ طائرة خاصّة، شخصيّة له، يتنقّل فيها في أسفاره إلى الدُّوَل في مرحلة إعادة بناء الدّولة اللّبنانيّة الخارجة للتّوّ من الحرب الأهليّة وأزماتها الماليّة. قَبِلَ سليم الحصّ الهديّة وقيَّدها ملكاً للدّولة اللّبنانيّة. أكبّ في السّنة التّالية على بناء مجمّع كفرفالوس الذي احتوى 36 منشأةً بين جامعة ومستشفى ومدرسة تمريض ومدارس مهنيّة. بالتّزامن، وعلى إثر الاجتياح الإسرائيليّ للجنوب في 14 آذار 1978، عمل على إدخال بواخر مساعدات إلى صيدا التي تحاصرها بوارج الدّولة العبريّة، مستعيناً بمندوب لبنان لدى الأمم المتّحدة في نيويورك غسّان تويني. مذّاك بدأ يتردّد اسمه مقروناً بامتياز قلّما يُتاح لأحد، وهو قربه من وليّ العهد السّعوديّ فهد بن عبدالعزيز. كانت خطوته الثّالثة طلبه من السّلطات اللّبنانيّة عام 1980، على نفقته الخاصّة، توسيع مرفأ صيدا وتطويره. طُرِحَ الطّلب على مجلس وُزَراء حكومة شفيق الوزّان برئاسة الياس سركيس، وصار إلى التّصويت عليه فسقط بسبب معارضة غالبيّة الوُزراء. ثلاثة منهم أيّدوا العرض، وهم مروان حمادة وخالد جنبلاط ونزيه البزري نائب المدينة. ما حدث بعد الجلسة كان فاتحة علاقة رفيق الحريري بمروان حمادة قبل انتقالها إلى وليد جنبلاط. في خلال اندلاع حرب زحلة التي بدأت في 3 نيسان 1981، أظهر، وكان لا يزال يتحرّك بصفة شخصيّة مُنفصلة عن علاقته بوليّ العهد وخَلَتْ من أيّ تمويل سعوديّ، استعداداً لتقديم مساعدات إبّان جولات الاقتتال بين المناطق وإقفال الطّرق. لم يتخطَّ البُعد الإنسانيّ، فسهّل تبادل أسرى ومحتجزين وتولّى اتّصالات وقف النّار. آنذاك، وضع في منزل إحدى الموظّفات لديه في بيروت، هي سميّة الجنديّ، في الرّملة البيضاء، مقسّم هاتف دوليّاً ربط لبنان بالعالم الخارجيّ في خلال انقطاع التّواصل النّاجم عن الاقتتال، وراح يستخدمه أفرقاء الحركة الوطنيّة برئاسة وليد جنبلاط والدّائرون في فلكها.
صار رفيق الحريري يُستقبَل في بيروت باهتمام واحترام. الصّورة المألوفة عنه ارتداؤه اللّباس السّعوديّ التّقليديّ، الكوفيّة المطرّزة بالأحمر والأبيض والعقال الأسود مع الثّوب الأبيض الفضفاض. كلّما قرّر المجيء تولّى مدير المخابرات جوني عبده، بناءً على طلب من الرّئيس، تخصيص مجموعة من فرقة المكافحة، وهي النّخبة المقاتلة في الجيش المؤتمِرة بمديريّة المخابرات، لمواكبة وصوله إلى بيروت ثمّ مغادرته. غير أنّهما لم يلتقيا إلّا بعد وقت طويل. لم يجتمع رفيق الحريري أيضاً برئيس الجمهوريّة حينذاك، لكنّه أثار رَيْبة مدير المخابرات إثر تلقّيه تقارير تنصّت عليه يتحدّث فيها بسلبيّة عن بشير الجميّل ويُضفي عليه نعوتاً قاسِية، خصوصاً في الأيّام التّالية لانتخابه رئيساً للجمهوريّة، إضافة إلى انتقاد الياس سركيس ورجالات عهده.
إقرأ أيضاً: جان عبيد (3/3): برّي يخاطب فخامة الحاضر
غداً في الحلقة الثانية: حكاية رئيسين: الحريري وعبيد الوسيط والمستشار (2/3)