لم تزل المنطقة الحرة في مطار بيروت على حالها، نظيفة وهادئة شأن ما يجب أن تكون عليه معارض البضائع المترفة. على كل شيء أن يكون في كامل جهوزيته حتى إن كانت المضيفات يرجّحن أن لا زبون سيدخل إلى المقاصف. وهذا ما يؤكده المسافرون إذ يكتفون بالتطلع المتنصّل إلى الفخامة، في ما هم يستمرون في مشيهم المسرع إلى البوّابات. حتى أولئك الذين كانوا زبائن الألبسة والعطور التي تحمل تواقيع مصمّميها لم يعودوا يأتون إلى هنا. اللبنانيون صاروا أكثر ميلا للتبضّع من محلّات الـ Outletالتي لن يجدوا فروعا لها في المطار.
لكن هذه المنطقة الحرة ما زالت محافظة على رفعتها، لأسباب مبدئية ووطنيّة من بينها، أنه ينبغي أن تظلّ في لبنان مواضع تذكّر بميزاته السابقة. هي مواضع خاصّة، ولا يهمّ إن كانت واقعةً في وسط أمكنة صارت قليلة الوجاهة. من هذه مثلا أن مساحات المطار التي على المسافر عبورها فقدت الكثير من هيبتها، إلى حدّ أن المسافر بات يظنّ أنه يستطيع أن يصعد إلى صالونات الضيافة، وإن لم يكن مزوّدا بالتصريح الذي يتيح له ذلك، او أن يمازح الموظفيين الأمنيّين الذين يدقّقون بالجوازات.
والمطار يعمل بنصف طاقته، بل بربعها طالما أن جميع شركات الطيران الأجنبية أوقفت رحلاتها إلى بيروت. لم تعد تصل، أو تقلع، إلا طيّارات الميدل إيست، التي هي أيضا، خفّضت رحلاتها إلى النصف بعد أن غادر، في رحلات كثيرة سابقة، من يمكنهم المغادرة. فقط طائرة واحدة إلى باريس في اليوم، بدلا من اثنتين، حيث باريس هي، حسب تقليد سابق لكنه ما زال ساريا، هي مقصد اللبنانيين الأول. وفي هذه الرحلات المتأخرة بات المسافرون أقل قدرة مادية من الذين سبقوهم. ما يدّل إلى ذلك أنهم لم يطلبوا المساعدة من الحمّالين الذين كانوا ينتظرونهم واقفين مع عرباتهم على طول مسافة الطريق. أما مَن سبقوا إلى المغادرة، أولئك الأوائل الذين أدركوا من البداية أن الوضع في لبنان لم يعد محتملا، وأن مغادرته ممكنة لهم، فأسرعوا إلى حزم حقائبهم بعد أن أدركوا أن لا طائل من الانتظار. الباقون، أقصد أولئك المتأخّرين، تردّدوا طويلا آملين ربما أن تسفر محاولات الدول عن إيقاف الحرب.
أما في المطار الفرنسي
ومن هؤلاء المتأخّرين مَن ليست باريس محطة وصولهم الأخيرة. عرفنا ذلك من انقسام الواصلين إلى مطار شارل ديغول، تبعا للأسهم التي تشير عليهم بأن يذهبوا إما إلى الترانزيت، وإما إلى النزول في فرنسا. الذين ذهبوا إلى اليسار سيركبون طائرات أخرى تحملهم إلى ما يطلق عليه اللبنانيون إسم بلاد الاغتراب. أما الآخرون، أولئك الذين سيبقون هنا، فكان واضحا مذ كنا بعد في الطائرة أنهم ذاهبون إلى بلد لا يعرفونه ولا عمل لهم فيه. هم عائلات وليسوا أفرادا، أو على الأصح هم أفراد من عائلات استجابوا لإلحاح بناتهم أو أبنائهم، نصف الفرنسيين نصف اللبنانيين، إلى أن يسرعوا في الهرب إلى هنا. لقد جاؤوا لانتظار نهاية الحرب، عارفين سلفا أنهم سيقضون أكثر الوقت في البيوت الضيّقة التي استأجرها أولادهم. لفتَهم، لحظة نزولهم في المطار الفرنسي، أن ريح الحرب لم يصل منها شيء إلى هنا. كما أنهم لم يقدّروا طول المسافة التي سيقطعونها سائرين على أقدامهم. وليستدلّوا على الطريق كانوا يتبعون جموع الماشين أو يستهدون بالأسهم التي تكرّر نفسها قائلة، إن من هنا الطريق إلى الخروج والحقائب، متسائلين مرة بعد مرة إن كان الأمن العام هنا توقّف عن التدقيق في الجوازات.
ثم فجأة تضاءلت أعداد المسافرين الآخرين وتوقّف مطار شارل ديغول الضخم عن إرشادهم إلى الطرق التي يسلكونها، كانوا يستدلّون من بعضهم بعضا على الطريق التي يعودون منها بعد أن يبلغوا آخرها وهم يقولون، لبعضهم بعضا أيضا، أنه كان على المسؤولين أن ينتبهوا إلى أن عدد الموظفين قليل هنا. لكنهم مع ذلك تمكنوا من الوصول إلى القطار الذي فاجأهم وجوده. ولم تعطهم الموظفة الوحيدة هناك فرصة الاستماع إلى أسئلتهم، كانت تجيب على أسئلة تأتيها متلاحقة من مجموعة مسافرين أفغان، ثم ما لبثت أن مشت في مقدم هؤلاء ليتبعوها تاركة اللبنانيين لا يدرون ماذا يفعلون. كانت تأتيهم إجابات متناقضة من مسافرين يصعدون مسرعين إلى المقصورات. واحد يدعوهم إلى الركوب مشيرا عليهم بالنزول في NF2 وآخر يحذّرهم من فعل ذلك. ولا تساعدهم السرعة بين وصول قطار ومغادرته حتى إلى تحديق أحدهم في بطاقة سفره، ليرى إن كان شيء فيها يشير إلى ما يُفعل في هذه الحالة. لكنهم صعدوا أخيرا، إلى مقصورة واحدة قرّروا أن ينزلوا منها عند أول توقف حيث يجدون أبناءهم أو بناتهم واقفين ينتظرونهم، لا بدّ، طالما أن بلدا مثل فرنسا لن يتعب المسافرين أكثر مما فعل حتى الآن.
كاتب لبناني