أعلنت وزارة الثقافة الإسبانية، في بلاغ أصدرته يوم 29 أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم، فوز الكاتب مانويل ريباس/ Manuel Rivas بالجائزة الوطنية للآداب (2024). ويُعدُّ أول كاتب إسباني، باللغة الغاليثية، ينال هذه الجائزة الرفيعة منذ إحداثها عام 1984.
ويأتي هذا الاعتراف بعد مسار حافل توزع بين الكتابة الصحافية والشعر والقصة والرواية والمسرح والسيناريو والعضويةِ في الأكاديمية الملكية الغاليثية (RAG). ونوهت لجنة الجائزة بالمسار الأدبي لريباس، من خلال ما أسمته “الجودة السردية الاستثنائية التي تؤالف بين قوة العاطفة وجمالية الشكل، وقوة التجربة الأدبية، وتنوع مشاربها، وحساسيتها البادية إزاء قضايا الذاكرة التاريخية والمسؤولية الاجتماعية واللغة الغاليثية”.
ولد ريباس في لاكورونْيا، بإقليم غاليثيا، عام 1957. بدأ مساره الأدبي بكتابة الشعر في مستهل سبعينيات القرن الماضي، فأصدر دواوين عدة، منها: ”كتاب الكرنفال” (1979)، و”أغنية على شواطئ الغرب” (1985). ثم ما لبث أن اتجه نحو القصة، فأصدر مجموعته القصصية ”مليون بقرة” (1989)، التي فازت بجائزة نقد السرد في غاليثيا. أما في الرواية فصدرت له روايات عدة، منها: ”قلم النجار” (1998)، التي ترجمت إلى أكثر من لغة، وحُوِّلت إلى فيلم سينمائي من إخراج أنْطون ريكْسا، و”صَمتٌ” (2010) التي عرفت، بدورها، طريقها إلى السينما، من خلال فيلمٍ من إخراج خوسي لويس كْوِيرْدا، و”أصوات خافتة” (2012)، التي استعاد فيها طفولته ومعاناةَ أسرته إبان حكم الجنرال فرانكو، و”اليوم الأخير لِتيرانوفا” (2015)، و”خلْفَ السماء” (2024). أما في المسرح، فصدر له ”البطل” (2006). كما صدر له في الإعلام ”قصة الصحافة” (1998) الذي يضم أفضل ما أنجزه من تقارير صحافية، والذي تعتمده، مرجعًا، بعضُ معاهد علوم الإعلام في إسبانيا.
كاتب غاليثيا الأول
يَعُدُّ النقادُ ريباس الكاتبَ الأكثر أهمية في ”الأدب الغاليثي المعاصر”. كما أنه الكاتب الغاليثي الأكثر تأثيرًا في المجرى العام للثقافة الإسبانية بمختلف روافدها. تصدر أعماله، بدايةً، بالغاليثية، ثم ما تلبث أن تصدر ترجماتُها الإسبانية بعد ذلك، والتي غالبًا ما تكون من إنجاز الكاتب نفسه.
تتميز كتابات ريباس بارتباطها العميق بإقليم غاليثيا، الواقع شمال غربي إسبانيا على الحدود البرتغالية؛ يتجلى ذلك في انشغاله بالموروث الثقافي والأدبي المحلي، وحرصه على اجتذاب مكوناته إلى كتاباته، خاصة في ما له صلةٌ بقضايا الذاكرة. ويمثل منجزه السردي مختبرًا لطرح هذه القضايا ومساءلتها. برز ذلك في مجموعته القصصية ”ماذا تريدين يا حبيبتي”، التي تضمنت بين دفتيْها قصةَ “لسان الفراشات”، التي تحولت إلى فيلم سينمائي أخرجه خوسي لويس كْوِيرْدا، وروايته “قلم النجار”. وقد كان لانتشارهما اللافت أثر في انتعاش ما يعرف بروايات الذاكرة في غاليثيا، التي تستدعي وقائعَ الحرب الأهلية الإسبانية (1936 ــ 1939)، وفترة الحكم الفرنكوي في الإقليم، وكيف واجه الغاليثيون، المعتدّون بموروثهم وهويتهم، نظام فرانكو الذي لم يتردد في قمع النزعات الانفصالية في إسبانيا ومحاولة اجتثاثها. وقد ساهمت كتابات ريباس في الدفع بقضايا الذاكرة في غاليثيا إلى النقاش العمومي في العقدين الأخيرين، ليس فقط في الإقليم، ولكن في عموم إسبانيا.
“يَعُدُّ النقادُ ريباس الكاتبَ الأكثر أهمية في ”الأدب الغاليثي المعاصر”. كما أنه الكاتب الغاليثي الأكثر تأثيرًا في المجرى العام للثقافة الإسبانية بمختلف روافدها”
يمثل مانويل ريباس إحدى التجارب الأدبية الإسبانية التي نجحت في إنجاز مصالحة أدبية بين الهويات الإقليمية والهوية الوطنية (الإسبانية). فلطالما أكد على اعتزازه بموروثه الثقافي الغاليثي، الذي منحه القدرة على التحليق، وفق تعبيره؛ كان التشبع بهذا الموروث، بالنسبة له، شكلًا من أشكال المقاومة في مواجهة انحسار قيم التعددية والتنوع والحرية والمساواة، في عالم يتجه نحو تكريس الأحادية الفكرية والسياسية والثقافية. وفي هذا الصدد، يَعتقد ريباس أن كونه ناشطًا في إحدى منظمات الخضر في إسبانيا لا يقل أهمية عن كونه كاتبًا يناضل بالكلمة من أجل عالم أفضل.
”موبي ديك” تدور أحداثها في جبل
تزامن فوز ريباس بالجائزة الوطنية للآداب مع صدور أحدث رواياته؛ يتعلق الأمر برواية “خلف السماء/ Tras do Ceo”. وهي رواية يزاوج فيها ريباس بين الواقع والخيال، بين الرواية السوداء والسخرية الغنائية، بين المرعب وممكنات الهروب، بين الانجراف النفسي والجغرافي والسرد الشعبي. وبذلك يغدو الخيال وسيلة لاكتشاف الواقع، بدلًا من أن يكون هروبًا منه. تبدأ أحداث الرواية بصيادين يطاردون خنزيرًا بريًا في أحد الجبال، في محاولة للإمساك به. يستميت الخنزير في الدفاع عن نفسه في مواجهتهم، بشكل يذكر برائعة ”موبي ديك” للروائي الأميركي هيرمان ميلفيل، مع فارق أن هذا الصراع الذي يتفرع إلى صراعات أخرى تغذي البنية الحكائية للرواية وتتقاطع معها، تجري فصولُهُ في جبل يغمره الضباب. إنها رواية الجريمة التي تشتبك فيها الحياةُ بالموت، في عالم تسكنه الخنازير البرية والذئاب والغربان والكائنات الطبيعية الأخرى والصيادون ــ الذين يجسدون القوة المفترسة والمتحيزة جنسيًا ــ والنساءُ اللاتي يعشن في بيت دعارة اسمه إيدن، بين أشخاص غلاظ أقوياء وكائنات مبدعة في وسعها مقاومة من يتربص بها.
إنها رواية الواقع والخيال، جغرافيةٌ نفسيةٌ مصنوعة من عناصر مختلفة؛ هنالك جبل وساحل وغابة مقدسة جميلة، وقصة حب مأساوية بين زوجيْ غِربان، بالتوازي مع صراع يحتدم ويخبو، يشتبك فيه البشر والحيوان والطبيعة في دوامة من العنف المادي والرمزي الذي يحيل، في النهاية إلى معضلة السلطة في أبعادها الاجتماعية والثقافية (اللغوية) والسياسية؛ باختصار، إنها رواية عن غاليثيا وإسبانيا والعالم. ولعل ”فْران ألونْسو”، مدير دار النشر سيرايْس/ EdiCiَns Xerais، التي نشرت الأصل الغاليثي للرواية، لم يجانب الصواب، حين عدها “عملًا جبارًا، يضج بالوحشية السحرية، والشعرية، والقدرة على مزج الواقع والخيال في توليفة سردية بديعة”.
الأدبُ جسرًا نحو الواقع
يرى ريباس أن الأدب هو جسر يصلنا بالواقع، لكنه في الآن نفسه يُبقي على خط العودة مفتوحًا. بمعنى أنه يمنحنا إمكانية إعادة تشكيل هذا الواقع انطلاقًا من أفقه الإبداعي والإنساني، لا سيما في ظل ما يسميه بـ”الرجعية المتطرفة التي تجتاح العالم على غير صعيد”. هنالك انتكاسة وجودية رهيبة ناجمة عن تراجعٍ مهولٍ في الحقوق والحريات. وتأخذ هذه الانتكاسة، حسب ريباس، أبعادًا دراماتيكية مع أزمة المناخ التي تهدد العالم وتنذر بتغيير التوازن البيئي؛ هنالك أنواعٌ وبيئاتٌ وفضاءاتٌ طبيعيةٌ تتعرض للانقراض والتدمير بسبب تغوّل الرأسمالية وجشعها الذي لا ينتهي. ويزداد الأمر سوءًا مع وجود منظومة إعلامية متكاملة لصناعة الأكاذيب والأخبار الزائفة والواقع البديل، وفق تعبيره. يقول متحسرًا، في آخر حوار أجري معه مستهل الشهر الجاري، “إن هناك مناطق يكاد يكون من المستحيل فيها سماعُ صوت صراصير الليل، ونقيق الضفادع، وأزيز النحل، بسبب تواتر تسميم الأرض (…)”.
“يرى ريباس أن الأدب جسر يصلنا بالواقع، لكنه في الآن نفسه يُبقي على خط العودة مفتوحًا. بمعنى أنه يمنحنا إمكانية إعادة تشكيل هذا الواقع انطلاقًا من أفقه الإبداعي والإنساني”
في عالم تتداعى أركانه البيئية والقيمية والثقافية لا يبدو الأدب مجرد نشاط إبداعي أو فني، بقدر ما هو جسر إنساني لإعادة وصْل الواقع بما يُفترض أن يكون عليه. على الكاتب، بتعبير ريباس، “أن يكون فوضويا لحظة الكتابة، عليه أن يتحرر من الخوف ويستمع إلى الأعشاب وهي تنمو. الأدب هو الحيز الذي لا يمكن الكتابة فيه تحت الخوف (…) إنه طاقةٌ خلّاقةٌ تحررها الرغبة، فإن أخفقت هذه الرغبة، تبددت الكلمات”. وبالطبع، فالإيمان بطاقة الأدب يستدعي، بالتوازي مع ذلك، الإيمان بالشعر، الذي ”يرتبط بالرؤية والعمق وإيكولوجيا الكلمات”، حسب تعبير ريباس دائمًا.
متلازمة اللغة والكراهية
يرى ريباس أن اللغة يمكن أن تكون رصيفًا للعبور نحو الكراهية. ويستدل على ذلك بما قاله الفيلسوف ورجل القانون الألماني كارل شميت (الذي كان مقربًا من الرايخ الثالث): “بدأ تاريخُ العالم حين قتل قابيل هابيل”. إن استهلال البشرية قصتها بجريمة لهوَ مدعاةٌ للأسى. غير أنه يتدارك متسائلًا عن ”إمكانية أن تبدأ البشرية تاريخها بقصة أخرى سابقة عليها، قصة حواء التي تذوقت الفاكهة المحرمة؛ لِم لا يكون ذلك بداية التاريخ البشري؛ ثمرة التمرد والحرية”.
تلعب اللغة دورًا حاسمًا، وِفق ريباس، في تغذية السلطة التي تقترن بالجشع والهيمنة والرغبة في الحيازة والقيادة والافتراس الاجتماعي والطبيعي، وهو ما يرسّخ جوهر النزعة الذكورية كأحد تبدّيات السلطة الاجتماعية. في روايته ”خلف السماء”، تبدو اللغة الواجهة الأخرى للقوة والسطوة والطغيان، وذلك عندما تشق امرأةٌ وابنتها طريقهما وسط الغابة المقدسة لتجدا نفسيْهما، بعد حين، تحت رحمة صيادين يمطرانهما بوابل من الألفاظ البذيئة. إنه رعبٌ دلاليٌّ تكشف عنه اللغة في أشد انزياحاتها عُنفًا.
لا تقترن اللغة بالكراهية فقط باستدعاء معجم عنيف، بقدر ما تقترن أيضًا بتوظيفها، بشكل مدروس، لأجل السيطرة على عقول الآخرين بالدعاية والتضليل وغيرهما. ومع تطور التكنولوجيا، واتساع رقعة توظيفها في حياة الأفراد والجماعات والدول، باتت اللغة فاعلًا رئيسًا في تشكيل خطاب يعتمد الكراهية أفقًا للانتشار وإعادة إنتاج التمثلات والمواقف والقناعات.
ختامًا، تتسم كتابات مانويل ريباس بالعمق والأصالة والتنوع والقدرة على بناء نص، تتجاذب فيه الأنواع، من دون السهو عن منسوب بادٍ من الالتزام الاجتماعي والسياسي فيها. وبذلك جاء فوزه بالجائزة الوطنية للآداب مستحقًا، وفي ذلك اعتراف لا يخلو من دلالة في توقيته، بأهمية الأدب الغاليثي رافدًا ثرًّا للأدب الإسباني.