دمشق..الحساب والعقاب
حتى تركيا نفسها، التي تقف وراء الانقلاب المفاجىء والمذهل في موازين القوى في الشمال السوري، لن تستطيع الدفاع عن توسع سيطرة “هيئة تحرير الشام”، وبقية فصائل المعارضة السورية، على مدينة حلب، وثلاث محافظات سورية، بل قد تثبت الأيام أنها فوجئت هي الأخرى، بسرعة انهيار قوات النظام السوري، المحيّرة والمربكة، وبتعجل زعيم الهيئة أبو محمد الجولاني، في إعلان النصر، المغاير فعلا للإعلان الذي يدعيه حزب الله، وفي قفزه الى التحدث باسم الثورة السورية كلها.
الحدث السوري إستثنائي فعلا، لكن يبدو وكأنه يقتنص الأضواء من الحدثين الفلسطيني واللبناني اللذين لا يمكن منافستهما بسهولة، بفتح معركة جانبية بعيدة عن جغرافيتهما السياسية. ولا يعني ذلك أبداً أن أنقرة وفصائل المعارضة السورية، انتهزت فرصة وهن الجبهتين الفلسطينية واللبنانية، من أجل تحقيق إختراق، في الشمال السوري..حسب النظرية المضحكة التي أطلقتها طهران.
ما يجري في الشمال السوري، هو، وحسب الخطة التي لم تلحظ كما يبدو التفكك المدوي لوجود النظام، أشبه بعملية تذكير أو لفت إنتباه الى شأنٍ منسيٍ، لم يعد له أثر في برامج عمل مختلف العواصم العربية والأجنبية التي كانت معنية بسوريا وبثورتها التي أُجهضت وشُردت وضاعت، ولم يبق منها سوى ذكريات وفصائل تتنازع في ما بينها ومع النظام نفسه على الإدارة المالية لمناطق سيطرتها، الخاضعة لهيمنة قوافل البضائع والسلع التركية التي كانت ولا تزال شريان حياة السوريين (والأتراك) في غالبية الجغرافيا السورية.
ما يعيب هذا الانقلاب، أو بالأحرى ما يطعن بمصداقيته وفرصه في هزّ أركان نظام بشار الأسد، هو أن ميليشيا إسلامية سورية تأتي متأخرة على المسرح الإقليمي، من دون ان تنتبه الى ان إثنتين من المليشيات الإسلامية المسلحة، تلقت، وما زالت تتلقى ضربات (إسرائيلية وعربية ودولية) قاضية، تهدد وجودها ومستقبلها في المشرق العربي، هما حركة حماس وحزب الله، وتنذر باضمحلال الدعم الإيراني لهما..الذي لا يختلف في جوهره عن الدعم التركي للفصائل السورية، وكلاهما مقيدٌ بحسابات واعتبارات وطنية لا يمكن تخطيها.
والأرجح ان الجولاني ومليشياته سيواجه الاجماع الإسرائيلي والعربي والدولي نفسه على تفكيك مليشيا حماس وحزب الله، في الداخل الفلسطيني وفي لبنان، ولن يكون حظه أوفر منهما، مهما اتسع نفوذه في الشمال السوري، ومهما بدا النظام السوري مجرداً من أسباب القوة والمناعة، وهي حالته الطبيعية منذ ما قبل الثورة السورية المجيدة، وما بعد هزيمتها. ولن تكون تركيا سوى تاجرٍ، وشاهدٍ، ومفاوضٍ محتملٍ عندما يحين الوقت المناسب.
لكن مشكلة تركيا والعبء الذي ستتحمله لن يكون بمستوى ما سيواجه حلفاء الاسد في دمشق، الذين اكتشفوا فجأة ومن دون سابق انذار ان ذلك نظامه ما زال خاوياً، لم يكتسب بالفعل أي حصانة داخلية يعتد بها، وثبت أن جيشه اضعف بكثير مما كان يعتقد، وتبين أن عملية تأهيله المستمرة منذ نحو عشر سنوات لم تجدِ نفعاً، وضاعت معها مليارات الدولارات من الهبات والقروض والأسلحة.. وهو الآن يقف عند مفترق يعيد الاذهان الى العام 2015 عندما كان على وشك السقوط فعلا، قبل ان تتدخل إيران ثم روسيا لإنقاذه.
هل تتجدد عملية التأهيل نفسها، وبالأدوات والأساليب إياها، التي أبقت النظام على قيد الحياة، أم أن التفكير سيبدأ في البدائل؟ المؤكد أن الدفع نحو ترتيب عملية تفاوض بين الأسد والجولاني، هو خارج التصور، وخارج الحساب. أما التوجه نحو تجديد ما يسمى بالعملية السياسية بين النظام والمعارضة التقليدية، كمثل إحياء اللجنة الدستورية، فلن يكون أكثر من مسعى لكسب الوقت أو إضاعته.
دويُّ الصفعة القوية والمستحقة التي تلقاها النظام من فصائل الشمال السوري، يتردد الآن في دمشق. ومن هناك يبدأ الحساب والعقاب..وينتهي.
بيروت في 1/12/2024