السوريون يتذوقون طعم الحرية
هل تتخذ إيران القرار المؤلم، وتعترف بهزيمتها في سوريا، وتقبل خسائرها مهما بلغ حجم هذه الخسائر؟ غير ذلك ما ستجنيه إن قررت العناد هو تعميق خسائرها. الرسائل التي تبثها قيادات إيرانية حتى الآن توحي أن طهران تجد صعوبة في الاعتراف بهزيمتها، وأنها ماضية في تعميق خسائرها.
ليس لإيران بعد سقوط آل الأسد أذرع تعتمد عليها داخل سوريا. لم يكن التواجد الإيراني في سوريا يعتمد على طائفة أو مجموعة عرقية، هذا ما اكتشفته طهران فور سقوط نظام الأسد. ما كان يثار حول التقارب بين إيران والطائفة العلوية في سوريا بعيد كل البعد عن الواقع، هو تقارب وهمي روّج له النظام الحاكم في سوريا، لكسب حماية إيران وحزب الله، وروجت له إيران لتحقيق مطامعها في المنطقة.
الطائفة العلوية في سوريا، التي تظاهرت بأنها خدعت بهذا التقارب، لم تعد مضطرة الآن للمضي في أداء دور المخدوع. إيران لم يعد لها حلفاء داخل سوريا. حليفها السابق متوار في موسكو، وأتباعه المختفون عن الأنظار تتم مطاردتهم.
الذين يعرفون الساحل السوري وعاشوا فيه، ولو لفترة وجيزة، يدركون أن المسافة الفاصلة بين شيعة إيران والعلويين في سوريا كبيرة جدًا. العلويون والشيعة يشتركون في الإيمان بالأئمة الإثني عشر من أهل البيت، ويعتبرون الإمام علي بن أبي طالب الخليفة الشرعي بعد النبي محمد، ما عدا ذلك لا شيء يجمع بينهم، خاصة على مستوى التقاليد والأعراف الاجتماعية والثقافية.
باستثناء فلول النظام الذين يريدون إشعال الفتن الطائفية للتهرب من الملاحقة القضائية، لا يوجد في سوريا اليوم من يرغب بعودة إيران
الطائفة العلوية في سوريا، من أكثر الطوائف السورية انفتاحًا، وهي الأكثر استعدادًا لتقبل حكومة مدنية، ويمكن الرهان عليها مستقبلًا لتكون مصدر قوة لأيّ حكومة تحترم الأقليات وتحترم التعددية، ولن تشكل مصدر تهديد بأيّ شكل من الأشكال.
أيّ مخاوف مستقبلية لن يكون مصدرها محافظات الساحل السوري، أو محافظة حمص. قد نشهد حوادث فردية ينفذها مسؤولون سابقون وفارون من العدالة والمساءلة، ولكنها ستبقى حوادث معزولة. وهو ما حدث فعليًا الأربعاء الماضي حيث اندلعت تظاهرات في عدد من مدن الساحل السوري إثر انتشار مقاطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي تظهر حادثة اقتحام واعتداء على مقام “الشيخ أبي عبدالله الخصيبي” في مدينة حلب.
وزارة الداخلية السورية أكدت أن الفيديو المتداول قديم يعود إلى فترة تحرير مدينة حلب، وأن المجموعات التي ظهرت فيه مجهولة بالنسبة إليها، وأن الهدف من إعادة نشره هو إثارة الفتنة. وهو ما حذر منه أيضًا بيان صدر عن خادمي المقام قالا فيه إن نشر الفيديو في هذا التوقيت يهدف إلى زعزعة السلم الأهلي.
رغم ذلك، هناك ما يوجب الحذر، ويبرر التخوف من أذرع إيرانية في دول الجوار، خاصة في لبنان حيث حزب الله ما زال موجودًا، وفي العراق وداخل سوريا نفسها. واضح تمامًا من الرسائل التي تطلقها إيران أنّ ضرب أذرعها في غزة وفي لبنان وسوريا لم يقلل من سعيها المحموم للتمدد إلى سواحل البحر المتوسط ومنها إلى شمال أفريقيا، وأنها لا تنوي الاستسلام إلّا بعد أن تحدث أكبر ضرر ممكن. وقد تحاول النفوذ مجددًا إلى الداخل السوري من خلال خاصرة سوريا الضعيفة التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد).
لم تستطع طهران، التي لم تجد تجاوبًا من قبل حكام دمشق الجدد لعقد اتفاقيات ثنائية تضمن لها موقعًا داخل سوريا، الصمت طويلًا، وسارعت في بث رسائل تحريضية مغلفة بتصنع الخوف على سوريا والسوريين.
رسائل تحذير لا يمكن وصفها إلّا بالتهديد، بدأها علي خامنئي الذي لم يكترث لتغليف الرسالة، وجاء كلامه مليئًا بالتحريض. تنبأ خامنئي أن تؤدي الأحداث في سوريا إلى ظهور مجموعة من “الشرفاء الأقوياء لأن ليس لدى الشباب السوري ما يخسره، فمدارسهم وجامعاتهم وبيوتهم وشوارعهم غير آمنة.”
تبعه في اليوم نفسه وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي برسالة جاء فيها “من المبكر للغاية الحكم على مستقبل سوريا، حيث يمكن للعديد من العوامل أن تؤثر بشكل كبير على الوضع السياسي هناك.” مختتمًا بقوله “من يعتقدون حاليًا بتحقيق انتصارات مؤكدة، لا ينبغي لهم أن يفرحوا قبل الأوان.”
الرسالة الثالثة صدرت عن محسن رضائي، عضو مجلس تشخيص مصلحة النظام والقائد السابق للحرس الثوري الإيراني، الذي قال “إن الشباب والشعب السوري المقاوم لن يصمتوا أمام الاحتلال والعدوان الخارجي أو محاولات التفرد الداخلي من قبل أيّ جماعة.” وأضاف “المقاومة في سوريا ستُبعث من جديد خلال أقل من عام.”
الطائفة العلوية في سوريا، التي تظاهرت بأنها خدعت بهذا التقارب، لم تعد مضطرة الآن للمضي في أداء دور المخدوع. إيران لم يعد لها حلفاء داخل سوريا. حليفها السابق متوار في موسكو، وأتباعه المختفون عن الأنظار تتم مطاردتهم
كل ما يمكن لطهران أن تعمله بعد أن خسرت أذرعها تباعا هو التحريض عن بعد، وفبركة الاتهامات والأخبار الكاذبة. فهي المرشح التالي المهدد بالانفجار من الداخل. التظاهرات التي خرجت في حمص ومدن في الساحل السوري إثر انتشار مقاطع الفيديو، ربما خرجت كرد فعل عفوي، إلّا أن إيران وظفت أتباعها للاندساس بين المتظاهرين ورفع شعارات مؤيدة لها.
هناك أكثر من سبب لمخاوف طهران بعد أن وضعت البلاد على مدى 45 عامًا على حافة الانهيار بخوضها مغامرات أيديولوجية لم تجن منها شيئًا سوى إفقار الإيرانيين، خاصة مع اقتراب عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
السوريون يعلمون أن طهران لم تقف على الحياد وهي ترى النظام السوري يتهاوى، تضامنًا معهم. حكام طهران أحجموا عن التدخل لأنهم أدركوا جيدًا أن النظام السوري أصبح عبئًا لا يمكن إنقاذه، خاصة بعد الضربات التي تلقتها حماس وتلقاها حزب الله.
إذا كان الإيرانيون قد خدعوا أنفسهم ولم يفرّقوا بين الطائفة العلوية وطائفة الأسد، فقد حان الوقت الآن ليدركوا أن أبناء الطائفة العلوية الذين كانوا هم أيضًا ضحايا لآل الأسد على مدى 54 عامًا، لا يريدون اليوم أن يكونوا ضحايا لأيّ أكاذيب وافتراءات جديدة.
هذا يفسر إسراع وجهاء الطائفة العلوية في حمص ومدن الساحل للإسراع بإصدار بيان أعقب الأحداث، دعوا فيه إلى نبذ الشعارات الطائفية والخطابات الاستفزازية والكف عن التحريض الإعلامي وتسليم السلاح للجهات المختصة في مدة أقصاها خمسة أيام.
وللتوضيح، محافظة حمص والساحل السوري، بمحافظتيه اللاذقية وطرطوس، من أكثر مناطق سوريا تنوعًا.. إلى جانب العلويين يقطن المنطقة سنة وأكراد ومسيحيون وأرمن وتركمان (سوريون من أصول تركية) وإسماعيليون ومرشديون. (المرشدية طائفة دينية مستقلة عن الطائفة العلوية، رغم أن جذورها تعود إلى العلوية).
سياسة فرّق تسد، التي طبقها الاستعمار الفرنسي في هذه المناطق واستثمرها آل الأسد في حكمهم على مدى 54 عامًا، انتهت بفرار الرئيس المخلوع. اليوم، الجميع في سوريا متفق على شيء واحد هو احترام التعددية والتنوع.
باستثناء فلول النظام الذين يريدون إشعال الفتن الطائفية للتهرب من الملاحقة القضائية، لا يوجد في سوريا اليوم من يرغب بعودة إيران.
إيران لم تكسب ود السوريين في الماضي، وهي لن تكسب، حتما، ودهم بعد أن تذوقوا طعم الحرية.