الشعب الكوردي لم يكن يوماً غريباً على أرضه في الشرق الأوسط ولم يأتِ من كوكب آخر ليُعامل كأنه تهديد وجودي للمنطقة، فالكورد بتاريخهم الممتد إلى آلاف السنين يشكلون جزءاً أصيلاً من نسيج هذه الأرض. وحدث جبل الجودي الذي استقرت عليه سفينة نوح كما ترويه النصوص الدينية والتأريخية ومنها القرآن الكريم وتفاسيرها يمثل شهادة تأريخية على تجذر هذا الشعب في أرضه منذ القدم وحتى يومنا هذا.
وعلى الرغم من هذا الارتباط الوثيق بين الكورد وأرضهم، لكنهم تعرضوا لتهميش طويل ومستمر، علما أنَّ هناك الشعوب الحديثة التي لم يمر على تمسكها بالسلطة سوى بضعة قرون أصبحت قوى نافذة تفرض سياساتها وتُقصي المكونات الأصيلة، بينما يظل الكورد وهم من أقدم الشعوب في هذه المنطقة متمسكين بهويتهم وحقوقهم في مواجهة سياسات الإقصاء.
إنَّ الروايات الدينية والتأريخية من قصة الطوفان وسفينة نوح إلى واقعة حرق النبي إبراهيم لتؤكد أن هذه الأرض للكورد وأنهم جزء لا يتجزأ من تاريخها.
وعقب انهيار الدولة العثمانية في بداية القرن العشرين، خضع الكورد لتقسيم قسري ضمن اتفاقيات دولية ك سايكس بيكو، فأصبحوا موزعين بين أربع دول رئيسية: تركيا وإيران والعراق وسوريا، إضافة إلى أقلية صغيرة في أرمينيا وغيرها في دول المنطقة.
هذا التقسيم لم يكن مجرد رسم لحدود جغرافية، بل كان وسيلة لتقسيم شعب متجذر وعرقلة تطلعاته القومية فالشعوب التي تنكر حقوق مكوناتها الأصيلة كالكورد تخسر استقرارها على المدى البعيد، لأن العدالة هي العمود الفقري لأي نظام سياسي مستقر، ففي تركيا يمثل الكورد أكبر أقلية قومية لكنهم يواجهون سياسات طمس هويتهم الثقافية، وفي إيران يعاني الكورد من التهميش على الرغم من تأريخهم الحافل بالمساهمة في بناء الحضارة الفارسية، وفي العراق بعد صراع مرير وتجاذب طويل قد شكل الكورد تجربة ناجحة في إقليم كوردستان، الذي يمثل نموذجاً للإدارة الذاتية، لكنه مايزال يواجه تحديات سياسية وخلق أزمة اقتصادية، وأما في سوريا، فقد نجح الكورد في تأسيس إدارة ذاتية في شمال وشرق البلاد، لكنهم يواجهون نزاعات مستمرة تهدد استقرار المنطقة.
ومازال يُنظر إلى الكورد بهواجس غير مبررة تُغذيها سياسات تخشى من تحولهم إلى قوة مهيمنة تُستخدم “فوبيا الكورد” كذريعة لتبرير الإقصاء مع أن الكورد لا يسعون للهيمنة بقدر ما يسعون لتحقيق العدالة والمساواة في إطار أنظمة سياسية تضمن حقوقهم المشروعة.
إن الشرق الأوسط بحاجة ماسة إلى تغيير رؤيته تجاه الكورد، فلا يمكن تحقيق استقرار حقيقي في المنطقة دون الاعتراف بحقوقهم، ليس كأقلية مضطهدة، بل كشعب أصيل لديه تاريخ يمتد لآلاف السنين، وإن تجاهل هذه الحقيقة لا يؤدي إلا إلى تعميق الصراعات وإطالة أمد الأزمات.
وجبل الجودي الذي شهد بداية الحياة بعد الطوفان يمثل اليوم رمزاً لصمود الكورد وارتباطهم بأرضهم، فهذه الأرض لا يمكن أن تنفصل عن شعبها المتجذر فيها، والشرق الأوسط لن يجد سلاماً حقيقياً ما لم يتم الاعتراف بالكورد كشركاء في بناء مستقبل مشترك بعيداً عن الهواجس والإقصاء.