لم يكن هنالك إجماع بين المتناقضين، كذلك الذي تحقق على سقوط الأسد وهروبه المذلّ من دمشق من دون أن يُعلم أحداً أو يعلن تنحّيه. تلك كانت المفاجأة الكبرى التي اختتمت العام المنصرم 2024، بل قال البعض إنها هدية الميلاد الكبرى للعالم الديمقراطي. فلم يكن هنالك كثيرون يتوقّعون ذلك الانهيار السريع، خصوصاً لم يكونوا يتوقّعونه بهذا الانكشاف المذهل للنظام، ببنائه كله وطوابقه كلّها.
يُقال إن الولايات المتحدة وتركيا كانتا على علمٍ بما سيحدث، ويقال ثانياً إنهما وإيران وروسيا، ويقال ثالثاً أن تلك الأطراف الأربعة وإسرائيل كانت على علم أيضاً. ولا أظنّ أنّ ذلك سيبقى سرّياِ لربع أو نصف قرن، كما كان معتاداً في القرن الماضي. وإن كان ذلك صحيحاً، فالمسألة ليست» مفاجأة» كاملة.
توّجت تلك المفاجأة، سلسلة من التطوّرات الدراماتيكية في الشرق الأوسط، في حصيلتها كانت إيران الإسلامية الخاسر الأكبر، ويُقال عموماً إن إسرائيل كانت الطرف الأكثر غنيمة بين الأطراف المختلفة، ويختلف آخرون مع هذا الرأي ويرون فيه نظرة ميكانيكية. قياساً على معايير أخرى.
هنالك تطورات عالمية تدخل بتأثيرها بقوة على الوضع الذي ذكرناه: في الولايات المتحدة وأوكرانيا خصوصاً. في الأولى سقط بايدن، ومن ثمّ نسخته الأكثر شباباً كامالا هاريس، منذ مقابلته الشهيرة وإصراره قبل ذلك وبعده على استمراره متحدّياً ديمقراطياً لدونالد ترامب. ابتدأ ذلك التحوّل بالتأثير على خطى العالم منذ اتّضحت معالمه، جاء ترامب حاملاً شعارات أقرب إلى الشعبوية، وأقرب إلى مصالح الرأسمالية العليا، أو الإمبريالية إذا شئتم. قال إن خطه سيدعم الاقتصاد الأمريكي، مع أن تطوراً كبيراً حدث في ذلك أساساً تحت رئاسة بايدن. في الوقت نفسه فإن سياسته الخارجية أكثر هجومية، أو عدوانية كما يراها البعض، وأكثر انعزالية وتملّصاً من الأعباء الدولية، وتتمحور حول ذاتها. وفي أوكرانيا، تراجع زخم الأوكرانيين في حربهم مع روسيا، وصار ممكناً لروسيا وبوتين ادّعاء التفوّق، بحيث ستكون أية مفاوضات أكثر قبولاً بشكل عام، وأية تنازلات أيضاً. سوف تكون هذه المفاوضات؛ إذا استمرت التطورات بشكلها الطبيعي؛ نجمة العام 2025 غالباً. أساسا» تحمل برامج ترامب تلك الرغبة، التي لن تكون نبأً ساراً لبعض الأوروبيين وأنصار أوكرانيا هناك وفي العالم. لعب دوراً رئيسياً في تطوّرات الشرق الأوسط، اختيارُ روسيا لأوكرانيا كموضوع رئيس تتركّز عليه سياستها الخارجية «الماديّة»، متفوّقاً – عند المنعطف – بقوة على سوريا وأهميّتها الاستراتيجية. استحقّت حكومة زيلينسكي هذه النتيجة مع الأسف، بسياساتها الداخلية، التي جعلت الفساد وسوء الإدارة يهيمنان على البلاد، وسياساتها الخارجية التي حملت طلباً واحداً متكرّراً «أعطونا المزيد» من دون مضامين مقنعة للشعوب الجارة، التي ابتدأت تعيش حالات أكثر صعوبة وخطورة. السياسات العسكرية أيضاً حملت على ظهرها مغامرات غير محسوبة، من جهة العمليات الاستخباراتية وراء خطوط الاشتباك، أو الخطأ في حسابات الردّ الروسي المحتمل عند قصف الأراضي الروسية، وعلى كلّ حال، لن تكون هزيمة ساحقة بالتأكيد، ويستحق الأوكرانيون التحية والتقدير.
سلسلة من التطوّرات الدراماتيكية في الشرق الأوسط، في حصيلتها كانت إيران الإسلامية الخاسر الأكبر، ويُقال عموماً إن إسرائيل كانت الطرف الأكثر غنيمة بين الأطراف المختلفة
كان لحرب غزّة دور أيضاً، ليس بذاتها مباشرة، وإنّما بما سبقها ولحق بها من استتباع إيراني لم يعد خفيّاً ولا ممكن الإنكار. وللأسف الشديد، كان لهذا الاستتباع دور في حجم العنف الذي مارسته إسرائيل على الفلسطينيين في غزّة، والذي كانت ذروته الدرامية في التمكّن من اغتيال يحيى السنوار القائد الميداني الذي غدا أسطورة عن حق. لكنّ الجانب الآخر هنا كان أن نوعاً من الهزيمة قد لحق بالحرس الثوري ومرشده انطلاقاً من حلقة غزة. لكنّ الحلقة الأكثر أهميّةً في هذا المجال كانت مع حزب الله وفي لبنان، ومن ثمّ في إيران وإسرائيل بالذات. كانت انفجارات البيجر المتواقتة نذير شؤم هنا، بما دلْت عليه من تفوّق استخباراتي ومعلوماتي كبير، ثمّ في عمليات اغتيال قائد حماس في طهران، وقتل قادة حزب الله واحداً إثر الآخر، وخصوصاً حين تمكّنت من تصفية حسن نصرالله قائد الحزب، وأحد أهم قادة «محور المقاومة» الإيراني، حتى أصبح الحزب بلا رأس، وإيران بلا ذراع. الإجراء الإيراني المضادّ الوحيد كان في موجتين هائلتين من القذائف والصواريخ، التي انطلقت من الأرض الإيرانية وتمّ اعتراضها من قبل إسرائيل وحلفائها بكفاءة لافتة، من دون أثر يمكن تسجيله على الأرض. المذهل الحقيقي كان في مستوى «الضعف» الإيراني وانكشافه تماماً، ما يعني ما يشبه «تحييد» عامل القوة الإيراني خارج حدودها، وهو «سلاحها النووي» التي اعتمدت عليه حتى الآن، كما اعتمد عليه من قبلها الأسد الكبير ثمّ الصغير؛ وهو أداتها الاستراتيجية الأساسية لتحصيل النفوذ والهيبة من قبل الآخرين، التي تتمسّك بها، ربما أكثر مما تتمسّك ببرنامجها النووي. وبالمناسبة، ربْما ستكون مواجهة هذا البرنامج أكثر سهولة في المرحلة المقبلة، بعد الذي حدث.. لذلك قيل: إن الانسحاب الروسي والإيراني، أو ضعف الفاعلية في سوريا، مع درجة التشابك العضوي مع القوى المسلحة والأمنية لدى الأسد، أدّت بالضرورة إلى انحلال وذوبان النظام في وجه تقدّم «هيئة تحرير الشام» وحلفائها. ذلك لا ينفي دور التدريب الجيد، والتسهيلات والتمهيدات التي أسهمت بها الولايات المتحدة وتركيا.. وإسرائيل، بشكل مباشر أو غير مباشر.
ما هي النتائج اللاحقة، ومرارات – أو أمنيات- العام الجديد؟
قال نتنياهو منذ أيام قليلة، إنه يريد «تغيير وجه الشرق الأوسط من خلال اتّفاقات سلام جديدة»، وكان قد قال قبل بدء الزحف إلى دمشق بشهر على الأقل، إن إسرائيل تقوم بتغيير وجه الشرق الأوسط، وإذا جمعنا ما حدث منذ السابع من أكتوبر من العام الماضي وحتّى الآن، فلا بدّ أن نصدّقه في «بعض» ما يقول، وليس في ما يتعلّق به وباستمرار حكومته اليمينية المتطرّفة، ومستقبلهما معاً. وقد جاءت التغييرات الخاطفة في دمشق، لتبرز حقيقة اعتماد استراتيجيّته الجديدة على استخدام قوة «الآخر»، إن جاز القول، كما هو الأمر في الجودو. في كلا المثلين هنالك ظاهرة تحويل الخصم – الظاهر في سوريا والمموّه في إسرائيل- إلى قوة مطواعة لاستراتيجية أكبر من «هيئة تحرير الشام»، وحتّى أكبر من نتنياهو الذي تشغله تفاصيله الحمقاء الصغيرة. وبالفعل، ربما يكون ما حدث حتّى الآن يمهد لتسويات كبيرة في الشرق الأوسط، تنهي الصراع لعدة أجيال، بالشكل الذي كان عليه حتى الآن. لكنّ للشرق الأوسط الجديد مستلزمات ما زالت لم تتحقّق، ومتطلّبات ربّما تحتاج إلى «عجائب» أخرى في زمن العجائب، وليس ذلك بعسير بعد الآن. لقد هُزمت إيران، وستكون على المحكّ في ما بعد هزيمتها النهائية، أو تكيّفها مع الوقائع والموقف التفاوضي. وهُزمت أوكرانيا، وستكون أيضاً مستويات هزيمتها محكومة بدرجة الدفاع الأوروبي عنها حرباً وسلماً؛ لكنّ هزيمة الأسد تستحق مكانة خاصة وفريدة، فكرياً وحضارياً، اجتماعياً وسياسياً، وفلسفياً… وتحتاج إلى إنعاش الشعب السوري بما هو كينونة جَمعية جديدة، قادرة على التفوّق على بعض إيحاءات وتركيبة الوضع السوري الناشئ، الغريب بدوره.
إضافة إلى تلك «النجوم» التي هوت، هنالك أخرى خبت، ومنها خامنئي وزيلينسكي وبايدن.. وأخرى عربية ينبغي رصد تحوّلاتها، سطوعاً أو خفوتاً!
كاتب سوري