تُعدُّ سوريا مثالًا لدولة متعددة القوميات والأديان والمذاهب، تزخر بتنوع ثقافي واجتماعي ولغوي. ومع ذلك، فشلت الأنظمة السياسية المتعاقبة في توظيف هذا التنوع كعامل قوة لبناء هوية وطنية جامعة. بدلاً من ذلك، اعتمدت سياسات إقصائية اختزلت مفهوم الهوية الوطنية في إطار ضيق، بعيدًا عن الاعتراف الحقيقي بالتعددية التي تميز المجتمع السوري.
على مدار تاريخها الحديث، لم تشهد سوريا مشروعًا جادًا يهدف إلى بناء “هوية سورية” شاملة، تُجسد تطلعات كافة مكوناتها. وبدلاً من ذلك، ركزت الأنظمة السياسية على فرض هوية عربية أو عربية-إسلامية، متجاهلة بذلك خصوصيات مكونات أخرى كالكرد، السريان-الآشوريين، التركمان، فضلًا عن التنوع الديني كالمسيحيين واليزيديين وغيرهم.
هذا التوجه الأحادي في صياغة الهوية الوطنية أدى إلى تهميش واضح وشعور متزايد بالاغتراب لدى العديد من المكونات، التي رأت نفسها خارج دائرة الاعتراف الرسمي. لقد عمقت هذه السياسات مشاعر الإقصاء وخلقت انقسامات اجتماعية وسياسية، ساهمت بدورها في تأجيج الصراعات العرقية والطائفية، والتي بلغت ذروتها في الحرب الأهلية التي اندلعت خلال العقد الأخير.
لإنقاذ سوريا من أزمتها المستمرة وتفادي تكرار أخطاء الماضي، لا بد من تبني رؤية سياسية واجتماعية جديدة تسعى لبناء دولة مدنية ديمقراطية تعترف بتعدد القوميات والأديان والمذاهب، وتعزز مبدأ المواطنة المتساوية. هذه الدولة يجب أن ترتكز على أسس الحرية والعدالة والمساواة، بعيدًا عن سياسات إنكار الآخر أو اضطهاده بسبب هويته القومية أو الدينية أو السياسية.
إن صياغة عقد اجتماعي جديد يضمن الحقوق والواجبات لجميع المكونات، دون تمييز، يمثل الخطوة الأولى نحو بناء مجتمع متماسك. وقد يكون إنشاء نظام اتحادي (فيدرالي) الحل الأمثل لتحقيق هذا الهدف. فمن خلال نظام اتحادي يقوم على اتحاد اختياري حر، يمكن لكل مكون إدارة شؤونه المحلية بحرية، ضمن إطار دولة موحدة تضمن السيادة والاستقرار.
بلا شك، فإن التحول نحو نموذج جديد للدولة سيواجه تحديات سياسية واجتماعية واقتصادية. فهناك عقبات ترتبط بالموروث الثقافي والسياسي، ومخاوف من احتمال تفكك الدولة أو تغليب مصالح فئة على أخرى. ومع ذلك، تبقى الفرصة سانحة إذا ما أُعيدت صياغة العلاقات بين مكونات المجتمع على أساس الحوار والتفاهم.
إن تعزيز ثقافة التسامح والاعتراف المتبادل، وتشجيع مبادرات المصالحة الوطنية، وصياغة دستور عصري يضمن حقوق الجميع دون استثناء، كلها خطوات أساسية لتحقيق هذا الهدف.
خاتمة
تحتاج سوريا إلى نموذج جديد للدولة، نموذج يُنهي عقودًا من الإقصاء والتهميش، ويؤسس لوطن يحتضن كل أبنائه دون تفريق.
فقط من خلال بناء دولة مدنية، تعددية، اتحادية، تقوم على العدالة والمساواة، يمكن لسوريا تجاوز أزماتها الراهنة وتحقيق السلام والاستقرار لجميع مواطنيها، ليكون التنوع فيها مصدر قوة وإثراء بدلًا من أن يكون سببًا للصراع والانقسام.