يبدو المشهد الإنساني في مناطق محافظتي إدلب وحلب الخارجة عن سيطرة النظام أكثر هشاشةً مما كان عليه في أي وقت سابق، وذلك مع تزايد حدّة التصعيد العسكري في المنطقة، وإمساك النظام السوري بورقة المعابر الحدودية بشكل كامل منذ فشل مجلس الأمن في تمديد قرار عبر الحدود  منتصف هذا العام، وهو ما قد يعني استخدام هذا الملف ضد السكّان في المنطقة في سياق أي تصعيد عسكري محتمل.

وتعمل وكالات الأمم المتحدة على إدخال المساعدات الإنسانية إلى المنطقة من خلال ثلاثة معابر، هي باب السلامة والراعي في ريف حلب الشمالي وباب الهوى في محافظة إدلب، وذلك وفق تفاهمات مع النظام السوري يُسمح بموجبها للأمم المتحدة باستخدام تلك المعابر، بعد أن كانت تُستخدم بموجب قرار من مجلس الأمن منذ العام 2014، حيث كان يُسمح بإدخال المساعدات الأممية عبر الحدود إلى سوريا دون موافقة النظام السوري، وهو القرار الذي فشل تمديده مؤخراً.

تصاعدت حدّة قصف قوات النظام على مناطق في ريفي إدلب وحلب منذ الخامس من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وعاد الطيران الروسي مجدداً إلى المشاركة في العمليات التي أدت إلى مقتل أكثر من 70 مدنياً منذ ذلك الوقت. في الوقت نفسه، شهد الأسبوعان الماضيان ارتفاعاً ملحوظاً في محاولات التسلُّل على خطوط الجبهة وفي الاشتباكات على خطوط التماس بين قوات النظام وفصائل المعارضة في المنطقة، وهو ما يهدد بانفجار معارك في المنطقة.

2019 مرّة أخرى؟

يبدو أن عمليات القصف المدفعي وغارات الطيران لم تعد مجرد ردٍّ على استهداف كلية المدفعية في حمص مطلع الشهر الماضي، وهو الهجوم الذي لم تتبناه رسمياً أي من فصائل المعارضة في المنطقة، والذي لم تُشر أي أدلة واضحة إلى مسؤوليتها عنه. بل أصبحت أجواء التصعيد اليوم أقرب إلى الأوضاع التي شهدتها المنطقة بداية العام 2019، عندما شنّت قوات النظام حملة تصعيد كبيرة من القصف المدفعي والصاروخي وغارات الطيران على محافظة إدلب، قُبيل بدئها عمليات عسكرية بريّة أدت إلى نزوح مئات الآلاف وسيطرتها على مدن وبلدات مهمة في المحافظة مثل سراقب ومعرة النعمان.

وفي ظل تزايد التهديد بعمليات عسكرية قد تؤدي إلى كوارث إنسانية، فإنّ إمساك النظام السوري بملف المعابر الحدودية قد يؤدي إلى استخدامه لاحقاً كسلاح حرب، وهو احتمال شبه مؤكد بالنظر إلى تاريخ النظام في استخدام سلاح الجوع والحصار ضد سكّان مناطق خرجت على حكمه، كما حدث في غوطة دمشق ومضايا ومخيم اليرموك وريف حمص الشمالي.

يوضح هذا مدى أهمية تلك المعابر الحدودية التي تُستخدم في إدخال المساعدات الإنسانية، ومدى تأثير احتمال إغلاقها بقرار من النظام السوري على أوضاع سكّان المنطقة ومصيرهم. وينتهي الإذن الذي منحه النظام لاستخدام تلك المعابر من جانب الأمم المتحدة في شهر شباط القادم، وستُؤدي جولة جديدة من التصعيد في تلك الفترة بالتوازي مع عدم تجديد الإذن إلى كارثة كبيرة على المستوى الإنساني في المنطقة، إذ يعيش أكثر من ربع سكّان شمال غربي سوريا نازحين في الخيام اليوم، بينما تبلغ نسبة النازحين إجمالاً أكثر من نصف السكّان.

المساعدات الإنسانية في أدنى مستوياتها

تشهد العمليات الإنسانية في شمال غربي البلاد بالأصل ضعفاً في التمويل، وتراجعاً في كميات المساعدات التي تدخل إلى المنطقة. وكانت الأمم المتحدة قد أعلنت نهاية الشهر الماضي عن دخول 174 شاحنة مساعدات إلى شمال غربي سوريا خلال شهرين، مُسجِّلة تراجعاً في كمية المساعدات التي تدخل إلى المنطقة بمقدار النصف تقريباً عن فترات مماثلة من العام السابق. في حين قال فريق منسقو الاستجابة في إدلب نهاية الشهر الماضي إنّ العمليات الإنسانية في المنطقة سجلت انخفاضاً بنسبة 47.18 بالمئة في المتوسط بالنسبة لكافة القطاعات الإنسانية، وأضاف تقرير الفريق  أن الاستجابة لم تجاوز نسبة 11.18 بالمئة من إجمالي الاحتياجات الإنسانية اللازمة للنازحين هذا العام.

وكان النظام السوري قد مدَّدَ فترة السماح للأمم المتحدة بالعمل من خلال معبري باب السلامة والراعي في الرابع عشر من الشهر الجاري لمدة ثلاثة أشهر، فيما يبقى مصير معبر باب السلامة غير واضح حتى اللحظة، إذ تنتهي فترة السماح الخاصة به في شهر شباط (فبراير) المقبل بالتزامن مع انتهاء فترة السماح الجديدة لمعبري ريف حلب الشمالي.

وتعتبِر الأمم المتحدة معبرَ باب الهوى شريان الحياة الأساسي لأكثر من أربعة ملايين سوري يعيشون في محافظة إدلب وريف حلب الشمالي والغربي وعفرين في مناطق سيطرة فصائل المعارضة، إذ تمر عبره أكثر من 85 بالمئة من المساعدات التي تدخل إلى المنطقة وفق بيانات نشرتها الأمم المتحدة. وبالإضافة إلى إدخالها للمساعدات الإنسانية فإنّ وكالات الأمم المتحدة، وتحديداً مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، تلعب دوراً مهماً للغاية في تنسيق جهود وعمل المنظمات الإنسانية في المنطقة، بالإضافة إلى توفيرها بيانات ذات مصداقية حول الوضع الإنساني والاحتياجات الأساسية للسكان، وهو دور سيغيب في حال إغلاق المعابر الحدودية أمام أنشطة الأمم المتحدة، تاركاً فراغاً لا يمكن للمنظمات المحلية تعويضه بسهولة.

وحتى بدون وجود أي معارك كبيرة في المنطقة، سيؤدي إغلاق تلك المعابر إلى تراجع خطير في أوضاع السكّان فيها، الذين يعتمدون بشكل أساسي في استمرار حياتهم على المساعدات التي توفّرها الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية. سيدفع السكّان ثمن فشل المجتمع الدولي في تموز (يوليو) الماضي في تمرير قرار عبر الحدود في مجلس الأمن نتيجة فيتو مشترك من الصين وروسيا، إذا سيؤدي استخدام النظام لورقة المساعدات الإنسانية، كما فعل في السابق مراراً أثناء حصاره لمناطق سورية، إلى تدهور خطير في الأوضاع الإنسانية في المنطقة، بما في ذلك الأوضاع الصحية مع تزايد أعداد المصابين بالكوليرا في المنطقة حسب تقارير منظمات إنسانية.

منذ يومين أدى قصف لقوات النظام إلى مجزرة بحق مدنيين كانوا يعملون في قطاف الزيتون في مزرعتهم في ريف إدلب؛ قُتل في هذه المجزرة عشرة مدنيين بينهم سبعة أطفال. يملك السوريون في أرياف إدلب وحلب القليل ليفعلوه في مواجهة التحديات والاحتياجات الكبيرة، خاصةً أثناء التصعيد العسكري، وأي تهديد للمساعدات الأممية القليلة التي تدخل هو تهديد فعلي ومباشر لحياة الناس، إذ تعني تلك المساعدات الفرق بين الحياة والموت بالنسبة للكثيرين هناك.