بانعقاد مؤتمر “حل الدولتين” في نيويورك برئاسة مشتركة بين السعودية وفرنسا، يجد المسار السياسي للقضية الفلسطينية نفسه أمام لحظة اختبار نادرة: هل ما يزال ممكناً إنقاذ فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، أم أن المشروع قد انزلق نهائياً إلى أرشيف الخطابات المنسية؟ لا يكفي أن يعود الملف الفلسطيني إلى صدارة الاهتمام الدولي، بل يجب أن تعود معه أيضاً الإرادة السياسية الغائبة، والرؤية الواقعية لإنهاء أحد أطول الصراعات في العالم المعاصر.
قيمة مؤتمر حلّ الدولتين الذي انعقد في نيويورك لا تكمن فقط في رمزيته، بل في طبيعة التوافق الذي أفضى إليه
الوعي بالتعقيدات
تقسيم المؤتمر إلى ثماني لجان متخصصة خطوة لافتة تنظيماً، لأن تحديد المسارات (من الأمن إلى إعادة الإعمار، ومن الوضع النهائي إلى بناء الدولة) يعكس وعياً بتعقيدات المشهد، لكنه لا يعوض غياب الطرف الإسرائيلي عن الطاولة. إسرائيل، الطرف الغائب الحاضر، تمثل العقبة الجوهرية أمام أي تقدم. ومع حكومة يمينية متشددة، لا يبدو أن هناك استعداداً فعلياً للتجاوب مع أي مخرجات أممية أو إقليمية، ما لم تكن مسبوقة بضغوط حقيقية تتجاوز الإدانة الخطابية.
في المقابل، يبرز عنصر جديد في المشهد: الإقرار الدولي المتنامي بأن استمرار الوضع القائم لم يعد قابلاً للإدارة. الحرب الأخيرة في غزة دفعت بكثير من القوى الغربية إلى إعادة النظر في صمتها الطويل تجاه التصعيد الإسرائيلي، وباتت لغة المطالبة بحل الدولتين تعود بشكل أكثر وضوحاً، مدفوعة ليس فقط بالاعتبارات الأخلاقية، بل بالخشية من الانفجار الكبير الذي قد يطيح بما تبقى من استقرار إقليمي هش. من هنا يمكن قراءة المؤتمر على أنه محاولة سياسية لإعادة ترسيم خريطة المسار الفلسطيني، وإنقاذ حل الدولتين من الاندثار التدريجي.
التحالف الفرنسي-السعودي لا يتحرك في الفراغ. إنه يستثمر لحظة سياسية حساسة، ويستند إلى ما تبقى من توافق دولي حول صيغة الحل، وهو يسعى أيضاً لردم الهوة بين الواقع الميداني والطموحات السياسية. الفلسطينيون المنقسمون سياسياً والمثقلون بجراح الغياب، ينتظرون أكثر من الدعم الرمزي، ويحتاجون إلى منصة واضحة تضمن حقوقهم وتعيد الاعتراف بوجودهم السياسي كأمة تسعى إلى التحرر، لا كمجرد ملف إنساني.
المسؤولية المفروضة
الفرصة السياسية التي يمثلها هذا المؤتمر لا تعني الأمل فقط، بل تفرض مسؤولية. إذ أن تحويل لحظة التوافق هذه إلى فعل سياسي يتطلب شجاعة من الأطراف الراعية، وإرادة ضاغطة على القوى الكبرى، ورؤية فلسطينية متماسكة تعيد الاعتبار لمشروع الدولة لا كرمزية بل كخطة عمل. العالم يمكنه أن يدفع نحو الحل، لكن الفلسطينيين وحدهم من يقرر إذا ما كانوا سيشكلون طرفاً سياسياً فاعلاً ضمن هذا المسار، أم سيظلون أسرى لانقسامات داخلية تقوض أي مكاسب محتملة.
مؤتمر نيويورك ليس خاتمة المطاف، هو بداية مسار جديد، بشرط أن يتحول من منصة لإعادة طرح المبادئ إلى ورشة لصناعة قرارات. فحل الدولتين لم يمت، وإذا لم يتحرك المجتمع الدولي الآن، فإن المشهد سيتغير من “نزاع بحاجة إلى تسوية” إلى “صراع بلا أفق”. تلك اللحظة، إن أتت، ستكون خطاً فاصلاً بين عالم يبحث عن سلام ممكن، وعالم استسلم لواقع العنف الدائم. وما زال في الوقت متسع، لكن ليس كثيراً.