–
في عصور بلاد فارس القديمة، وبعد موت الإمبراطور، يُترك الناس خمسة أيام من دون حاكم ومن غير قانون، فلا ينجو من الفوضى إلا أصحاب الولاء الصادق للإمبراطور الجديد، بعد أن أدركوا مخاطر غياب السلطة وانهيار النظام. ولا تزال صناعة الفوضى أو استغلالها استراتيجيةً كلاسيكيةً، بها يصوّر الطغاة أنفسهم “منقذين” وحيدين، قادرين على استعادة النظام، وقد يحظون بشعبية كبيرة رغم توسيع سلطاتهم على حساب حقوق المواطنين وحرياتهم.
الناس، الذين أصيبوا بصدمة بسبب الفوضى والخوف من المجهول، أكثر استعداداً للخضوع، ولاستبدال طاغية بآخر. ليست تلك ديناميكيةً فريدةً، فعلى مرّ التاريخ، استغلّ الطاغيةُ الخوفَ من الفوضى لتبرير صعوده إلى السلطة، ففي أوقات الأزمات، يُعطي الناس الأولوية للاستقرار على حساب الحرية. والخوف، مبرّراً كان أو مُصنّعاً، هو آلية نفسية سياسية تدفع الأفراد إلى التضحية بحرّياتهم وحقوقهم في مقابل وعود الأمن والاستقرار، فـ”الهروب من الحرية” سمة مميّزة للمجتمعات التي تُنتج الطغاة، بحسب إيريك فروم. ليست هذه الطاعة عمياء دائماً، إنها نتيجة حساب عقلاني مفاده أن البديل (الفوضى) أسوأ. ولا يبقى الخوف عاطفةً فرديةً، بل يصبح عقيدةً جماعيةً تتحكّم في المجتمع، والحفاظ على النظام القائم هدفاً مقدّساً.
مهّد الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين لصعود الأنظمة الفاشية في أوروبا، وعلى نحو مماثل، في العصر الحديث، غذّى التفاوت الاقتصادي، والبطالة، الحركاتِ الشعبويةَ، واليمين المتطرّف. في الولايات المتحدة، وظّفت المكارثية الخوف من التجسّس السوفييتي والتهديدات النووية وأجواء الحربين، الباردة والكورية، فقُمِعت المعارضة بتهمة الشيوعية، واستغلّت الترامبية (وعادت لتستغلّ) انعدام الأمن الاقتصادي، والمشاعر المناهضة للهجرة، وردّات الفعل ضدّ العولمة والتعددية الثقافية، والصوابية السياسية، باعتبارها تهديدات وجودية للأميركيين “الحقيقيين”.
يميل الناس أكثر إلى دعم القادة الذين يعدونهم بحلولٍ سريعة، رغم تدابيرهم الاستبدادية. في فوضى حرب الشيشان الثانية (1999-2000)، قدّم فلاديمير بوتين نفسه قائداً قوياً قادراً على استعادة النظام والأمن، وأمجاد الروس القومية، موسّعاً صلاحياته على حساب الحرّيات المدنية. الرئيس الفيليبيني السابق، رودريغو دوتيرتي، شنّ حرباً على تجارة المخدّرات، وخفّض الجريمة بقتل الآلاف خارج نطاق القضاء، منتهكاً بشعبيته الواسعة حقوق الإنسان.
وبحكم تاريخ من الاستعمار والعسكرة، أصبحت ثقافةَ الخوف جزءاً من هُويَّة مجتمعاتنا العربية، فتحوّل الخوفُ آليةً لصناعة الطاغية، ما أعطى الاستبداد شرعيةً غير مباشرة. دافع عراقيون (وعرب) عن نظام صدّام حسين رغم جرائمه، خوفاً من فراغ السلطة والفوضى الطائفية، التي تحقّقت بعد سقوط النظام. وفي مصر، روَّج نظام حسني مبارك خطر الفوضى في حال سقوطه. وبعد إطاحة محمّد مرسي، وموجة العنف، بعد مجزرتي ميداني رابعة العدوية والنهضة، صوّر الجيش المصري بقيادة عبد الفتاح السيسي الإخوان المسلمين تهديداً للأمن القومي، وقدّم السيسي نفسه ضامناً وحيداً للاستقرار، فحظيت سياساته القمعية بقبول شعبي.
لا يكتفي الطغاة باستغلال الخوف، بل يصنعون الفوضى تبريراً للقمع، وعبر “استراتيجية الصدمة” يفجّرون الصراعات والأزمات، لإجبار الناس على قبول الطاغية خياراً أوحد. صمد نظام بشّار الأسد في وجه الشارع المنتفض بتعزيز الانقسامات الطائفية والعرقية، وروَّج أن سقوطه يعني انتقاماً سنيّاً من الأقلّيات (الأقلية العلوية خصوصاً). حوّل الخوفُ جزءاً من المجتمع درعاً بشرية للنظام، حتى بعد التكلفة البشرية العالية، وعزِل الآخرين بوصفهم تهديداً. بهذه الاستراتيجية تحوّلت الثورةَ حرباً أهلية ثبّتت الطاغية، وأصبح نموذج سورية فزّاعة يخوّف بها طغاة آخرين شعوبهم. وثّمة خوف يعيشه السوريون بعد سقوط نظام الأسد، خوف من انتقام مضادّ، ومن مزيد من الفوضى، استغلال الخوف قد يتسبّب في إعادة إنتاج الاستبداد السياسي، والاجتماعي أيضاً.
من دون مواجهة الخوف، وفهم كيفية استغلاله، سيستمرّ ذريعةَ الطاغية لإعادة إنتاج نظامه. تجعل التنمية الاقتصادية الطاغية أقلَّ جاذبيةً، وتمنع المؤسّسات الديمقراطية القوية تركيز السلطة، بينما ينشر التعليم المدني وعياً بالديمقراطية، وبالتفكير النقدي، ويمنع التلاعب السياسي. أمّا التضامن والشعور بالمسؤولية المشتركة، فيحرّران المجتمع من خوف قابل للتوظيف السياسي.