في الذاكرة الأميركية إعجاب شديد بشخصية مورغان وفلسفته في القتل والإغارة، والتي تقوم على التدخل في آخر أوقات المعركة، بعد إنهاك الخصوم الأقوياء بعضهم بعضاً.
“الكابتن مورغان” هو القرصان الأشهر في التاريخ، عاش خلال القرن السابع عشر، جمع ثروة هائلة، وعن طريقها أنشأت أسرته البنك العملاق المعروف باسمه. كان مورغان يرابط في جزيرة وسط الأطلسي، منتظراً عودة سفن القراصنة الآخرين، بعد رحلتهم فى عرض البحر، محملة بكنوز سفن أغاروا عليها؛ فينقض عليهم ويسلبهم غنائمهم!
في الذاكرة الأميركية إعجاب شديد بشخصية مورغان وفلسفته في القتل والإغارة، والتي تقوم على التدخل في آخر أوقات المعركة، بعد إنهاك الخصوم الأقوياء بعضهم بعضاً؛ ما منحه سمعة قتالية خارقة وثروات بلا حدود، هذا النهج شكل خيطاً ناظماً للذاكرة التاريخية، منذ قيام الولايات المتحدة؛ سال لعاب الأميركيين على ما تحوزه الأمبراطوريات السابقة الإسبانية والفرنسية والبريطانية والهولندية حول العالم؛ فانطلقت تقضم ممتلكات تلك الامبراطوريات “القراصنة”؛ تضاعفت مساحة أميركا أربعين ضعفاً في قرن ونصف، بالقرصنة في أغلب الأحيان، اقتطعت بالقوة تكساس من المكسيك، وكاليفورنيا وفلوريدا وجزر الباسفيك من إسبانيا، واشترت لويزيانا من فرنسا وآلاسكا من روسيا، وجزر فيرجين من الدنمارك.
تمثل غريزة التمدد الجغرافي محدداً للخصوصية الأميركية، عبر الضم بالقوة أو الشراء بالمال؛ لتحويل مستعمرة إلى دولة على مقاس قارة، وهو منطق لا يزال مستمراً. لتوسيع حدود الهيمنة الأميركية فوق التخوم البعيدة، وصولاً إلى الشرق الأوسط وغيره، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أخيراً، رغبته في أن يضم “غزة”، بموجب “السلطة الأميركية” على حد وصفه، ما يؤكد أننا أمام طور استعماري جديد، يسعى إلى أن يكرر مع العرب، ما فعله من قبل مع الإمبراطورية الإسبانية، عندما استولى على مكوناتها، قطعة بعد أخرى؛ لأنه كان يراها “امبراطورية ساقطة” بالمعنى الاستراتيجي، مثلما تصنف واشنطن حالياً غالبية دول المنطقة العربية إلى صنفين: قابل للضرب أو قابل للشراء.
اليوم تحاول الولايات المتحدة أن تعاود الكرة لتوسع حدودها، على مقاس العالم الفسيح؛ عبر القرصنة وعلى حساب أرواح شعوب بريئة. ثمة تماثل كبير بين الكابتن مورغان ودونالد ترامب، كلاهما يريد توسيع الإمبراطورية؛ فالرئيس الأميركي الناشئ في بيئة من الثراء والامتيازات، تسيطر عليه نظرة قتالية نحو العالم، تجعل أميركا كسهم يغادر قوسه المشدود إلى حدود الشرق الأوسط. وراء هذه الاندفاعة “منظومة قوة” تمسك بالقرار الاستراتيجي الأميركي، تحالف من المجمع الصناعي العسكري وكبار الأثرياء واليمين الشعبوي المتطرف وجماعات الضغط الصهيونية، وهي منظومة موصولة بالقوى الاقتصادية والاجتماعية المسيطرة، لا ترى مخرجاً للأزمة الاقتصادية الاجتماعية التي تضرب أوصال المجتمع الأميركي إلا بهذه الاندفاعة.
إن تاريخ أميركا هو تاريخ الحدود المتحركة على الدوام، من دون أي اكتراث بحقوق الآخرين أو بالأخلاقيات؛ وفي ذلك يقول المفكر الأميركي نيكولاس سبيكمان (أبو نظرية الاحتواء) إن “شكل الأرض نفسه يلغي الأخلاق، ويعطي الأقوى المبرر لتدمير الأضعف”! هذا يوجب على العرب جميعاً التحوط للأسوأ؛ في ظل تطورات الأوضاع في الشرق الأوسط والداخل الأميركي. وجود ترامب في البيت الأبيض يجعل كل الاحتمالات واردة، في ظل القدر الهائل من الخلط والتعميم، الإنذار والخطر، والانحياز الفاضح إلى إسرائيل، الأمر أكبر وأخطر مما يبدو… “غزة” أو حتى فلسطين، مجرد ضربة البداية في مخطط أفظع، الأميركيون قادمون إلى الإقليم كمحتلين مسيطرين؛ كي يضموا ثروات دوله إلى إمبراطوريتهم، تشحنهم ذاكرتهم التاريخية، وتدفعهم أطماع وأزمات، خيار وحيد يمكنه عرقلة هذا “التوحش”، إقناع الأميركيين بأنهم سيدفعون ثمنا أكثر فداحة لما قد يسلبونه من غنائم.
حسابات التكلفة هي العنصر الأكثر تأثيراً؛ لكبح شراهة الأمبراطور ترامب تجاه الإقليم، باعتبار أنه شخصية مثيرة للجدل، يبني تحركاته على أساس المكسب والخسارة، ويستعين بمستشارين يمينيين متشددين، في توجيه دفة الأمور، لكنه قد يندفع أحيانا على قضبان الأحداث، كقطار بلا سائق. يذكر ستانلي كارنوف، في كتابه “الامبراطورية الأميركية” أن الرئيس ويليام ماكينلي، الذي بدأ عصر التوسع الامبراطوري الأميركي، كان شخصية غريبة، رجل أعمال وسياسياً لا يملك العمق الرؤيوي أو الثقافة اللازمة لاتخاذ قراراته، لهذا اعتمد على جماعات الضغط من أصحاب المصالح، وشاعت في عهده نكتة في صورة سؤال وإجابة: “كيف يتشابه عقل الرئيس ماكينلي مع سريره؟ لتأتى الإجابة: كلاهما لا بد أن يرتبه له أحد قبل أن يستعمله”. من المحتمل أن يتولى صقور الجمهوريين والأثرياء الجدد وكوشنير صهر ترامب مهمة ترتيب عقل الرئيس الأميركي، قبل أن يستعمله، حتى لا يندفع كعاصفة هوجاء.
أما قاطنو الشرق الأوسط فإن أشد ما يرغبون به هو تجنب السير في مسار فرض السيطرة الأميركية، بكل تداعياتها وارتداداتها، الخيار الأفضل يتمثل في دعوة واشنطن إلى “الشراكة”، مع التسليم بإمكانية الخلل فى عدالة “الشراكة” بين طرف بالغ القوة وشركاء أضعف منه بكثير، لكن تحقيق قدر من العدل يتوقف دوماً على صلابة إرادة الأقل قوة، وحنكته في استخدام أوراقه، وإلا تم افتراسه بلا شفقة!