تزامنت لحظة جلوسي في المقهى مع احتداد النقاش بينهما، وارتفاع صوتيهما من الطاولة المجاورة. كان جدالاً كلاسيكياً بين أم عربية وابنتها المراهقة، فالأخيرة تطالب بالخروج والتسكع مع بعض الصديقات، والأم تؤكد أنها لا تعرفهن، ولا “تعرف أخلاقهن”، فتستصعب الثقة بهن. ثم ما لبعض هؤلاء الصديقات وهن أكبر عمراً من ابنتها؟ وكيف تقاطعت طرقهن أصلاً؟ “لا وألف لا”، شدّدت الأم.
شعرت بأنني دخلت مقهى توقّف فيه الزمن عند مراهقتي، حتى أن ردود هذه المرأة وتساؤلاتها بدت كاقتباسات مباشرة من أمي، جعلتني أبتسم سراً أحياناً، وأهزّ رأسي بامتعاض غالباً.
ولكنني على الجانب الآخر لم أسمع نفسي في الابنة. لسبب عجزت عن تفسيره آنذاك، وربما ما زلت أخجل منه، فأنا لم أتعاطف بالضرورة معها، ولم أكترث لـ”هزيمتها” في النقاش، على رغم أنها كانت تخوض “معركة” كلّ فتاة عربية لانتزاع حريتها.
وسرعان ما فككت الشفرة.
إن الفتاة كانت تتحدث بالإنكليزية بينما الأم ترد بالعربية، فبدت لي في تلك اللحظة بلكنتها الأميركية أقرب إلى شخصية دخيلة من أحد مسلسلات “ديزني”، أو مستشرقة فضولية تختبر “تحديات أن تكوني فتاة عربية”. لم تكن تتحدث بلساني -حرفياً- ولم تشبهني، ولم تذكّرني بنفسي. والأدهى والأمر أنها لم تستدرّ شفقتي.
هكذا بتّ أتخيّل المستقبل: قطيعة وجدانية مستفحلة، وهوة عاطفية سحيقة، بيننا وبين هذه الأجيال التي تنشأ اليوم وهي تتحدث بالإنكليزية، وتلعب بالإنكليزية، وتفكر بالإنكليزية، وتحلم بالإنكليزية.
كيف لنا أن نضحك مع أجيال لم تفتنها اللهجة المميزة لـ”ضيعة ضايعة”، ولا تحفظ عن ظهر قلب “أفيهات” سعيد صالح في “العيال كبرت”، وتسبقه إليها؟ ماذا يجمعنا بأجيال لم تجد المتعة في صراعات المحللين الكرويين العقيمة على هامش كل نسخة من بطولة “كأس الخليج”، ولا تعجب بجرأة “تغريدات” فائق الشيخ علي، العضو السابق في البرلمان العراقي، إذ يطعمّها ابن النجف بمصطلحاته العامية؟ وكيف عسانا نتخاطب مع من سيفوتهم كل “ميم” أو إحالة على ثقافتنا الشعبية، فلا ترن في آذانهم جملة “اش قربك للواد؟” المفضلة للمعلّق عصام الشوالي، وسينظرون إلينا بحيرة حين نهدّد مازحين بتعقبهم “بيت بيت، دار دار، زنقة زنقة؟”.
وأنا كإماراتية، كيف لي أن أطرب مع من لا يردد أغاني ميحد حمد بلهجتها المغرقة في العامية، ولا يقرأ قصائد عوشة السويدي، ولم يستوعب قصص جدته المرتدية البرقع عن “أم الدويس”، الجنية التي تستميل الرجال، ثم تقتلهم وتأكلهم؟ بل هو على الأرجح يستعين بوالديه ليتوسطا كمترجمين.
وكيف ستؤثر كل تلك الاختلافات على تراحمنا، وتجانسنا، وتآخينا، إذ تضمحل بيننا وبين هؤلاء “العرب الجدد” القواسم المشتركة، والطفولات المتشابهة، والتجارب المتطابقة؟ وحتى في ظل إتقان أجيالنا للإنكليزية لمدّ جسور التواصل، أفلن تتراكم هذه المسافات الصغيرة لتخلق بوناً ثقافياً شاسعاً بيننا وبينهم؟
يا له من مستقبل حالك ومخيف!