
من خلال إصداره الجديد، «السيد كوبر وتابعه» (دار نوفل)، يُعرّض الشاعر اللبناني عقل العويط نفسه لقسوة الاعتراف. وهو إذ يؤكد أنّ أخاه ورفيقه ومؤنس وحشته، كلبه كوبر، بطل السرد الوحيد، فذلك لجعله في المرتبة المُستحَقة، ولكونهما يتصلان معاً بوحدة العيش وتحمُّل المصير. يسمّي نفسه الظلّ، بل التابع، كما تبِعَ سانشو دونكيشوت في رواية ثرفانتش. يلتقي الاثنان، هو ومَن يمنحه صفة السيادة، في فعل «التوثيق»، فتُجسّد السنوات الستّ، عمر هذا الكائن الأليف بصحبته، سيرة مشتركة لكينونة تنشطر إلى وحدتين؛ إنسان و«كلب»
كوبر «مُدرِك»، وفق تابعه، يقيم كونٌ في عينيه لحظة الشرود ووقت السكينة، فيراه الشاعر على هيئته، مُحمّلاً بالأحزان والتساؤل وغربة الشعور. يعليه في المراتب، فلا يعوزه «العقل» للفهم والمثول أمام الحقائق، بل يسوّيه بمَن يعقل ويعي. يصنّفه عالياً، بين مَن لديهم حكاية ويتحلّون بالأثر و«السطوة» والتقدير. ويمنحه الاستثناء لكونه وحده يشاركه السقف، هو المُعترف باستحالة الإبقاء على رفقة، من أي صنف، يتقاسم معها الجدران والطقوس.
كوبر الشريك والأخ وسائر صفات «الارتفاع بالعلاقة إلى مصاف التواصل الكياني والوجودي والفلسفي بين شخصين، من دون لغة»؛ بتعريف «صاحبه»، يُخرج الحب الأكبر إلى التدفُّق. كأنه لا مجال ليبقى «شخصياً» وداخلياً، بل لفرط اتقاده، تليق به المجاهرة، وتجدر به المشاركة النبيلة والتعميم العظيم.
السرد من اتجاهين، الأول نحو الكائن الآخر، والثاني نحو الذات بما يمتّ لوجودها المحض من جهة والمتّصل بالحب الصافي لكوبر، المنزّه عن شرط، من أخرى. فالكتابة تبدأ من طرف لتعبُر نحو الثاني، ثم تعود أدراجها من هناك إلى هنا. «الكلب» والشاعر في معادلة واحدة أمام سؤال العاطفة والعقل. منذ التبنّي والتردّد، إلى اليقين بالمصير المشترك. يسمّيها «تناقضات شعورية وعقلية» عصفت به منذ قراره، بدفع من ولده، إلى إشراك كوبر عالمه. يسمّيها أيضاً «المغامرة الكبرى في حياتي».
الحالة التي «تفوق كل تعبير ووصف»، يحيلها على التجسّد والوضوح؛ فيشرّع أبوابه المغلقة لـ«الاقتحام» بطيب الخاطر، بإذنه وموافقته. كوبر عراءُ عقل العويط بإرادته وكامل حرّيته. يجعله ينطق بما يتوارى خلف الشعر ويجاهر بما تضيق به العبارة. بالحب النبيل حيال الكائن، يَشرح ما لا يُشرَح. يُبحر في العينين ولغتهما ويفسّر تعقيدات المعنى، حتى إنْ حدَّق بشروده، واستوقفته أوجاعه، تساءل: «أيكون ألم الوجود وقفاً على البشر، دون سواهم من الكائنات، كالأشجار مثلاً، كالجبال، كالأنهار، أو كالحيوانات؟». تجعله العينان يجزم: «كوبر عارف ما بي (…) أعرف أنه يعرف. لولا ذلك، كيف يمكنه أن يوجّه إليَّ نظرات متضرّعة، أو عاتبة، أو مُنذرة، إذا كان غير قادر على إدراك ما تثيره فيَّ هذه النظرات؟».
يُصبغ بالمألوف علاقةَ الكائنين، الشاعر و«الكلب»، ويُفرّغ المسألة من ذهولها في الأعين الأخرى. يكتب أنه وبَّخ أحدهم بعد امتعاض، واصفاً كوبر بمثابة «أخي وابني»، مصرّاً على معاملته بأناقة، فيُطعمه ويؤمن علاجه ويصون كرامته. وهو لا يمنحه ما يتعلق بالمادة والتكاليف فحسب، بل الأغلى، أي المزاج والرفقة، وإنْ يميل السلوك إلى التأمل والطبع إلى البقاء على مسافة من الجنس البشري.
يترك نفسه يُمحى و«ينساق»، ويكون «التابع» ورهن أمر الكائن. يعترف بـ«التبعية» و«يمدحها»، لكون منبعها الصفاء الخالص والروح الكبرى، فيُعطي لجمال العطاء حين لا ينتظر، ويَمّحي لعظمة أن يصبح الكلّ بعضاً من الكلّ المقابل، ويغدو الاثنان واحداً، بأقصى الحب: «أنت الآن هو الآخر الوحيد، يا كوبر. هل فهمت؟ هل عرفت الآن مكانتك عندي؟».
لم يكن كوبر ليُحدث الدخول المفاجئ في حياة الشاعر لولا إلحاح وحيده على تبنّيه. ما بدأ بارتباك، تتوَّج بمنتهى التعلُّق، حتى ليقول: «أعرف فقط أنّي أحبّ كوبر حباً حقيقياً وبعمق. الحب الذي لا يعتريه أي تردّد أو التباس أو مطمع. الحب الذي يستولي ويجتاح ويسيطر ويحتضن ويرأف ويعيد ترتيب المعادلات والموازنات». هذا كتاب الحب والوفاء. كأنه دَيْن ينبغي «تسديده» وأمانة عليها أن تعود إلى صاحبها. «الحِمْل» الآن يستريح.
يحضر كوبر في المفارق، ويتخذ دوراً في الشدّة، فيستعيد الشاعر أبرز الأحداث المُلمّة بشخصه والحال العامة، منذ ثورة «17 أكتوبر» إلى آلام «الكوفيد» وهول اغتيال بيروت. الأعوام الأخيرة، يستدعيها بفجاجتها وعقمها، مُرفقة بما أصابه من انتكاسة مالية فرضت بيع لوحات لتسديد قسط الابن الجامعي. كوبر «رجل» هذه المسارح، وحوادث أخرى متفرّقة، منها ارتطام الشاعر بسيارة وتهديد أفعى منزله، ليصوّر مُنقذه في الحالتين بأقصى الأباهيّة.
الجزء المتعلّق بالمرأة هو اكتمال القصة وذروتها. بينما يُغلّب الشاعر الحُبّين الكلّيَيْن؛ الابن و«الكلب»، تدخل النساء المجال السردي من بابه العريض، وإن عَبرْن حيناً وبقينَ في الصميم لبعض الوقت. لكنهنّ والشعر عزاء منقوص وخلاص لا يكتمل، فيكتب ولا يُشفى، ويعشق ولا تلتئم جرحه. كوبر شكل آخر للعزاء، «إنه حب مضاد لهذا العدم الذي يعطب العيش ويجعله بلا معنى». مرآةُ الشاعر و«فضيحته». كاشفُ عطبه من دون كلام.