أثارت رسالة زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله اوجلان التي أعلنها الوفد الكردي الذي التقاه بالأمس قد اثارت موجة كبيرة من التساؤلات، نظرا لمضمون المبادرة من ناحية، والشكل الذي رافق الإعلان عنها من ناحية أخرى. فالترتيبات التي لازمت الإعلان عن المبادرة جاءت مخيبة للتوقعات، حيث بينت بأن الطرف التركي تعمد منع ظهور السيد عبد الله اوجلان في البرلمان كما كان يروج له، او نقل حديثه عبر القنوات التلفزيونية، أو حتى عبر الفيديو، مكتفيا بنشر صورة يتيمة له مع أعضاء الوفد الذي زاره. نجحت السلطات التركية عبر التظاهر بالازدراء المفتعل والتضييق الإعلامي أن تنال من حجم تأثير المبادرة من الناحية الإعلامية والنفسية، إلا انها فشلت في تقليص تأثيرها السياسي على الصعيد العالمي والإقليمي والمحلي.
من حيث المضمون، بدأ السيد اوجلان رسالته بشكل مقتضب عن ظروف تأسيس الحزب، ثم عن انتفاء الحاجة إليه بعد ” انهيار الاشتراكية الواقعية في التسعينات “، متطرقا إلى طبيعة العلاقات الكوردية – التركية – العثمانية، بشيء من المبالغة الواضحة ومجانبتها الواقع التاريخي، حيث تحدث اوجلان عن أكثر من ألف على تحالف الكورد والأتراك ضد القوى المهيمنة، مذكرا بأن المسؤول عن تفكيك هذا التحالف وانهياره هي” الحداثة الرأسمالية ” في القرنين الأخيرين، متغافلا عن أن هذه الحداثة هي نفسها التي نشرت الأفكار القومية والوعي القومي، ليس وسط الاوربيين فحسب، بل ووسط الكثير من الشعوب ومن بينها الكورد. ناهيك أن الألف عام من التحالف غير دقيق، ذلك لأن قدوم الاتراك السلاجقة قد بدأ في القرن الحادي عشر الميلادي. لقد تحدث اوجلان بنوع من الوردية عن هذا التحالف، متجنبا الإشارة إلى عشرات الانتفاضات الكوردية ضد الحكم العثماني والتركي، التي كانت تخمد بالنار وتغرق في الدماء، الأمر الذي قد يعتبره البعض، بأنه محق في ذلك، كون التطرق إلى هذا الأمر يتنافى، أو لا ينسجم مع فحوى رسالته الداعية إلى إلقاء السلاح وحل الحزب والجنوح نحو السلم والاندماج.
قضية أخرى اثارت بعض اللغط، وهو اعتباره أن النضال من أجل” إنشاء دولة قومية منفصلة، أو فيدرالية، أو الحكم الذاتي، أو الحلول الثقافوية ” نزعات قومية متطرفة ” لا تلبي متطلبات الحقوق الاجتماعية التاريخية للمجتمع “. من الضروري التذكير بأن الكورد لم يكونوا يوما من أنصار النزعات القومية المتطرفة ، بل كانوا ضحيا لهذه النزعة من قبل الترك والفرس العرب ،و لم يتخلوا عن حقهم في تقرير المصير، وإنشاء دولتهم القومية المستقلة خوفا أو تبرعا ، بل انطلاقا من ادراكهم للحقائق والظروف الموضوعية ولطبيعة الخارطة الجيوسياسية في المنطقة، وكذلك ميزان القوى الدولية والإقليمية والذاتية، لذا اكتفوا حسب ظروف كل دولة بالفيديرالية أو الحكم الذاتي أو الإدارة الذاتية ضمن الدولة الواحدة. من الغريب والملفت للنظر ان يدخل السيد اوجلان حتى صيانة الهوية الثقافية الكوردية ضمن نزعات التطرف القومي.
لقد وجد السيد اوجلان بأن كل هذه المعضلات التي يعاني منها الكورد، يمكن حلها عبر” التوافق الديمقراطي”، الصيغة التي تنادي بها الأوساط السياسية الحاكمة المتهربة من استحقاقات القضية الكوردية عبر استبدالها بمقولات أخرى، مثل بناء الدولة المدنية أو دولة المواطنة. لقد بينت التجارب التاريخية بأن الاستناد إلى ” الديمقراطية ” كأسلوب حكم على الرغم من أهميته في بناء الدول وصيانة حقوق الأفراد، تبقى عاجزة عن تلبية حقوق الجماعات القومية، والأقليات الأثنية، والدليل على ذلك المشكلات التي اعترضت اسبانيا وانكلترا وفرنسا وكندا وغيرها.
قضية أخرى تثيرها رسالة عبد الله اوجلان، وهي تجنبها الواضح لملامح التصور المتفق عليه بين الطرفين حول حل القضية الكوردية في تركيا، إذ افتقدت الرسالة لأية إشارة لا من قريب ولا من بعيد لهذا التصور. حيث غيب أهم أسس هذه “المساومة ” التاريخية، ومما زاد من هذا الابهام هو التعتيم المتعمد من قبل الطرف التركي. كان من المنتظر أن يتطرق أوجلان إلى اهم النقاط المفصلية دون الخوض في التفاصيل أمام الرأي العام، وأمام رفاقه بالدرجة الأولى، قبل أن يطلب منهم إلى عقد مؤتمر للتشاور فيما بينهم حول مسألة إقرار التخلي عن السلاح وحل الحزب. لقد فهم بأن مهمة المؤتمر يكمن في التصديق وإقرار ما طرحه اوجلان ، ومن ثم البحث في مسألة ” الاندماج مع الدولة والمجتمع “وأساليب تحقيقه .
لقد استقبلت مبادرة عبد الله اوجلان، على الرغم من كل ما ذكر، بالارتياح والتأييد من قبل الأوساط الحزبية المدنية والفئات الشعبية المناصرة له، وكذلك من قبل الأوساط الدولية والإقليمية، بالإضافة إلى قيادات إقليم كردستان العراق والأحزاب والفصائل السياسية الكوردية بمختلف توجهاتها. في حين أنه مايزال موقف الجناح العسكري مبهما، فقيادة قنديل لم تخرج ببيان واضح بعد، على الرغم من أن القائد العسكري قره يلان سبق وأن صرح بأن:” القائد آبو يريد أن يحول اليوم الأسود[يوم اعتقال أوجلان ] إلى يوم ابيض ” وأن التخلي عن السلاح يستوجب عقد مؤتمر يتخذ خلاله القرار ” لا أن يتم ذلك بناء على دعوة عبر الفيديو. ومما عمق الشكوك في التزام قنديل بمبادرة اوجلان، هو تبادل إطلاق النار مساء الأمس بين القوات المتمركزة في قنديل والقوات التركية.
لا شك أن مبادرة اوجلان ستثير الكثير من الجدال في صفوف الحزب سواء أكان ذلك في الجناح السياسي او العسكري، ومن السابق لآوانه الخروج بتقييمات حول موقف الحزب وخاصة جناحه العسكري من مبادرته. لكن لا ينفي ذلك من احتمال أن ترفض بعض الأوساط الحزبية المتنفذة، إلى جانب بعض القيادات العسكرية قبول المبادرة، وأن تتخلى عن امتيازاتها وسلطاتها التي تمتعت بها طول اكثر من عقدين من الزمن بهذه السهولة، خاصة إذا ما أخذ بعين الاعتبار الغموض الذي يكتنف الموقف التركي. هذه العوامل تزيد من إمكانية ظهور خلافات وانشقاقات في صفوف الحزب والعسكر. لقد صرح جنكيز تشاندرا (النائب التركي عن دم بارتي) في منتدى أربيل بهذا الصدد، بأن التزام حزب العمال الكردستاني بمبادرة اوجلان مقرونة بمعرفة ” الحزب ما الذي سيأتي في المرحلة المقبلة ويكون متأكدا منه، وهذا يقع على عاتق الحكومة “. في هذا السياق صرح قائد قسد مظلوم عبدي بأن موقفنا من مبادرة السيد اوجلان ايجابي، على الرغم من أنها ليست موجهة لنا، بل لمقاتلي البيكيكي .
تؤكد مبادرة عبد الله اوجلان مرة أخرى، و بالرغم من كل ما سبق، بأن حزب العمال الكوردستاني مستعد للتخلي عن السلاح والانخراط مع السلطات التركية في حوار يهدف إلى إيجاد حلى سلمي ومرضي للقضية الكوردية داخل وخارج تركيا. كما تأتي أهمية هذه المبادرة في أنها ستعري الإعلام التركي وتفضح اكاذيبه عن إرهاب بيكيكي، وعن شرعية تدخل الاتراك في شؤون الدول المجاورة بذريعة حماية أمن الدولة التركية ، و الذي يهدف من ورائه عرقلة مسير الكورد نحو تحقيق حقوقهم المشروعة. ستظهر هذه المبادرة حقيقة توجهات اردوغان وحكومته وكذلك الدولة التركية العميقة إزاء معالجة القضية الكردية أمام الرأي العام الدولي والمحلي، إن هي تنصلت من الحوار مع الكورد ، ونبذت الاساليب السلمية التي تعود بالنفع على استقرار تركيا ودول وشعوب المنطقة .