ملخص
يرى الأكراد في سوريا أنهم كانوا عرضة لسياسات وقرارات عنصرية صدرت في حقهم وألغت هويتهم وصادرت أملاكهم وأراضيهم بمسميات مختلفة، إلى جانب تغيير ديموغرافية مناطقهم في حين تنتعش الآمال بمناقشتها مع العهد الجديد للبلاد في ظل حكم انتقالي قد ينصفهم.
يمثل الـ24 من يونيو (حزيران) تاريخاً مشؤوماً للأكراد في سوريا، إذ يشير إلى ذكرى تنفيذ مشروع سياسي استولت بموجبه حكومة حافظ الأسد على مئات آلاف من الدونمات ونزعت ملكيتها عن أصحابها الأكراد وأكملتها بتوطين آلاف العائلات العربية في عشرات القرى التي بنتها في موازاة الخط الحدودي مع تركيا في مسعى إلى إعادة هندسة المجتمع ذي الغالبية الكردية في هذه المنطقة.
وبحسب الجهات الكردية السورية فإن القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي أصدرت القرار رقم (521) بتاريخ الـ24 من يونيو 1974، معلنة البدء في تنفيذ مشروع “الحزام العربي” الذي كان قد تم إقراره عام 1966″كجزء من سياسات عنصرية استهدفت الشعب الكردي في سوريا” وفق المجلس الوطني الكردي الذي يعد أبرز التشكيلات السياسية الكردية خارج إطار الإدارة الذاتية.
ومن أجل تنفيذ هذا المشروع “العنصري” صادرت الحكومة السورية أراضي زراعية خصبة بمئات آلاف من الدونمات وأشرفت على نقل آلاف العائلات ذات الأصول العربية من حوض الفرات بريف الرقة وحلب الذين غمرت أراضيهم بمياه بحيرة سد الفرات بعيد إنشائه، كذلك أسست الدولة نحو 40 قرية سماها الكرد بالمستوطنات وتوزعت على طول الشريط الحدودي مع تركيا بدءاً من غرب مدينة سري كانيه (رأس العين) وصولاً إلى الحدود مع إقليم كردستان العراق في ريف ديريك (المالكية).
لا يرى الكرد تنفيذ هذا المشروع في مناطقهم إلا سياسة عنصرية انتهجتها حكومات حزب البعث العربي الاشتراكي بعد وصوله إلى الحكم عام 1963 بانقلاب عسكري وهدفها تغيير ديموغرافية المنطقة التي يوجد فيها الكرد تاريخياً وقطع أوصالهم في الداخل السوري ومع امتدادهم السكاني الطبيعي مع أقرانهم في تركيا والعراق.
يقول المجلس الوطني الكردي في بيان أصدره في الذكرى الـ51 لاتخاذ نظام الأسد الأب قرار تنفيذ (الحزام العربي) “كان هذا المشروع من أخطر السياسات الشوفينية التي تبناها النظام البعثي، إذ أُقيم شريط استيطاني يمتد بعمق 15 كيلومتراً جنوباً على طول الشريط الحدودي بين سوريا وتركيا في محافظة الحسكة”.
سبق للحكومة السورية الاستيلاء على أملاك وأراض زراعية في محافظة الحسكة السورية في زمن الوحدة مع مصر وفي أعوام لاحقة وذلك وفق القانون رقم 161 لعام 1958 حول الإصلاح الزراعي في سوريا وبتوقيع رئيس ما عرفت بالجمهورية العربية المتحدة جمال عبدالناصر، وكذلك تعديلات هذا القانون وفق مرسوم تشريعي 88 لعام 1963 وفي محصلة هذا الاستيلاءات تتجاوز مساحة هذه الأراضي 3 ملايين دونم من الأراضي الزراعية الخصبة التي تقع غالبيتها في ما يعرف بخط العشرة المعروفة بغزارة أمطارها ووفرة إنتاج محاصيلها.
دراسة محمد طلب هلال
لا يرى الأكراد السوريون تنفيذ مشروع الاستيلاء على الأراضي الزراعية إلا حلقة ضمن سلسلة إجراءات وسياسات تستهدف الكرد الذين كانوا خارج نطاق السلطة ومن دون أي تمثيل رسمي معترف به في نظام الحكم على مدى عقود من تأسيس الدولة في عشرينيات القرن الماضي، ويستشهد الكرد بدراسة أمنية وسياسية واجتماعية أعدها رئيس الشعبة السياسية في الحسكة الملازم أول محمد طلب هلال عام 1963 قدمت للحكومة، ونفذ كثير من مضامينها في أعوام لاحقة في حقهم، إذ قدم هلال في دراسته نحو 12 مقترحاً تشمل عمليات التهجير والتجهيل وخنق المنطقة اقتصادياً، إضافة إلى إثارة المشكلات بين الكرد وجيرانهم العرب ومنع إعطائهم الجنسية السورية و”إسكان عناصر عربية وقومية في المناطق الكردية على الحدود” كما ورد في مقترحه الثامن، في حين يذكر في البند العاشر من مقترحه الأمني والسياسي “إنشاء مزارع جماعية للعرب الذين تسكنهم الدولة في الشريط الشمالي، على أن تكون هذه المزارع مدربة ومسلحة عسكرياً كالمستعمرات اليهودية على الحدود تماماً”، ويختتم الدراسة بأن “هذه المقترحات ليست كافية، بل أردنا منها إثارة المسؤولين بحسب خبرتنا، لتكون تباشير مشروع خطة جذرية شاملة، لتؤخذ للذكرى بالاعتبار”.
الأكراد يتفقون على المطالبة بـ”نظام اتحادي” في سوريا الجديدة
في حين يرد نمط التفكير المؤسساتي للدولة في نية إحداث تغيير ديموغرافي بمحافظة الحسكة (الجزيرة) في أدبيات حزب البعث العربي الاشتراكي حتى قبل وصوله إلى السلطة، إذ ورد في دراسة أعدها الباحث الكردي آزاد أحمد علي حول مضمون أول عدد لصحيفة حزب البعث تضمن فيها مقالات وأفكاراً تتحدث عن ضرورة نقل بدو عرب وإسكانهم في المناطق الكردية وتخصيص أموال حكومية لتنفيذ تلك المشاريع.
من جهته يرى المجلس الوطني الكردي أن مشروع “الحزام العربي” لم يكن معزولاً عن سياسات التمييز الممنهج، فقد سبقه “الإحصاء الاستثنائي” لعام 1962، الذي جُرّد بموجبه مئات آلاف من الكرد من جنسيتهم السورية، “مما أدى إلى حرمانهم من حقوقهم المدنية والاجتماعية عقوداً”، ويتابع بأن المشروع جاء “ليعمّق هذا التهميش ويحوّل شريحة واسعة من أبناء الشعب الكردي إلى مهجّرين محرومين من أرضهم وهويتهم”.
مطالبات بإلغاء المشاريع العنصرية
على مدى عقود طالبت الحركة السياسية الكردية بإزالة الإجراءات ووقف السياسات الحكومية تجاه الوجود الكردي في سوريا وأخيراً وفي اجتماع عقد في الـ26 من أبريل (نيسان) الماضي للأحزاب الكردية المنضوية تحت الإدارة الذاتية وكذلك المجلس الوطني الكردي عرف بـ”كونفرانس وحدة الموقف والصف الكردي” وجاء في البندين التاسع والعاشر بالوثيقة السياسية الصادرة عن الاجتماع “إلغاء كل السياسات والإجراءات والقوانين الاستثنائية التي طبقت في حق الكرد مثل مشروع الحزام العربي وعمليات التعريب في المناطق الكرديّة، وتعويض المتضررين من تلك السياسات التمييزية وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل صدورها وإلغاء الاتفاقات السرية والعلنية التي تمس السيادة السورية والوجود الكردي”، إضافة إلى “إعادة الجنسية السورية للمواطنين الكرد المجردين منها بموجب إحصاء 1962 الاستثنائي المتبقين منهم ومكتومي القيد”.
Capture.PNG
عناصر من «قوات سوريا الديمقراطية» التي يقودها الأكراد في محافظة الحسكة السورية (رويترز)
أما المجلس الوطني الكردي في بيانه الأخير فقد توجه بصورة مباشرة للحكومة السورية الانتقالية والقوى الوطنية السورية للمطالبة “بمنح أولوية لإلغاء نتائج مشروع (الحزام العربي)، وإعادة الأراضي لأصحابها الشرعيين، وإنهاء آثار إحصاء عام 1962 عبر منح الجنسية للمجردين منها، وتعويض المتضررين، وإطلاق حوار جاد مع الوفد الكردي المشترك يُفضي إلى حلّ ديمقراطي عادل للقضية الكردية، يقوم على مبدأ الشراكة الوطنية الحقيقية” وفق تعبيره.
الشرع يفتح الباب
أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع الثلاثاء الماضي المرسوم رقم (121) لعام 2025 والقاضي بتكليف وزارة العدل بإعادة تشكيل اللجنة القضائية المكلفة بالبت في الاعتراضات المقدمة من المتضررين من مفاعيل الأوامر والقرارات العرفية الصادرة بالاستيلاء على الأموال المنقولة وغير المنقولة في ظل نفاد حال الطوارئ التي أعلنت استناداً إلى أحكام المرسوم التشريعي رقم 51 لعام 1962، وعليه فإن الباب أصبح الآن مفتوحاً من قبل الدولة على العكس من العقود السابقة، في مناقشة نتائج مشروع الحزام العربي وكذلك القرارات التي نصت على استيلاء الدولة على ممتلكات السكان.
يرى الباحث في مركز الفرات للدراسات وليد جولي أن المرسوم يُمثل خطوة أولية في الاتجاه الصحيح من جهة الشكل، “كونه يفتح الباب أمام مراجعة قرارات استيلاء كثيراً ما اعتُبرت من مظاهر الظلم المؤسساتي خلال عقود الطوارئ”. إلا أنه يعتقد أن الأثر العملي لهذا المرسوم يبقى مرهوناً بطبيعة النظام السياسي الذي سيتولى تنفيذه.
1744375206919-mazlum-abdi-ve-ahmed-es-sara.jpg
الشرع فتح الباب لمناقشة نتائج مشروع الحزام العربي (رويترز)
ويوضح جولي بأن استمرار نظام الحكم بمركزية صلبة وآليات تحكم من الأعلى، قد يتيح المجال لمحاولات الالتفاف على جوهر القرار، أو توجيهه نحو ملفات محددة تخدم جهة أو فئة معينة، أما في حال الوصول إلى تفاهمات سياسية حقيقية تُفضي إلى نظام لا مركزي بمرونة إدارية وتمثيل فعلي للمجتمعات المحلية، “فربما نشهد تطبيقاً أكثر عدالة، لا سيما في ما يتعلق بملفات تاريخية مزمنة كقضية الحزام العربي وما رافقها من استيلاء على أملاك مواطنين كُرد من دون سند قانوني أو تعويض”.
“صلب العدالة الانتقالية”
وبحسب الباحث الكردي ثمة تحديات إضافية لا تقل أهمية، لا سيما الإنصاف الكامل لآلاف الملاك الكرد المطرودين من أراضيهم عقوداً طويلة، مع ما رافق ذلك من خسائر اقتصادية وتهميش اجتماعي، “لا يمكن معالجته بإجراءات شكلية أو تسويات انتقائية”. مضيفاً أن إعادة الأملاك المسلوبة لأصحابها الأصليين يجب أن تكون الخطوة الأولى والأساسية، ويليها تعويض مالي عادل عن أعوام الحرمان والضرر المتراكم، وأن ذلك يشكل استحقاقاً قانونياً وأخلاقياً يدخل في صلب العدالة الانتقالية، على حد تعبيره.
ويعتقد جولي بأن المسار الصحيح لتطبيق المرسوم يجب أن يكون وفق آلية قانونية منسجمة مع روح العدالة الانتقالية، عبر تشكيل لجان محلية مستقلة في المناطق المتضررة، تُمنح صلاحيات كاملة لتوثيق الانتهاكات وتحديد الممتلكات المصادرة وتقدير الأضرار المادية والمعنوية، مع ضمان مشاركة ممثلين عن المجتمعات المحلية، إضافة إلى ذلك يجب أن تلتزم الدولة إعادة الحقوق الكاملة لأصحابها، أرضاً وتعويضاً، “باعتبار ذلك شرطاً لأية مصالحة وطنية حقيقية وصدقية في بناء مستقبل عادل ومتوازن” على حد وصفه.