سبق لـ”حزب الله” أن فضّل التقسيم على الفيديراليّة. فعندما بنى “دويلته” اختار التقسيم، على أن تهيمن “دويلته” على الدولة اللبنانية المركزية. وفي كل مرّة كان يلمّح أحدهم إلى خيار الفيديرالية كان نصرالله وأتباعه يعتبرونها “خيانة وطنيّة” لن يسمحوا بحصولها.
في المقابل كان الحزب يروّج في خطابه وفي سلوكه للفيديراليّة الإسلاميّة، ومركزها إيران، فيما تشكّل بعض البلدان العربيّة، مثل سوريا والعراق ولبنان، مناطقها المفدرلة. لم تكن الفيديراليّة بالنسبة إلى “حزب الله” جواباً على التعدديّة الدينيّة أو الطائفية أو الإثنية أو اللغويّة. فبوجود التعدّديّة، الدينيّة أو الطائفيّة، في لبنان مثلاً، اختار التقوقع في “دويلته” والهيمنة على الآخرين، من خلال التسلط على الدولة أو تعطيلها. في حين أنه يتقبّل شكلاً من أشكال الفيديرالية في دولة إسلامية هُمِّشت فيها باقي أنواع التعدّديّة، وأخضعتها لحكمها.
في هذا السياق فيديرالية “حزب الله” محض إدارية ولا علاقة لها بتنظيم التنوّع والتعدّد في إطار من الحرية والديموقراطية، كما يطرحها البعض.
بعد الانكسارات العسكرية التي تعرّض لها “حزب الله” على يد إسرائيل، وانتقال البلاد إلى مرحلة سياسية جديدة، مع انتخاب جوزف عون رئيساً للجمهورية وتأليف حكومة جديدة برئاسة نواف سلام، عنوانها العريض إعادة بناء الدولة التي كان يهيمن عليها “حزب الله”، وجد هذا الأخير نفسه في مأزق وجودي. فمن ناحية لم يعد بمقدوره الهيمنة على الدولة، ومن ناحية ثانية قد يتطلب اندماجه في الدولة، إلغاء نفسه كتنظيم عسكري ديني يتبنّى عقيدة ولاية الفقيه الإيراني.
تناولتُ بالكثير من الإسهاب صعوبة لا بل استحالة اندماج “حزب الله” في الدولة، في مقال نشرته في “النهار” بعنوان “حول مطلب عودة “حزب الله” إلى الدولة”. أكتفي بهذا النص بالملاحظات السريعة التالية:
– “حزب الله” لم يخرج من الدولة ليعود إليها. فقد تأسّس على يد “الحرس الثوري” الإيراني سنة 1983. إذن نحن منذ البداية أمام مشكلة الانتماء إلى لبنان وليس الخروج (من) أو العودة إلى الدولة، ومن الأصح المطالبة بعودة “حزب الله” إلى لبنان.
– أنا أسلّم بأن أعضاء حزب الله هم لبنانيون لكن هذا لا يعني بالضرورة أن الحزب لبناني. “حزب الله” ينتمي عمليّاً إلى تنظيم إقليمي إيراني ويشكّل هو أحد فروعه، وللتنظيم فروع أخرى من جنسيات أخرى، وعلى “حزب الله” الاستقلال عن هذه الهيكليّة التنظيميّة الإيرانيّة إذا أراد أن يتلبنن.
– اندماج “حزب الله” في الدولة يفترض تجاوز تحدّيين. أولاً تحوّل الحزب من حزب عسكري إلى حزب سياسي أي التخلّي عن سلاحه، وثانياً تحوّله من حزب ديني إلى حزب مدني ولو طائفياً، فالأحزاب الأخرى معظمها طائفي في تركيبتها، لكنّها ليست دينيّة في عقيدتها ولا في ممارساتها، بل مدنيّة في الإجمال. فضلاً عن أنه لا دين للدولة اللبنانية.
– عقيدة “حزب الله” السياسيّة هي ترجمة لعقيدته الدينيّة فهو يتبع نظام ولاية الفقيه الذي يستتبع النظام البرلماني ويضعه في خدمته وتحت إمرته. فكيف يندمج في نظام قائم على الديموقراطيّة البرلمانيّة مثل لبنان، ومصدر السلطة فيه هو الشعب وليس الولي الفقيه؟
تخلّي “حزب الله” عن المال وعن السلاح وعن العقيدة الإيرانيّة لا يعني فقط تخلّيه عن نفسه بل عن الوسائل الأساسية في عملية استقطابه لجمهوره الذي استنهضه خلال تشييع نصرالله. فهل سيستخدم هذا الاستنهاض لتسهيل عمليّة انخراطه في الدولة أم لتدعيم تصلّبه وتقوقعه، أم قد يلجأ إلى خيار ثالث، كتسوية بين الخيارين الصعبين، وهل يكون هذا الخيار هو الفيديراليّة؟
ليس معروفاً بعد كيف سيتعامل “حزب الله” مع المرحلة الجديدة. فخطابه متناقض: مع الطائف وفي الوقت نفسه مع التمسّك بالمقاومة؛ “نواف سلام صهيوني” لكنه يعطي الثقة لحكومته. وفي اليومين الأخيرين تكرر صحيفة “الأخبار”، الناطقة باسم الحزب، اتهام العهد بالعمل على التطبيع مع إسرائيل بطلب أميركي وتهدّد على لسان رئيس تحريرها: “إن أيّ محاولة للخضوع لهذه الطلبات أو مسايرتها تحت عنوان «الانحناء للعاصفة»، ليست في حقيقة الأمر سوى انصياع لطلبات لن تؤدّي سوى إلى اندلاع الحرب الأهلية في لبنان مجدداً، لأن من السذاجة الاعتقاد بأن تيار المقاومة في لبنان سيقبل بمثل هذا الأمر، أياً تكن الأكلاف والتضحيات!”
لا شكّ في أن إصرار “حزب الله” على الاحتفاظ بسلاحه أو على التهديد بالحرب الأهلية، يدفع أطرافاً آخرين للمطالبة بالفيديراليّة، والطرح ناضج إلى حد كبير في البيئات المسيحيّة المختلفة، إلا إن كان انتخاب رئيس مسيحي “قوي” وتأليف حكومة موثوق بها عموماً، أعاد اليها ثقتها بالدولة المركزية. فهل الهدف من تشدد “حزب الله” في مواقفه هو لدفع الآخرين للتمسك بالفيديرالية التي على ما يبدو أصبحت تناسبه؟ هل يمكن قراءة ترحيب المفتي قبلان بتمثيل “القوات اللبنانيّة” في الحكومة، في هذا السياق؟
ما يحصل في سوريا يشجّع على هذا التوجّه: الحكم السني، احتلال إسرائيل للجنوب وتمسّك “السويداء” ومنطقة “قسد” الكرديّة باستقلاليتهما العسكريّة، فضلاً عن التململ في الأوساط العلويّة.
الفيديرالية تتطلّب الاتفاق على ثلاثة أمور رئيسيّة على المستوى المركزي: العلاقات الخارجية، الأمن والمال.
لا يضير “حزب الله” الاتفاق على “الحياد” في ظل الوصاية الأميركية الحالية.
الصيغة اللامركزية قد تسمح له بإيجاد حل نسبي لسلاحه، كما أن الربط بين مالية الحكم المركزي ومالية المناطق اللامركزية قد يساعده على تخطّي صعوباته المالية وإعادة إحياء اقتصاده الموازي في مناطقه.
إن إعادة بناء الدولة في ظل هذه الوقائع والاحتمالات المحليّة والإقليميّة، تفترض سياسة تحسُّب من قبل الحكومة عبر إقرار قوانين نصّ عليها “الطائف”، ويمكنها أن تمتصّ نزعات التقوقع الطائفي الحادة من دون أن تتجاهلها: قانون لإنشاء مجلس الشيوخ وقانون اللامركزية الموسّعة. هكذا تتفادى البلاد الصدمات الكبيرة التي لم تعد تحتملها، وتأخذ المبادرة بدل أن تكون سياساتها كما حصل في السابق، ردود فعل على التطوّرات الخارجية التي لا تأتي في العادة لصالحها.
واقترح أن يترافق ذلك مع ما اقترحه النائب سامي الجميّل في جلسة الثقة، وخلاصته مبادرة المجلس النيابي إلى عقد مؤتمر “مصارحة ومصالحة”، في محاولة للإحاطة وللاعتراف بمختلف السرديات المختلفة للجماعات الطائفية في لبنان، بغية إيجاد سردية “لبنانية” للمستقبل، لا تتنكر للوقائع المجتمعية ولا لمآسي الماضي، بقدر ما تسعى إلى تجاوزها في إطار مؤسساتي.