AFP

القاهرة: كانت المطربة ليلى مراد انعكاسا لأوضاع الجيل الأول من نجمات الفن، بداية من محاولات تأطير الفنانات لصناعة نموذج يحاكي شكل المرأة في الثقافة الغربية، ومحاولات مجابهة التقاليد المحافظة، مرورا بفترة تولي الضباط الأحرار حكم مصر بعد ثورة يوليو/تموز 1952، ثم تعرضها بشكل خاص لمعاناة نفسية بسبب يهوديتها التي استدعيت دليلا على إمكان التعايش بين اليهود والعرب والترويج لخطاب التطبيع، من طرف بعضهم، فيما رأى آخرون أنها نموذج لمقاومة التعامل مع إسرائيل على الرغم من ديانتها اليهودية.

لهذه الأسباب، صدر كتاب “الماضي المجهول لليلى مراد” لأستاذة التاريخ بجامعة تكساس، حنان حماد، باللغة الإنكليزية، قدمت فيه سيرة جديدة لـ “ليلى”، التي كان اسمها ليليان زكي موردخاي (17 فبراير/شباط 1918- 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1995)، وأثناء بحثها عثرت على مذكرات كتبتها المطربة الراحلة، ستصدر قريبا في العالم العربي للمرة الأولى.

حول الماضي المجهول لليلى مراد وأوضاع صناعة التسلية التي كانت طرفا مهما في معادلتها وتشكيل خطابها للجمهور، أجرت “المجلة” هذا الحوار مع حماد.

 

 

  •  أشرتِ في الكتاب إلى أن مجلة “الكواكب” كتبت يوم وفاة ليلى مراد، في نوفمبر/تشرين الثاني 1995، أنها “عاشت مسلمة وماتت مسلمة ودفنت في مقابر المسلمين” وأغفلت عودتها إلى الديانة اليهودية عام 1940. هل كان تناول حياة ليلى مراد في الصحافة المصرية بعد وفاتها منصفا؟ أم شهد إقحاما لإيديولوجيات معينة على سيرتها لتقديمها الى الجمهور في صورة تروق للسلطة وللنخبة وللجمهور؟ مثل أسلمتها على الرغم من أنها – كما ذكرت- حققت نجوميتها قبل اعتناقها الإسلام؟

لا أرى أن عنوان “الكواكب” يتجاهل يهوديتها، بل على العكس، العنوان تعبير عن اهتمام شديد بمسألة ديانتها فوق وقبل كل شيء في حياتها ومسيرتها المهنية. فمثلا، من غير المتصور أن يكون عنوان وفاة فنان كبير آخر، ولتكن أم كلثوم او عبد الحليم حافظ، متضمنا تأكيد إسلامه أو أي اشارة الى ديانته. ولكن بالفعل، حمّلت سيرة حياة ليلى مراد بآراء كاتبيها ومعتقداتهم السياسية وغير السياسية ورؤيتهم عن المجتمع المصري وتاريخه، والترويج لتلك الرؤى يتجاوز بكثير مسألة أن تروق سيرة ليلى مراد للسلطة أو الجمهور، بل في نظري هو تعبير عما يتصوّر المحدثون من الكتاب والمفكرين والصحافيين وحتى رواد التواصل الاجتماعي، عن تاريخ مصر وعن المجتمع المصري. فالناصريون يؤكدون دور ناصر في تبرئتها من الشائعات السورية، وأعداؤه يرون أنه أنهى عملها في السينما، ومحبو الملكية يرونها رمزا لـ”التسامح والأناقة” قبل نظام يوليو، والغاضبون من التغير الاجتماعي القيمي يرونها “فنانة الزمن الجميل”، لكن المهم أن الجميع يرى أنها مصرية صميمة لأنها مسلمة ومسلمة ولأنها مصرية صميمة، وبهذا يتم قصدا وبغير قصد تأكيد أن الإسلام مكون أساسي للمصري، وهذا فهم يعبر عن اللحظة الحالية في مصر، أو تحديدا منذ أواخر القرن الماضي، وهو تصور مختلف عن تصور المواطنة المصرية الذي عبّر عنه في بدايات القرن العشرين والذي ربط الهوية بالأرض وليس بالدين.

  • هل كان الفكر الذي تبنّته حكومة يوليو 1952 تجاه صناعة التسلية، من سينما وغناء، عائقا أمام تبني خطاب تنويري وقتها من بعض الفنانين والفنانات، في مقدمهم ليلى مراد؟

كثير من الإنتاج السينمائي حتى قبل ثورة يوليو، عبر عن أفكار شديدة التخلف، مثل معارضة عمل المرأة وأن المكان الأمثل للمرأة بيتها وخدمة زوجها و”شرف البنت زي عود الكبريت” إلخ، وكثير من أفلام ليلى مراد، ومنها أفلام ممتعة مثل “حبيب الروح” من إخراج أنور وجدي، و”ليلة ممطرة” من إخراج توجو مزراحي، تعبير عن هذه الأفكار التى تتسم بالمحافظة الاجتماعية الشديدة. بالطبع، رأى الضباط الأحرار في السينما والفنون عموما، أداة للترويج لأنفسهم وتثبيت سلطتهم واعتبروا الدفاع عن سلطتهم مرادفا للدفاع عن القيم الاجتماعية والوطن، الفارق المهم بين ما قبل الثورة وما بعدها، هو أن الفنانين قبل الثورة رأوا الجانب الاقتصادي في السينما، بالتالي فإن التجاوب مع الخطاب الإجتماعي السائد لا الصدام معه يضمن الربح، مع الاعتراف بوجود رقابة حكومية أيضا. أما بعد الثورة فصار واضحا أن السينما يجب ألا تصطدم بالسلطة لكي يرى الفيلم النور، فضلا عن أن فنانين كثيرين كانوا مؤمنين بالخطاب المحافظ قبل الثورة وبعضهم أيضا كان مقتنعا بالخطاب الداعم لسلطة ثوار يوليو.

 

  • هل كان زواج ليلى مراد من أنور وجدي تمثيلا لخضوعها لهيمنة ذكورية، ومن ثم ساعد بوعي أو دون وعي على تبنيها في أفلام سينمائية حققت رواجا كبيرا، وكيف أثر ذلك على المجتمع المصري وعلى السينما وقتها؟

علاقة ليلى مراد وأنور وجدي نموذج ملموس لما أقصده من أن كثيرا من الفنانين آمنوا بالسينما كفن ومنتج له اقتصادياته. زواج ليلى مراد وأنور وجدي وفقا لوثيقة الزواج نفسها، وهي نموذج معد سلفا بواسطة الدولة وجهازها البيروقرطي، هو إخضاع النساء لهيمنة ذكورية وعدم ترك فرصه كافية للنساء لاملاء شروطهن في عقود الزواج، كما كان يحدث قبل أن تنتج الدولة هذه النموذج المطبوع سلفا. فالنموذج يؤكد أن على الزوجة، غير المسلمة في حالة ليلى، لا بد أن تقبل بتعدد الزوجات.

بالنسبة الى السينما، فمنذ تحولها إلى فن وبزنس معا، وساد نموذج “الأستوديو” المحترف لا الفنان الهاوي، صارت الأفلام في معظمها منتجا يعبر عن الرجال الذين يكتبون الأفلام ويخرجونها وينتجونها، وصارت النجمات، ومنهن ليلى مراد، أداة للترويج لأفكار الرجال. وقد قبلت ليلى مراد ذلك منذ البداية، وقبل عملها مع أنور وجدي ونجحت بشدة. المفارقة أن افلام ليلى مراد مثل “حبيب الروح” و”آدم وحواء”، إخراج وانتاج حسين صدقي، تروج لأفكار تناصب العداء لعمل المرأة، في حين أن ليلى مراد نفسها طبعا امرأة عاملة. المعادلة معروفة مسبقا لما يفضله الجمهور، الأفكار السائدة تجذب الجمهور وتسليه وتعطيه وقتا ممتعا، أما الأفلام التي تتصادم معه أو تدعوه الى التحاور وإعادة النظر فهي تجذب جمهورا محدودا وقد لا تحقق نجاحا تجاريا.

  • هل رسخت صحافة النميمة صورة ذهنية معنية تجاه الفنانين وصناعة السينما، ربما امتدت إلى الآن، عن أن الوسط الفني منحل وعلاقاته الاجتماعية مفككة وغير ذلك من أفكار متداولة، وهل شارك فيها بعض الفنانين ولو بقدر بسيط؟

صحافة النميمة قطعا لعبت دورا في تصور العامة عن الفنانين وليست كلها انطباعات سلبية. فالصحافة الفنية جعلت من فنانين أيقونات ورموزا شعبية وفنية أو حتى سياسية، بدليل أن الجمهور اعتاد على استخدام الصور المكبرة والملونة للفنانين لتزيين أماكن معيشتهم وعملهم، وهذا الجمهور له القدرة على اختيار ما يصدقه وما يفضله، ولا يمكن اعتباره مجرد متلقّ سلبي لما تردده صحافة النميمة، كما أن الفنانين أنفسهم استخدموا تلك الصحافة ونميمتها للترويج لأنفسهم ولتأكيد نجوميتهم وإثارة اهتمام الجمهور وجذبه الى مشاهدة أفلامهم. الصحافة والنجوم والجمهور شركاء في صنع الصورة الذهنية الجماهيرية عن الفنانين في إيجابياتها وسلبياتها.

  • هيمن كما أشرت، ثلاثة فنانين على مسيرة ليلى مراد، توجو مزراحي ويوسف وهبي وأنور وجدي، الى جانب سيطرة بعض المخرجين الذين أطّروها في سياق خطاب أبوي ذكوري وقيمي فني. هل كانت هذه الهيمنة أو السيطرة بعدا شخصيا وقناعة لليلى مراد، أي ميلها الى الاستكانة؟ أم أنها قيود فرضتها صناعة السينما والقبول الجماهيري من طريق الشباك؟

للأمانة، من الصعوبة التفتيش في قناعات شخص يتعامل مع جمهور عريض ومحط الأنظار دائما. الخطاب الأبوي الذكوري- كما أسلفت- قبلت به ليلى مراد وعبرت في أفلامها عنه وأضاف الى نجاحها الفني والجماهيري، وهي في الوقت نفسه مارست حياة مهنية ناجحة لا تعبر عن تلك الأفكار، وليلى ليست النجمة المصرية ولا حتى العالمية الوحيدة التى فعلت ذلك، الأهم أن كثيرا من الفنانين والفنانات رأوا أن دورهم الأساسي تسلية الناس بفن جميل وليس من الضرورة كونهم دعاة تغيير اجتماعي أو قادة فكريين، فهولاء قلة قليلة جدا في تاريخ السينما شرقا وغربا.

  • ركزت في الكتاب على المنتجين والمخرجين والممثلين والجمهور. هل يعني ذلك أن المؤلفين والكتاب لم يكن لهم دور لافت في صناعة السينما وصياغة أفكار تتوافق مع هؤلاء- أي كانوا تابعين، كون المؤلف يهمش غالبا في صناعة التسلية حتى الآن؟

لم أقصد استبعاد المؤلفين والكتّاب البتة، لكني قصدت التركيز على ما اعتقدته مهما في سيرة ليلى مراد وتقديم تلك السيرة في السياق الأعم والأوسع لتاريخ مصر الحديث. وقد أكون ركزت على الكتّاب والمؤلفين عندما ناقشت دور الصحافة والكتابات الفنية.

 

تختلف ليلى مراد عن نجمات الأقليات الدينية في الأجيال السابقة وحتى عن أسمهان التي نافست أخبارها العاطفية وجمالها الطاغي إنتاجها الفني وصوتها المذهل

 

 

  • حققت ليلى مراد جماهيرية كبيرة في الوقت الذي كان العمل في الفن مخالفا للتقاليد والأعراف الاجتماعي. كيف ترين من خلال هذه المفارقة سيكولوجية الجمهور المصري في تعامله مع السينما والفنانات تحديدا؟

حدث هذا في مرحلة انتقالية، بمعنى أن العمل في الفن للنساء من الأسر المحترمة صار تدريجيا مقبولا في الجيل الأسبق عليها وقبيل ظهورها. مثلا حتى بدايات القرن العشرين كان ظهور النساء على خشبة المسرح قاصرا على الشاميات وغير المسلمات لأن عملهن مرتبط بوجودهن تحت الأنظار، على عكس فنانات العصور السابقة اللاتي أحيين الحفلات والأفراح في أجواء يحترم فيها الفصل بين الجنسين. ساهم في قبول النساء في مجال الفن، التطور في الفضاء العام وظهور وسائط السينما والأسطوانات التى فصلت الوجود الجسدي للنجمة عن الاختلاط بالجمهور، وتدريجيا بدأت المسلمات في الظهور بحيل مختلفة، كظهور فاطمة رشدي في أدوار الصبية الذكور، وارتداء أم كلثوم للعقال ولملابس الذكور أيضا، وقبلها صارت منيرة المهدية نجمة لها مكانة محترمة في الأوساط الاجتماعية والسياسية الراقية وكذلك روز اليوسف الممثلة والناشطة في المجال العام ثم بهيجة حافظ الفنانة المتعددة المواهب وسليلة الطبقة الاريستوقراطية. لم يمض التطور في خط مستقيم، لكنه كان متواصلا. كذلك ساهمت الصحافة والسينما والراديو في تحويل الفنانين والفنانات إلى نجوم مجتمع يحتفي بهم الجمهور وحتى يتشبه بهم. في هذا السياق، واجهت ليلى مراد تحديا أقل مما واجهته نساء الجيل السابق عليها، على الرغم من أنه لم يكن قرارا سهلا على والدها زكي مراد الذي كان فنانا لكنه أيضا يتبنى قيم الطبقة الوسطى المحافظة ومفهومها لاحترام النساء.
ومن تصريحات ليلى مراد يتضح أنها فعلا ابنة الطبقة الوسطى بالمعنى الاجتماعي والأخلاقي وتعلمت واستفادت من تجارب نجمات سبقنها حققن مكانة محترمة كأم كلثوم وكان فنهن وسيلة التخاطب مع الجمهور. ليلى كانت جميلة لكنها أصرت ونجحت في أن تكون “بنت ناس” وألا يتسرّب عنها إلا أخبار بنت الناس المحترمة. وهي في هذا تختلف عن نجمات الأقليات الدينية في الأجيال السابقة وحتى عن أسمهان التي نافست أخبارها العاطفية وجمالها الطاغي إنتاجها الفني وصوتها المذهل. ليلى مراد أيضا تعلمت من والدها ومن توجو مزراحي وآخرين واختارت وضع نفسها في إطار خاص. مثلا رفض والدها مشهد قبلة مع محمد عبد الوهاب، معبود الجماهير وقتها، في أول أفلامها “يحيا الحب”.

  • تزوجت ليلى مراد من رجل الضباط الأحرار وجيه أباظة، كما تزوجت برلنتي عبد الحميد من عبد الحكيم عامر أشهرهم وأكثرهم تأثيرا. كيف أثرت هذه العلاقات المتوترة على حياة الفنانات؟ وهل كان لرجال الضباط الأحرار دور مؤثر في صناعة السينما والحياة الاجتماعية للفنانات في الوسط الفني؟

في الفترة الأولى من عمر الثورة، وجد الضباط الأحرار وهم شبان حديثو السن في عنفوانهم، أنفسهم فجأة أصحاب السلطة العليا في البلاد. بعضهم استغل السلطة لتأكيد ذكوريته وجاذبيته بإقامة علاقات مع أميرات وفنانات، بعض العلاقات أخذ الشكل الزوجي وأثمر أطفالا. هذه العلاقات ملتبسة، فالضباط الأحرار مدفوعون برغباتهم كأصحاب سلطة، والفنانات مدفوعات بالرغبة في الحماية، في وقت كانت كل الأمور فيه مرتبكة وملتبسة، وكثير من الناس كانوا خائفين وغير مدركين لطبيعة التحولات المتسارعة. بالطبع، الرغبة والخوف لا يمنعان أن الجاذبية والحب أيضا كان لهما وجود في بعض الأوقات. بعض العلاقات حققت للنساء ما يطمحن إليه من حماية في كنف رجال في السلطة وكن على استعداد لترك عملهن في الفن، كما حدث لبرلنتي عبد الحميد ومها صبري، لكنهن أيضا عانين بدرجات متفاوتة من تقلبات الصراعات السياسية بين الضباط أنفسهم. بعض الفنانات، ومنهن ليلى مراد تحديدا، لم يحققن أي حماية، بل على العكس تسببت تلك الزيجات بتعاسة شديدة. فقد تنكر وجيه أباظة لليلى مراد ولطفله منها وتركها وهي الفنانة المحترمة المحبوبة تواجه المجتمع كعزباء لها طفل تنكر له والده، ثم كان عليها مواجهة متنفذين في شركة السينما يخطبون ود وجيه أباظة الذي استمر صاحب سلطة ونفوذ حتى مجيء السادات الى الحكم. وهذا، في اعتقادي، هو السبب الاهم لدفعها خارج العمل السينمائي عندما حاولت العودة في الستينات.

 

  • كيف أثرت الطبقة الوسطى على صناعة السينما وعلى شهرة ليلى مراد؟

السينما وسيط جماهيري وشعبي وجذاب لكل الناس، خاصة الفقراء. فالطبقة الوسطى ليست مستهلكا رئيسيا للسينما فحسب، بل صاحبة وضع اجتماعي وبناء قيمي تطمح لهما القاعدة الأوسع من الجمهور الأفقر، وبالتالي تمثل الفقراء لأخلاقيات الطبقة الوسطى التي عكستها خطابات السينما. في أفلام ليلى مراد تحديدا، ترويج شديد للطبقة الوسطى. فوحيد أفندي ضابط البوليس والجيش والصحافي والطيار والميكانيكي الذي جسده أنور وجدي في أفلامهما، هو الطبقة الوسطى التي ترى الحب العابر للطبقات رومانسية محمودة، والرجل هو منقذ الفتاة سواء أكانت من الطبقات العليا أو الدنيا.

  • كيف أثر التطور التكنولوجي، بداية من الانتقال الى الميكرفون في مسيرة ليلى مراد فنيا؟ ولماذا لم ينسحب دورها القومي والوطني إلى وقتنا الحالي، فغالبا ما يتم التعامل فقط مع صوت ليلى مراد، مقابل تذكر الدور الوطني لأم كلثوم مثلا؟

كانت ليلى مراد محظوظة بالتكنولوجيا الحديثة التي اجتاحت صناعة التسلية. فالميكروفون منذ بدايته عظّم جمال صوتها، والراديو القومي حل محل الإذاعات الأهلية، وحمل صوتها إلى الجماهير الواسعة في مصر كلها، كما حملت الصحافة الشعبية صورتها إليهم. صحيح أن ناصر حجب أنشودتها “الاتحاد والنظام والعمل” باعتبارها أنشودة لمحمد نجيب، ثم كرر السادات ذلك بحجب كثير من أغانيها الوطنية وأغنيات الآخرين في العهد الناصري، لكن ليلى مراد دائما ما تستحضر كرمز مهم في السردية الوطنية المصرية. فهي اليهودية التي رفضت إسرائيل، وهي المسلمة التي فضلت الإسلام على أي دين آخر، وهي المصرية الصميمة بأناقتها وحشمتها، وهي بنت الناس المهذبة التى لا تتبادل القبلات مع أغراب… إلخ. كلها تصورات يردّدها المصريون من كل ألوان الطيف السياسي والاجتماعي لأنها تتطابق مع تصورهم أو مفهومهم عما ينبغي أن يكون عليه المصري الحق.

  • كيف اكتشفت مذكرات ليلى مراد، في ظل تردد كتّاب على سيرة ليلى مراد وتناولها في كتبهم؟ هل يمثل ذلك إشكالية في عملية البحث والتقصي في الأرشيف؟

اكتشفتها بالبحث، لم أكن أعرف أنها موجودة، لكن البحث الدوؤب يجلب الحظ أحيانا ونكتشف ما لم نعتقد بوجوده. هنا أودّ مناشدة المسؤولين عن دار الكتب والوثائق والمحفوظات في مصر وكل أرشيفاتنا الوطنية بأن يشجعوا الباحثين على الاطلاع على المادة الغنية الموجودة في أرشيفاتنا حتى يكون لتلك الوثائق الصوت الأعلى والأدق في سردياتنا الوطنية، بدلا من لجوئهم، مصريين وأجانب، الى أرشيف الآخرين هربا من بيروقراطية أرشيفاتنا وأجوائها الطاردة للباحثين. أرشيفاتنا غنية ويفترض أن تتاح هذه المادة للبحث.

 

تنكر وجيه أباظة لليلى مراد ولطفله منها وتركها وهي الفنانة المحترمة المحبوبة تواجه المجتمع كعزباء لها طفل تنكر له والده

 

 

  • تزوجت ليلى مراد من أنور وجدي وفرضته على عائلتها اليهودية وتحدت التقاليد والأعراف، في حين أنها خضعت لخطاب ذكوري قدمته للسينما. كيف تفسرين هذا التناقض؟

ليلى مراد كانت شخصية قوية جدا، عكس ما يتصوره الناس بتبني شخصيتها المستضعفة على الشاشة وكأنها شخصيتها الحقيقية. ليلى قامت بكثير من الاختيارات المهنية والشخصية بقصد ووعي، وهذا لا يعنى أن نتيجة الاختيارات دائما كانت لصالحها، فزواجها من مسلم لم يكن مسألة “طبيعية” كما يفترض البعض ظنا أن التسامح الديني والاجتماعي جعل الزواج بين أبناء الديانات المختلفة أمرا عاديا. على العكس، كان اليهود المصريون قلقين جدا من الزواج خارج طائفتهم وكان والدها زكي أفندي مراد معتزا بيهوديته. عندما تزوجت ليلى مراد من أنور وجدي كانت في مكانة قوية جدا في عائلتها خاصة أنها كانت المتكفلة نفقات الأسرة ودعم الأخوات. أيضا أنور، بشخصيته الجذابة وفرص العمل التي أتاحها لإخوتها وخاصة الموهوب جدا منير مراد، سهل قبول الزيجة. أما التناقض بين اختياراتها لنفسها والخطاب الذكوري في أفلامها، فهي ليست الوحيدة في ذلك، بل هي مسألة متكررة بين نجمات السينما العالمية. وكما ذكرت سابقا، فكثير من الفنانين والفنانات ينظرون الى أنفسهم في حدود دورهم الفني وليس كقادة للتغيير الاجتماعي والفكري، وينظرون الى السينما باعتبارها منتجا للمتعة والتسلية ولا بد أن تغطي تكلفتها وتحقق ربحا بجذب جماهير عريضة وليس فقط لمن يريدون الجدال الفكري ويبحثون عن أفكار التغيير الاجتماعي.

  • لم تتأثر نجومية ليلى مراد بشائعات تبرعها وسفرها الى إسرائيل التي بثتها وسائل إعلام سورية على الرغم من أن الدولة لم تبذل جهدا في تخطيها لهذه الأزمة: هل يعني ذلك أن جدار الحماية الجماهيري هو الأمتن مقارنةً بدور الدولة؟ أم أن تلك حالة خاصة بليلى مراد فقط؟

صحيح إلى حد بعيد. بالعكس، إن ثبوت كذب الإشاعة زاد من حب الناس لليلى مراد خاصة في العقود الأخيرة عندما وجد المعارضون للتطبيع مع اسرائيل في ليلى مراد نموذجا للوطنية والالتزام العربي ورفض إسرائيل.

  • هل اختارت ليلى مراد في آخر أيامها أن تعيش كأم، أم فرض عليها اختيار هذا الدور؟ وكيف تفسرين خسارتها لثروتها؟

فُرض الغياب عن السينما على ليلى مراد، في حين أنها لم تختر الاعتزال البتة، لا بعد مولد طفلها الأول أشرف ولا الثاني زكي مراد، لكنها اضطرت في فترات إلى التفرغ لظروفها الصحية والنفسية أو العائلية كما حدث منتصف الخمسينات، لكنها حاولت العودة مرات عديدة الى السينما، كما استمرت في الغناء وتسجيل أغنيات للإذاعات المصرية والعربية.

عاشت ليلى مراد في بحبوحة على الرغم من التوقف عن الظهور في أفلام جديدة. كانت تقضي مع أولادها الصيف في لبنان وأميركا وأهدت الى ابنها أشرف سيارة لنجاحه في الثانوية العامة. قد تكون باعت بعض ممتلكاتها بأسعار أقل من القيمة التى كانت ستحصل عليها إن أجلت البيع أو باعتها باختيارها في ظروف عادلة، لكن ذلك حدث مع كثيرين ولا يرقى الى خسارة الثروة.

أما الإنتاج، فآسيا داغر كانت من أهم منتجات السينما المصرية وقبلها بهيجة حافظ وعزيزة أمير التي حققت ثروة طائلة من الإنتاج السينمائي. الإنتاج ليس فعلا للرجال أو النساء، ولكل حالة ظروفها وإن كانت الظروف الاجتماعية تشجع الرجال أكثر من النساء على الإنتاج، وليس لهذا أي دخل بالقدرات المهنية أو الفنية للرجل أو المرأة. ليلى مراد لم تكن منتجة فاشلة لكنها قطعا لم تحقق النجاح نفسه كالذي حققته مغنية وممثلة. أنتجت فيلم “الحياة الحب”، ولم يفشل، كما أنتجت لأخيها منير مراد أول أفلامه مع شادية وحقق نجاحا طيبا، وعلينا أن نتذكر أن كثيرا من النجوم الرجال فشلوا كمنتجين.

  • ذكرت أن كتابة الكتاب باللغة الإنكليزية كان تحديا. لماذا اخترت الإنكليزية للكتابة عن ليلى مراد؟ وهل هناك تفكير أو خطوة لترجمة الكتاب الى العربية مستقبلا؟ وما مشروعك المقبل؟

أكتب أبحاثي بالانكليزية كضرورة مرتبطة بوظيفتي كأستاذة في جامعة أميركية، وإنتاجنا العلمي لا بد أن يخضع للمراجعة والتقييم من زملاء وخبراء في الأكاديمية الأميركية. هذا تحدٍّ لي لأن الانكليزية هي لغتي الثانية. لكن الحمد لله وبعدما حصلت على درجة الأستاذية، أعلى درجة في الاكاديمية الأميركية، فلي أن أنتج أبحاثي بالعربية إذا ما تسنى ذلك.

أعتقد أن أي إنتاج بحثي عن مصر لا تكتمل قيمته أو يصح تقييمه إلا عندما يقرأه المصريون، خاصة من زملائي المؤرخين والباحثين المصريين. أتمنى ترجمة كتابي عن ليلى مراد وكل مؤلفاتي الأخرى، وعلى حد علمي فإن كتابي الأول “الجنسانية الصناعية” وبعض المقالات البحثية قيد الترجمة. أعكف حاليا على إعداد مذكرات ليلى مراد للنشر وسيكون طبعا باللغة العربية مع مقدمة وهوامش لوضع المعلومات والآراء التى عبرت عنها ليلى مراد في سياقها. في الوقت نفسه أعد كتابا جديدا عن التاريخ الاجتماعي للطفولة في مصر منذ بداية القرن العشرين حتى صدور قانون الطفل منتصف التسعينات.