القاهرة: ربما لم يحظ شاعر عامية مصري بمثل شهرة أحمد فؤاد نجم، أو “الفاجومي” كما سمّى نفسه في سيرته الذاتية، وهو أحد الشعراء الذين ملؤوا الدنيا وشغلوا الناس، ومن ضمنهم الحكام طوال حياته تقريبا، منذ بزغ نجمه مع قرينه في الشعر والغناء الشيخ إمام في ستينات القرن الماضي، وتحديدا بعد نكسة 1967 التي عبّر عنها بعدد من الأغاني والأشعار التي هاجمت السلطة بكل جرأة، مما أدّى به إلى دخول السجن أكثر من مرة .
يمثل أحمد فؤاد نجم ظاهرة شعرية فريدة في مصر، فقد بدأت شهرته ومعرفة الناس به بعد أن تجاوز الثامنة والثلاثين من عمره، ومن ذلك الوقت تحوّل إلى اسم هام وتحوّلت حياته إلى ثورة دائمة على السلطة والتعبير عن تطلعات الشعب من جهة، وكتابة الشعر الرومانسي الذي يمس العاطفة والوجدان من جهةٍ أخرى.
ولد أحمد فؤاد نجم في مايو/ أيار 1929 بقرية “عزبة نجم” بمحافظة الشرقية، نشأ في ملجأ للأيتام تعلم فيه القراءة والكتابة وجمعه بالمصادفة بابن محافظته عبد الحليم حافظ في ذلك الوقت، لكنه خرج منه ليعمل في عدد من المهن الصعبة ويكد في الحياة، ويواجه الاحتلال الإنكليزي في الوقت نفسه، شارك في عدد من مظاهرات العمال ضد الإنكليز، ودخل السجن وهو في الثلاثين من عمره، وهناك تعرف على عدد من المثقفين المناضلين وبدأ في كتابة الشعر، وشجعه ضباط السجن وأقاموا له ندوات داخل السجن، وتطور به الأمر حينما تعرف على الشيخ إمام الذي سيصبح رفيق دربه في ما بعد ويكونان معا ثنائيا متميزا نادرا كذلك، حيث كتب له العديد من الأغاني التي ذاع صيتها في السجن وخارجه.
ثنائي الغناء والثورة
تعرف نجم على الشعر من خلال المظاهرات والإضرابات العمالية، فكان الشعر صوته وسلاحه، بدأ بالهجوم على السلطة أيا كانت، وعلمته أمه منذ طفولته ألا يسكت عن حقه أبدا، فكان ذلك مما شجعه على المواجهة وكتابة الشعر في أصعب الظروف وأحلك المواقف، وكانت علاقته بالشيخ إمام دافعا قويا لكي يعبّر عن كل ما أراده، فكتب معه أكثر أغانية السياسية بدءا من “الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا” التي كانت نقدا قاسيا لما حدث في نكسة 1967، والتي دخل بعدها السجن، ورغم أن السادات أخرجه منه بعد وصوله إلى السلطة، إلا أنه هاجمه وهاجم سياسات الانفتاح بشكل عام كثيرا في عدد من قصائده وأشهرها قصيدة “بيان هام” و”موال الفول واللحمة”:
عن موضوع الفول واللحمة .. صرح مصدر قال مسئول
إن الطب اتقدم جدا .. والدكتور محسن بيقول
إن الشعب المصري خصوصا.. من مصلحته يقرقش فول
حيث الفول المصري عموما .. يجعل من بني آدم غول
والبروتين الكامن طيه .. نادر زيه في أيها فول
تاكل فخدة فى ربع زكيبة .. والدكتور محسن مسئول
يديك طاقة وقوة غريبة ..تسمن جدا تبقى مهول
لحمة نباتي ولا في الحاتي .. تاكل قدرة تعيش مسطول
سيرة حياة غير عادية… الفاجومي ونوارة
على الرغم من أنه اعتبر نفسه دوما من البسطاء، وعاش بينهم وأصر على أن يعبّر عنهم، إلا أن حياته بالفعل لم تكن عادية، فقد تعرف على كبار رجال الفن والأدب سواء الذين كانوا يحرصون على لقائه في منزله مع الشيخ إمام في منطقة “حوش قدم”، أو هؤلاء الذين تعرّف عليهم في أعمال فنية شارك في كتابة أشعارها وأغانيها بعد أن أصبح علما يشار إليه بالبنان، ويقصد في الكثير من الأعمال، لما يمتاز به شعره من بساطة وعبقرية في الوقت نفسه، استعان به المخرج يوسف شاهين في فيلم “العصفور” حيث غنت الفنانة محسنة توفيق أغنية “مصر يا امه يا بهية” من كلماته، وهي الأغنية التي ذاع صيتها وأصبحت من أناشيد الثوار بعد ذلك، كما جمعته صداقة طويلة بعدد من الفنانين الكبار مثل سعيد صالح والمخرج مراد منير الذي أخرج مسرحية “الملك هو الملك” وغنى أشعاره فيها المطرب محمد منير في بداياته الفنية.
كتب أحمد فؤاد نجم سيرته الذاتية بطريقته الساخرة وأسلوبه الشيق، ورصد تفاصيل طفولته وشبابه في الكتاب الذي سماه “الفاجومي” (والتي تعني الشخص المندفع الذي يهاجم من لا يعجبه ولا يبالي) وكان يرى في نفسه ذلك الرجل، إن لم يكن في مواقفه السياسية فقد كان ذلك واضحا في أشعاره التي تحدّى بها النظام، ويعرض في سيرته الذاتية ظروف نشأته وعلاقته الخاصة بوالدته “هانم” التي أثرت في حياته وأخذ منها الكثير سواء من قوة شخصيتها أو من الحكم والأمثال التي كان يسمعها منها ويتربّى عليها، كما يتحدّث عن علاقته مع السلطة والسجون التي تنقل فيها طوال حياته، كما يعرض مواقف وحكايات عديدة جمعته بالكثير من أصدقاء عمره سواء كانوا رفاقه في “حوش قدم” أو من جمعته بهم الأعمال الفنية والأمسيات الشعرية أو السهرات الشعبية. في الكتاب صورة شديدة الصراحة والبساطة في آن معا تعرفنا على حياة الرجل من وجهة نظره كما يرويها، حتى تأتي ابنته بعد وفاته بنحو تسع أعوام لتكتب “وانت السبب يابا” الصادر عن “دار الكرمة” في 2022 لتحكي فيه طرفا من سيرة الأب الغائب، وتواجه بكل جرأة كذلك كل مخاوفها من تاريخ علاقتها به وما كان فيه من اضطراب ومناوشات ومناكفات، بين أبٍ غائب وبنت تبحث عنه طوال الوقت، وتسعى للتقرب منه، في ما هو مشغول بعالمه وأشعاره وحكاياته وأصدقائه.
ففي الوقت الذي يحكي فيه نجم عن طفولته وما كان فيها من شقاء ومرارة، تحكي الابنة عن معاناتها مع أبيها الذي تفتح وعيها على طلاقه من والدتها صافيناز كاظم، وكيف كانت حريصة على أن تربط الببنت بأبيها، وكيف كان سعيها للبحث عنه بعد أن استقر بها المقام في مصر (بعد أن عاشت فترة طفولتها في العراق) ويتفتح وعي الفتاة على أبيها الذي يعرف كبار الفنانين من عادل إمام إلى سعيد صالح بل ويحكون لها عن سعاد حسني أنها كانت تحضر إلى منزل والدها في حوش قدم، وكيف كانت تراقب حياته وحياة أصدقائه من حوله، وما كان يجري بينهم من مناوشات طوال الوقت، وعن أول مرة تم القبض عليها فيها حينما تظاهرت ضد مشاركة إسرائيل في معرض صناعي في القاهرة عام 1995، وكيف كان أثر ذلك الاعتقال على والدها، وتحكي كذلك عن علاقته الروحية الخاصة بالحسين، وكيف كان يرى فيه نموذج المظلومين جميعا، وتحكي عن انحيازه للفقراء، وكيف جرّ عليه ذلك المشاكل، خاصة بعد مرور الزمن وتعرفه على عدد من رجال الأعمال الأغنياء، والصداقة الخاصة التي جمعته برجل الأعمال نجيب ساويرس، وتروي كيف بدأت علاقتهم بالهجوم عليه من أجل جريدة “الدستور”، وكيف تحولت إلى صداقة متينة بقي أثرها حتى بعد وفاة نجم، وعرفنا من خلالها كيف كان نجم يرى مصر ويحبها، بعيدا عن الشعارات الرنانة أو المظاهر الفارغة يحب فقراءها وبسطاءها ويرى فيهم الجمال الحقيقي لمصر الذي لا يضاهيه جمال، كما يؤمن دوما بقدرتهم على التحايل على الظلم والقسوة والتغلب على الحاكم في عز جبروته. وكان – كما تقول نوارة ـ- يستحضر كل ثورات العالم ويرى مصر فيها ويتفاءل بالشباب المصري ويغني له باستمرار، حتى يتحقق له ما عاش يحلم به ويراه رأي العين في يناير/ كانون الثاني 2011
استطاعت نوارة نجم في هذا الكتاب أن تكشف عن جانب آخر من الشاعر الكبير في حياته، ورغم أن الكثيرين عاشوا وتعرفوا على تفاصيل المواقف والحكايات التي حكتها إلا أن الحكاية من وجهة نظر الطفلة البنت أولا ثم من وجهة نظر الكاتبة بعد مرور السنين تمنح المواقف أبعادا أخرى، تحكي إنسانية للشخص الذي عرفه الناس سليط اللسان، كما تحكي مواقف أخرى تحتار هي نفسها في فهمها حتى اللحظة، ولكنها تؤمن بأنه أب مصري عاش الحياة بتقلباتها وضحك عليها وضحكت عليه، حاول أن يأخذ منها ما يستطيع وبكى من أجل ابنته كثيرا خاصة في أيام 2011، وكتب لها تلك القصيدة التي أخذت منها عنوان الكتاب (وانت السبب يابا):
نازل و انا ماشى .. ع الشوك برجليا
و انت السبب يابا.. و يالى خليت بيا
لا فرشتلى بستان .. و لا حتى بر أمان
أعيش عليه إنسان .و الدنيا فى ايديا
بعد الرحيل
رغم حضوره الطاغي عبر سنوات من الإبداع والشعر والتعبير عن مصر والمصريين إلا أن أحمد فؤاد نجم لم يحظ بتكريم مصري واحد في حياته، بل إن التكريم الوحيد الذي حصل عليه كان جائزة الأمير كلاوس الهولندية للثقافة والتنمية قبيل وفاته عام 2013، ولكن شاءت الأقدار ألا ينمكن من السفر لتسلم الجائزة حيث كان مقررا لها أن تكون في 11 ديسمبر/ كانون الأول، ووافته المنية قبلها بأيام، جاء في حيثيات الجائزة أنها منحت له”تقديرا لمساهماته وأشعاره باللهجة العامية المصرية التي ألهمت ثلاثة أجيال من المصريين والعرب. فقد تميزت قصائده بحس نقدي ساخر وبتأكيدها على الحرية والعدالة الاجتماعية”. عن هذا التكريم تحكي نوّارة:
“استضاف يوسف الحسيني أبي في التلفزيون ليحتفي بهذا التكريم الدولي، ويتفاخر بوصول أول شاعر مصري إلى العالمية، فأجابه أبي بأنه حزين ومذبوح، لأنه كان يرغب في أن يأتي هذا التكريم من بلده مصر التي عاش من أجلها، حتى إن يوسف الحسيني ذاته اندهش من تفضيل أبي للتكريم المحلي على التكريم الدولي، وراح يذكره بأنه أول شاعر مصري يصل إلى العالمية، وأنه هو ونجيب محفوظ رفعا اسم مصر عاليا، وكلام من هذا القبيل، لكن أبي كان مصمما على أنه يريد التكريم من حبيبته مصر”.
ولكن كان من حسن حظ أحمد فؤاد نجم ، كما أسلفنا، أن ربطته صداقة استثنائية برجل الأعمال المصري نجيب ساويرس (ذكرت نوارة تفاصيلها في كتابها)، هاجمه بعض الكتاب بسببها في حياته، ولكن الصداقة استمرت، وأثمرت بعد وفاة نجم حينما قرر ساويرس أن يؤسس جائزة خاصة للشعراء الشباب في شعر العامية، تلك الجائزة التي جاءت استجابة للحراك الشعري الكبير الذي كان موجودا في مصر بعد ثورة يناير 2011، والتي أفرزت قائمة كبيرة من الأسماء الواعدة في شعر العامية كل عام، واستطاعت أن تقدم حتى الآن أكثر من تسعين صوتا شعريا جديدا هم الفائزون في مسابقة نجم على مدى تسع أعوامٍ ماضية (عشرة فائزين كل عام) كان أبرزهم الشاعر مصطفى إبراهيم الذي فاز بالجائزة مرتين الأولى عام 2014 عن ديوانه “المانفيستو” والثانية عام 2020 عن ديوان “الزمن”، وعمرو حسن عن ديوانه “باندا” 2016، ووائل فتحي عن ديوانه “العادي ثائرا وشهيدا” عام 2019. بالإضافة إلى جائزة للدرسات النقدية التي تتناول شعر العامية في مصر فاز بها عدد من النقاد منهم الشاعر مسعود شومان عن دراسته “المؤتلف والمختلف” عام 2017، ورشا الفوال عن دراستها “هوية الذات في شعر أحمد فؤاد نجم” عام 2021 .
وهكذا في بداية ديسمبر من كل عام يتجمع محبي شعر العامية، ومحبي أحمد فؤاد نجم ليستعيدوا طرفا من شعره وآثاره، ويعلنون استمرار العطاء والإبداع والشعر في الجيل الجديد الذي يأتي معبرا عن نفسه وآلامه وآماله حالما مثل نجم بمصر البهية “أم طرحة وجلابية”. ومن المقرر أن تعلن الجائزة في السادس من ديسمبر عن الفائزين بالجائزة في شعر العامية والدراسات النقدية لهذا العام 2023.