في أواخر سنة 2024 وقّع مئات المشاهير من عالم الثقافة، بمن في ذلك الفرنسية الحائزة على جائزة نوبل سنة 2022 آني إرنو (1940)، دعوة إلى مقاطعة المؤسسات الثقافية الألمانية، المتهمة بقمع الأصوات الفلسطينية في سياق حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة. وقد أكد ناشر آني إرنو الألماني “سوركامب” لوكالة فرانس برس أن آني هي واحدة من الموقعين، بينما أوضح أن الكاتبة قالت إن “كتبها ونصوصها المترجمة المنشورة في ألمانيا ليست معنية”. ومع ذلك، فإن أسماء منظمي حملة “اضرب ألمانيا”، الذين زعموا أنهم جمعوا أكثر من ألف توقيع، غير معروفة ولم يتم التحقق من هويات الموقعين. وأعلنت لانا باستاسيتش (1984)، الروائية البوسنية والصربية التي فازت بالعديد من الجوائز، أنها أنهت عقدها مع ناشرها الألماني.
ميشيل ألكسندر
تقدم هذه المبادرة الشجاعة نفسها، على موقعها على الإنترنت، على أنها “ضربة ضد العنصرية والرقابة المعادية للفلسطينيين بأشكالها الرسمية الأكثر تقدمًا”. ومما جاء في الدعوة: “مع القضاء على غزة، يتحمل الفنانون والعاملون في المجال الثقافي مسؤولية النضال من أجل التضامن الأممي والحق في التحدث علنًا ضد المجزرة المستمرة”.
في ألمانيا، التي أظهر قادتها دعمًا ثابتًا لإسرائيل منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تم إلغاء العديد من الفعاليات الثقافية بسبب خلافات في الرأي حول الحرب التدميرية الدائرة رحاها في قطاع غزة. بينما يقول المنظمون إنهم يريدون محاربة معاداة السامية، التي تصاعدت في ألمانيا منذ بداية الحرب، فيما تخشى أصوات أخرى من تآكل حرية التعبير والتفكير.
وقد وصل عدد الموقعين على دعوة المقاطعة إلى أكثر من خمسة آلاف كاتب ومترجم وفنان وناشر، بمن فيهم الفائزون بجائزة نوبل في الأدب وجائزة بوكر وجائزة بوليتزر وجائزة الكتاب الوطني، معلنين عن مقاطعتهم للناشرين والمهرجانات والمطبوعات الإسرائيلية “المتواطئة في الفصل العنصري والإبادة الجماعية” ضد الشعب الفلسطيني، وفقًا لبيان نشر على الموقع الإلكتروني لمهرجان الآداب الفلسطيني. وقد كادت لائحة هؤلاء الكتاب المشاهير تغطي معظم الجنسيات والآداب: سالي رون (روائية إيرلندية)، وأرونداتي روي (روائية هندية)، وفييت ثانه نجوين (روائي من الفيتنام)، وماكس بورتر (روائي إنكليزي)، وأوشن فونغ (روائي وشاعر من الفيتنام)، وبيرسيفال إيفريت (كاتب وأستاذ جامعي أميركي)، وعبد الرزاق غورنه (روائي إنكليزي حاز جائزة نوبل سنة 2021)، وروبي كور (شاعرة هندية)، وميشيل ألكسندر (روائية أميركية)، وجوديث بتلر (فيلسوفة أميركية)، وراشيل كوشنر (كاتبة أميركية)، وجومبا لاهيري (كاتبة إنكليزية)، وفاليريا لويسيلي (كاتبة من المكسيك)… إلخ.
وقال هؤلاء الموقعون إنهم لا يستطيعون، بضمير مرتاح، التعاون مع المؤسسات الإسرائيلية من دون التشكيك في علاقتها بالفصل العنصري والنزوح. وحجتهم في ذلك واضحة: “إننا نواجه إبادة جماعية، كما يكرر الخبراء والمؤسسات المشهورة منذ شهور.
فاليريا لوزيلي
“وتعبر السلطات الإسرائيلية بوضوح عن نيتها في القضاء على سكان غزة، وجعل إقامة دولة فلسطينية مستحيلة، والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية. وكل هذا يأتي بعد 75 عامًا من النزوح السكاني والتطهير العرقي والفصل العنصري”.
ويؤكد البيان على حقيقة أن الثقافة لعبت دورًا رئيسيًا في “تطبيع هذه المظالم… من خلال استخدام الفن، قامت المؤسسات الثقافية الإسرائيلية غالبًا بالتعاون المباشر مع الدولة لتمويه وإخفاء تجريد وقمع ملايين الفلسطينيين لعقود”. وتابع البيان: “لذلك، لن نعمل مع المؤسسات الثقافية الإسرائيلية المتواطئة في الاضطهاد الساحق الذي يعاني منه الفلسطينيون، ولا مع أولئك الذين اختاروا التزام الصمت”.
ويلزم البيان جميع الموقعين عدم التعاون “مع المؤسسات الإسرائيلية، بما في ذلك الناشرون والوكالات الأدبية والمطبوعات” التي هي “متواطئة في انتهاك حقوق الفلسطينيين، ولا سيما من خلال السياسات والممارسات التمييزية أو عن طريق تبييض الاحتلال وتبريره، وتبرير الفصل العنصري أو الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل” أو التي “لم تعترف علنًا أبدًا بحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف على النحو المنصوص عليه في القانون الدولي”.
بيرسيفال إيفيريت
بذلك يكون الضمير الثقافي العالمي قد عبّر عن يقظته أمام واحدة من أكبر حروب الإبادة في التاريخ البشري. أليس من شأن ذلك أن يضع الآلة العسكرية الإسرائيلية، والمتواطئين معها، في مأزق أخلاقي من منظور القوانين الدولية والتشريعات الإنسانية؟ لقد اقتنع الموقعون بأن العمل مع هذه المؤسسات العنصرية “سيكون بمثابة إلحاق الضرر بالفلسطينيين”، كما جاء في البيان، قبل أن يدعو الناشرين والمحررين والوكلاء إلى “وقف كل تعاون مع الدولة الإسرائيلية والمؤسسات الإسرائيلية المتواطئة فيها”.
ومع تزايد الرفض الدولي لما تقوم به إسرائيل بدون ردع دولي، اشتكى ناشرون إسرائيليون من مقاطعة مفتوحة ومعلنة من قبل الكتاب الشباب، الأمر الذي سيؤثر على حركة التأليف والترجمة، خاصة الكتاب من بلدان أوروبية مثل أيرلندا وإسبانيا وشمال أوروبا. وبذلك سيدفع قطاع النشر الإسرائيلي ثمن عزلة دولية غير مسبوقة؛ خصوصًا بعد دخول فلاسفة كبار على الخط وتعبيرهم الصريح عما يجري في غزة، مثل الفيلسوفة الأميركية جوديت بتلر التي قالت إنه يجب أن نأخذ تعبير إبادة جماعية على محمل الجد لأنه يصف ما يحدث بالفعل، فالهجمات لا تستهدف المقاتلين فقط، وإنما تستهدف أيضًا السكان والمدنيين في غزة، وهم يتعرضون إلى القصف والتهجير. وهذه حرب ثقافية لم تحسب لها إسرائيل أدنى حساب. وفي هذا السياق لا يمكن إلا أن نحيي الشاعرين المغربيين عبد اللطيف اللعبي وياسين عدنان اللذين وضعا أنطولوجيا شعرية خاصة بشعراء غزة عنوانها “غزة: أهناك حياة قبل الموت؟” تحية لصمود أرواحهم وسط الإعصار الذين يتعرضون له مع أبناء الشعب الفلسطيني في غزة.