Skip to content

السفينة

alsafina.net

Primary Menu
  • الرئيسية
  • الأخبار
  • افتتاحية
  • حوارات
  • أدب وفن
  • مقالات رأي
  • منوعات
  • دراسات وبحوث
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • الأرشيف
  • Home
  • الدائرة المستحيلة وانتحار التبرير دارا عبدالله،،….المصدر:ضفة ثالثة
  • مقالات رأي

الدائرة المستحيلة وانتحار التبرير دارا عبدالله،،….المصدر:ضفة ثالثة

khalil المحرر يونيو 7, 2025

في عام 2018 بالعاصمة الألمانية برلين، قامت الدنيا ولم تقعد لأنّ بروفيسورًا من كلية التاريخ في جامعة هومبولدت، اسمه، يورغ بابيروفسكي Jörg Baberowski (مواليد عام 1961)، أدلى بتصريحاتٍ لوسائل إعلام ألمانيّة متلفزة، مفادها أّنّ المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، أخطأت لمّا فتحت الحدود بشكل اعتباطي، وبطريقة غير منظّمة، أمام اللاجئين السوريين الهاربين من جحيم الحرب في بلادهم عام 2015. آنذاك، بدأت حملة تشهير وإلغاء ضد المؤرّخ المختصّ بعنف حقبة ستالين. دعم بابيروفسكي، صاحب كتاب “فضاءات العنف”، كلامه بالحجّة المُحافظة التقليديّة، وهي أنّ ثمّة تناقضًا بين مفهومي الاستيعاب والاستقرار. على المجتمع أن يستوعب قادمين جدد من دون أن يتجاوز “درجة إشباعه”، لأنّ ذلك يخلخل الاستقرار. تجاوز عتبة الإشباع بشكل فجائي غير تدريجي، أي إدخال 400 ألف لاجئ سوري في أقلّ من شهر، حتمًا سيصيب أسس الإجماع الألماني باللاتوازن، وسيؤدّي إلى تحوّلات جذرية نوعيّة في المشهد السياسي، مفسّرًا بذلك تعاظم شعبيّة حزب البديل ألمانيا AFD في عام 2015.

لم يستمع أحد إلى حجّته، ولم يحاول أن يفنّدها أحد، واستمرّت حملة التشهير ضدّه مطالبة بطرده من الجامعة وإلغاء عقده التدريسي.

بشكلٍ مخصوص، اشتدّ انشغالي بقضيّة حرية التعبير في عام 2020، وصار التفكير فيها أكثر إلحاحًا بعد سقوط الأبد السوري، وتصاعد الحديث حول ما يجب وما لا يجب أن يُقال. في عزّ أزمة فيروس كورونا، ولمّا كانت ثورة العدالة العرقيّة مشتعلة في الولايات المتحدة الأميركيّة في حركة “حياة السود مهمة”، قرأتُ نصًا بالغ الأهميّة في تاريخ الفلسفة، يمكن القول إن تداعياته اللاحقة بعد قرن أشدّ من تأثيره الفوري لحظة إصداره، للفيلسوف الإنكليزي جون ستيورات ميل (1806- 1873) بعنوان “في الحرية” نشرهُ عام 1859. لمَ ميل تحديدًا؟ ما الذي يمكن أن يقوله “رجل أبيض” عن حريّة التعبير؟ رجلٌ، ربَّما كان من أوائل من دافع عن حقّ النساء الكامل في التصويت، وسُجِن لأنّه وزّع منشوراتٍ تنادي بتحديد النسل، ودعا في كتاباته الجانبيّة إلى تحرير الحيوانات من معاناتهم الرهيبة على يد البشر.
قبل قراءة ميل، كان مطلوبًا من الجميع قراءة مقال رأي للسيناتور الجمهوري الأميركي، توم كوتون Tom Cotton (مواليد 1977)، نشرهُ في صحيفة “نيويورك تايمز”، دافع فيه عن حقّ الاستجابة العسكريّة السريعة من قوّات الحكومة الفيدراليّة لاحتواء تداعيات احتجاجات حركة “حياة السود مهمة” في ميدان لافايت في العاصمة واشنطن. فور نشره، أشعل المقال موجة سخطٍ لدى قرّاء الصحيفة، دفعتْهَا بالنهاية إلى “مراجعة عميقة”، خلصَت فيها بأنّ نشر المقال كان خطأ، وأصدرت اعتذارًا علنيًا، وأجبرَتْ في النهاية محرر صفحة الرأي، جيمس بينيت James Bennet (مواليد عام 1966)، كقربانٍ للغضب الاجتماعي على وسائل التواصل الاجتماعي، على تقديم استقالته!
المهمة كانت قراءة مقال كوتون، والتأمّل إذا ما كان دفع بينيت للاستقالة مبررًا. السيناتور الجمهوري المُحافظ قدّم في مقاله مجموعة من الحجج، فحواها باختصار أنّ الاحتجاجات أفرزت عنفًا لم يعد ذا صلة بقضيّة السود ومقتل جورج فلويد المأساوي، مستشهدًا بمناشدات من أقارب فلويد نفسه، يحذّرون فيها من العنف العشوائي، ويدينون الهجوم على مؤسسات الدولة الأميركية، وتخريب الممتلكات العامّة والخاصة. مع مجموعة من الحجج الأخرى، يستخلص كوتون أنّ الاستجابة العسكريّة الأميركيّة ضروريّة لمواجهة المجرمين العدميين الذين يخرجون من أجل إثارة القلاقل ونهب الممتلكات، مدافعًا في النهاية عن عروض القوّة العسكريّة التي تفرضُ هيبة القانون.
بدون مواربةٍ، مسائل العنصريّة وحريّة التعبير وخطاب الكراهيّة ومعاداة الساميّة، هي ربّما من أصعب المواضيع نقاشًا في الأكاديميات الغربيّة. وأن يبدأ النقاش بمقالٍ، مثير للغضب فعلًا، لرجل جمهوري أبيض، هو تلغيمٌ للأرضيّة، إذْ يمكن أنْ يفرط المشهد بسهولة بارتفاع الشخصنة والاتّهامات الموجهة وانهيار التهذيب. ولكن في خريف عام 2020، وصلت تداعيات هبّة المطالبة بالعدالة العرقيّة في أميركا إلى أوروبا، وصارت الأوساط الشبابيّة الناشئة تُطالِب بأطرٍ ناظمة وقوانين جديدة تحمي الطلاب من التمييز. في هذه الأجواء، بدأت الكثير من الجامعات بأوروبا تعدِّل من بيانات الحريّة الأكاديميّة في دساتيرها، استجابة للضغوط الحثيثة. في النقاشات حول مبدأ الحريّة الفكريّة، ظهر التحدّي في إيجاد نقطة التوازن بين قيمتَيْن: فضاء جامعي خالٍ من التمييز، واستقلاليّة هيئة التدريس في إقرار النصوص. بعد عام 2020، غالبيّة الجامعات الأوروبيّة والأميركيّة عدّلت من قوانينها الداخلية، وذلك بإضافة بندٍ أو أكثر إلى دساتيرها، تمنع سلوكيّات، شخصيّة أو معرفيّة، تؤذي مضامين هويّة ما.

في استدعاء ميل

استدعِيَ ميل فورًا للتذكير بالدور المميز الذي تلعبه قيمة حريّة التعبير في عمق وعينا وأساس تشكّلنا كبشرٍ عقلانيين. وضع ميل حريّة التعبير في موضعٍ تصنيفي مختلفٍ تمامًا عن قيم الكرامة والاحترام، وطالب بالالتفات إلى الدور الجوهريّ الذي تلعبهُ قيمة حريّة التعبير في داخلنا على مستويين: مستوى الحفاظ على الاستقرار العقلانيّ لمعتقداتنا، ومستوى القدرة الدائمة على تبرير التصرّف انطلاقًا منها. بهذا المعنى، لحريّة التعبير دورٌ لا يمكن إنكارهُ في نسب صفة العقلانيّة علينا كبشر. أيُّ رقابةٍ على الآخر هي إنقاصٌ من الكمون العقلاني للرقيب. كيف يصلُ الفيلسوف النباتي، مَنْ طالب بحقّ النساء بحفظ ألقابهنّ وعدم الذوبان في كنية أزواجهنّ، إلى الرابط بين عقلانيّة الذات وحريّة الآخر؟

هذا هو ما ستحاول هذه المقالة إيضاحه.

 

عمل للفنانة الأميركية جيني هولز، فيه عبارات لميل مثل: “كل إسكات للرأي يفترض العصمة” والنصوص تتحرّك عاكسة فكرة النقاش المفتوح

والحال، في الفصل الثاني من “في الحريّة”، يضع ميل حجر البناء الأوّلي في حجّته، بإجراء تمييز مفهومي بين نزعتَيْن. ولأنّ الترجمة العربيّة المتوفّرة، لا تؤدّي الغرض المطلوب ولا تقبض على المعنى، فضّلت أن أترجم الضروري من الكتاب بنفسي. يقول ميل: “من الضروري إدراكُ وجود فرقٍ بين الفرضيتَيْن التاليتَيْن، إذْ لكلّ منها بناء فكري خاص، وحجّة ردّ مختلفة. الأولى، هي أنّه لا يمكننا أبدًا أن نكون متأكّدين من أنّ الرأي الذي نسعى لخنقه هو رأي خاطئ أو مزوّر أو زائف، والثانية، هي أنّه حتّى لو كنا متأكّدين، فإنّ خنقه سيكون، على الرغم من ذلك، شرًّا”. (صفحة 14). يعود ميل مُركّزًا على فكرة استحالة التأكّد المطلق من خطأ الرأي الذي نسعى إلى حجبه، إذْ يكمِلُ مرافعته بالقول: “الرأي الذي تخنقه السلطة ربّما يكون صحيحًا. بالتأكيد، مَنْ يمتلكون الرغبة في قمعه، ينكِرون صحّته، ولكنّهم ليسوا معصومين عن الخطأ. من يقمعون الآراء ليس لديهم الحقّ في حسم المسائل بشكلٍ كليّ لكلّ البشريّة، وليس لديهم الحقّ في نزع حقّ أساسي من الآخر، وهو الحقّ في إبداء الرأي، لأنّ إبداء الرأي هو الأداة الأساسيّة للحكم على الأشياء لدى البشر. من يرفضون سماع رأيٍ ما لأنّهم واثقون بأنّه زائف، يفترضون أنّ يقينهم الخاص هو مطابقٌ لليقين العام. المطابقة بين اليقين العام واليقين الخاص، يولِّد الاعتقاد بعدم القابليّة للخطأ. كل إسكاتٍ لرأي الآخر، هو افتراضٌ لعصمة الذات” (صفحة 14).
على طول كتابه، ما يقصده ميل ليس الرأي الخاص الذي لا بُعْد عموميًا له، بل إنّ اهتمامه المركزي هو في الآراء التي تمسّ القضايا السياسيّة والاجتماعيّة والعلميَّة. ومن أجل عجالة هذه المقالة، ومنعًا من التشعّب، لن يتمّ الخوض في أزمة الفصل بين القضايا التي تخصّ النقاش العام، وتلك التي لا تخصّ. كما لن يتم التطرّق إلى التوتّر بين حريّة الرأي والكرامة البشريّة، وذلك برسم الحدود بين الرأي المبني على حجج وخطاب الكراهية الصرف المفرّغ من الحجج.
رُفضِت حجّة ميل على نطاقٍ واسع في الأوساط الأكاديميّة والفكريّة والثقافيّة والفلسفيّة. الاعتراض هو أنّ النقطة التي ينطلق منها الفيلسوف الإنكليزي خاطئة وغير متماسكة. منعُ الرأي هو فعلٌ وتصرّف، وكلّ تصرّف ينبثق من اعتقادٍ أو إيمان ما، وليس بالضرورة أن يكون لدينا اليقين المطلق بهذا الاعتقاد أو الإيمان حتّى نتصرّف انطلاقًا منه في موقف معين. جعل اليقين المطلق وشعور العصمة عن الخطأ، معيارًا وشرطًا للتصرّف هو تحنيطنا في وضعية السكون، إذْ يوميًا في حياتنا العادية نتصرّف انطلاقًا من معتقدات غير مؤكّدة مائة بالمائة. ومنه، ليس بالضرورة أن ينطلق فعلُ إسكات الرأي من شعور العصمة الذاتيّة الجوهريّة كما يفترض ميل. نتبرّع بأموالنا إلى جمعيّات خيريّة رغم عدم معرفتنا المطلقة بنزاهتها الأخلاقيّة، ويجري الطبيب عمليّة جراحيّة في الدماغ المُسرطَن رغم عدم وجود ضمانة كاملة بنجاحها، وندخل علاقة حبّ رغم عدم وجود ثقة نهائيّة بأنّها ستتطوّر. كلّ الأفعال، ومنها فعل إسكات الرأي الخاطئ، لا تنطلق بالضرورة من إحساس بالعصمة الذاتية أو عدم القابلية للخطأ، ومقتَل حجَّة ميل، هو افتراضها حاجتنا إلى اليقين المطلق لممارسة فعل منع الرأي. بجعل العصمة الذاتيّة شرطًا للتحوّل من مرحلة الاعتقاد إلى ساحة الفعل، لن يركب أحد طائرة، ولن نأكل طعامًا من دون فحص كيميائي، ولن يعشق أحدٌ أحدًا.

 

“صرخة الصمت” للرسام فرانسيسكو غويا، إذا عاش في فترة الرقابة الدينية والسياسية.

رافضو ميل إذًا يردّون عليه بأنّه في حياتنا اليوميّة، نبني أفعالنا على معتقداتٍ ترتكزُ على أسباب معقولة، من دون ضمانة مطلقة، وبالتالي يمكننا منع الآراء عند تراكم الأسباب المعقولة والمبررات اللازمة، بدون الحاجة إلى شرط الضمان المطلق الذي يطلبه ميل. يحقّ لهيئة تدريس في إدارة كليّة أن تحظر النصوص التي تنكر وجود عنصريّة هيكليّة في البنى الأكاديميّة، ليس لأنّ هيئة التدريس تفترض أنّها معصومة عن الخطأ، لا، بل لأنّ السماح بإنكار هذه الحقيقة المهمّة في المُقرّرات الدراسيّة، هو أمر غيرُ محترمٍ ومؤذٍ لكرامة الطلاب غير البيض.
يبدو هذا الدحضُ ردًا مقنعًا وإفحامًا نهائيًا لحجّة ميل حول العصمة الذاتيّة واليقين المطلق. في سياق الردّ على هذا الدحض، تبرز الفكرة الأعمق في بناء ميل الفلسفي، وذلك بالإشارة إلى فرادة واستثنائيّة الضرر الذي يخلقه فعل إسكات الرأي الآخر، على خلاف الأفعال البشريّة الأخرى. الاستثنائي في فعل حريّة التعبير، هو أنّه شرط العقلانيّة نفسها. في هذا المقطع المضغوط والمُركّب، يقوم ميل، كصائغ ذهب في عالم الأفكار، بتوضيح فرق مفهومي بين نوعَيْن من الإسكات، وذلك بالقول: “ثمّة فرقٌ عظيم وجوهري بين افتراض صحّة رأي ما، لأنّه، بعد إتاحة كلّ فرصة للطعن فيه، نجا ولم يُبطَل، وبين افتراض صحّته لغرض عدم السماح بدحضه ومَنْع الطعن فيه. إنّ الحريّة الكاملة غير المنقوصة في مناقضة وإثبات خطأ رأينا، هي الشرط اللازم والكافي الذي يبرر لنا افتراض صحّته، وبالتالي الانتقال به من عالم الاعتقاد إلى ساحة الفعل. من خلال شرط الحريّة الكاملة والدائمة، وليس تحت أي شرطٍ آخر، يمكن لكائن بملكاتٍ عقليّة بشريّة أن يحصل على ضمانة عقلانيّة دائمة بأنّه على صواب” (صفحة 16).
في هذا المقطع المُكثَّف يتوضّح دفاع ميل الأكثر إثارة للاهتمام عن حريّة التعبير. افتراض صحّة رأي ما، لا يمكن أن يأتي إلا من خلال مسارَيْن: إمّا أن يكون هذا الافتراض قد تولّد نتيجة نقاشِ حرّ مفتوح غير مقيد، صمدَ فيه الرأي أمام كلّ محاولات دحضه وإبطاله، أو أن يكون هذا الافتراض سببًا لمنع وقمع كل المحاولات التي تسعى لإبطال الرأي. بمعنى آخر، يُوصَم الرأي بالخطأ، إمّا بعد اعتقاله من حاجز النقاش الحر، وسقوطه أمام كلّ المحاججات التي تدّعي صحّته، أو قبل وصوله لمنصّة النقاش الحر بمنع الاعتراضات التي تدّعي صحته. هذا فرق حساس وكبير، إذْ في الحالة الأولى وصم الرأي بالخطأ هو مُبرّر، وفي الحالة الثانية غير مُبرّر.
لإبراز قوّة فكرته، يُفرِّق ميل بين الاعتقاد المبرر والاعتقاد غير المبرر. يكتسب المعتقد صفة العقلانيّة، وبالتالي يصبح لدينا ضمانة عقلانيّة دائمة على اعتناقه والتصرُّف ارتكازًا عليه، فقط إذا كانت لدينا القدرة والقابليّة والرغبة في مواجهة كلّ الاعتراضات التي تسعى إلى إفشال هذا المعتقد. على عكس الكائنات المُتعالية المعصومة عن الخطأ، كالله ورسله وملائكته، من يرون الحقيقة فورًا ولا يحتاجون إلى تبرير، يمكننا امتلاك صكّ الأحقيّة العقلانيّة لإبقاء معتقداتنا، فقط إذا ما كانت لدينا القدرة على تمريرها بنجاح من عمليّة التبرير في الصراع الدائم مع المخالفين.

يقول ميل: “لا يوجد موضوع لا يكون فيه الاختلاف في الرأي ممكنًا”.

 

عمل “الحرية تقود الشعب” لأوجين ديلاكروا، ويصوّر روح الثورة والنضال من أجل الحرية السياسية والاجتماعية.

حصول عمليّة التبرير تتطلّب مناخًا صحيًا يساعد على تمثّل وتجلّي التبرير كتوازنٍ بين مجموعة متلاطمة من الأسباب المتضاربة. عمليّة التبرير تتحقق بوزن كلّ الأسباب المطروحة في ساحة النقاش الحرّ، ومن ثمّ تقييم تلك الأسباب اعتمادًا على الدلائل المتاحة. حتّى لو كانت لدينا أدلة وفيرة وممتازة على أنّ العنصرية الهيكليّة موجودة في البنى الأكاديمية، لا يجب قمع الأدلة التي تحاول أن تثبت عكس ذلك، أي الأدلة التي تشير إلى أنّ العنصريّة الهيكليّة غير موجودة في البنى الأكاديمية. فسح المجال أمام كلّ الأدلّة المناقضة لرأينا، يعزّز الطاقة العقلانيّة في عمليّة تبرير معتقداتنا، وقمع الرأي الآخر يحرمنا من الوصول إلى نقطة التوازن الضروريّة للتبرير، أي وزن أدلتنا الذاتيّة بالمقارنة مع المجموع الكلّي للأدلّة المتوافرة في سوق النقاش.
شرطُ امتلاكنا لمُعتقداتٍ مُبرّرة هو وجود بيئةٍ تسمح بقياس الأسباب مع أو ضد معتقداتنا. بإسكاتنا الآراء التي نعتبرها خاطئة أو مُزيّفة أو كاذبة، نقصي عنصرًا جوهريًا من مسرح التبرير، ونفقد القدرة على الانتقال من مستوى الاعتقاد إلى حيّز الفعل. الأسباب التي من خلالها نعتقدُ أنّ رأيًا ما هو صحيح، يجب أن تُوازَن مع الأسباب التي تشيرُ إلى أنّ هذا الرأي خاطئ. ولا تحصل عمليّة الموازنة سوى في بيئة سياسية- اجتماعيّة، يُقرُّ فيها بدون لبس ومواربة بحقّ المختلف في التعبير. الترحيب المستمر بالاعتراض الدائم على معتقداتنا، يبقيها في حالة التبرير الدائم والقدرة المستمرة على التجديد، إذْ أنّ الاعتراض الدائم يُكسب معتقداتنا حيويّة وإشراقًا ومرونة، والمعتقد الذي لا يستطيع إعادة إنتاج نفسه، أو يرتفع نحو الأعلى لخفّته في كِفّة ميزان المجموع الكلي للأدلة، سيتكلّس في عزلته، ويجب أن يتنحَّى مشكورًا.
هنا تتوضّح الدائرة المستحيلة والحلقة المُفرغة، والتي تؤسّس النواة الصلبة في حجّة ميل حول حريّة التعبير. لمّا نسكت رأيًا، قبل أن نسمعه، بسبب اعتقادنا بأنّه خاطئ، نفقد قدرتنا على تبرير اعتقادنا بأنّ هذا الرأي خاطئ. هذه حلقة مفرغة، والإحساس بها يوضّح الاستحالة الفلسفيّة، وهي أنّ إسكات أي رأي، يقوّض تبريره الخاص، ومنع الرأي المخالف لا يمكن أن يكون مبرّرًا أبدًا. حقيقة أنّ جريمة الهولوكوست حصلت، هي حقيقة قادرة على إعادة إنتاج نفسها بالأدلّة والشهادات والصور والأفلام والمراسلات والأغاني والقصص الشخصية، وذلك ضد أي دليل يحاول أن ينفي حصولها. وفسح المجال أمام أي دليل ينكر حقيقة الهولوكوست، يعطي الفرصة لإبطاله فورًا أمام الأدلة الوفيرة القادرة على إعادة إنتاج نفسها، وبالتالي الوصول إلى ترسّخ أعمق للحقيقة وتبرير أكثر حدّة للقناعة.

إن فعل إسكات الرأي هي حلقة النار التي إذا ما صُنِعَت حول العقرب، فإنّه سيلسع نفسه منتحرًا.

 

عمل “دوّار الشمس” للفنان الصيني، آي وي وي، الذي لطالما ناهض نزعة المراقبة والتحكم للنظام الصيني.

ما تحاول حجة ميل إلقاء الضوء عليه حول خصوصيّة فعل حرية التعبير، وتمييزه من الأفعال البشرية الأخرى، هو الدور الذي لا يمكن التخلّي عنه للانفتاح الفكري في حياتنا كعملاء عقلانيين. حتّى تختبر اعتقاداتك ضد كلّ الاعتراضات، يجب أن تعطي الآخرين الحريّة الكاملة لإثارة أيّ اعتراض. لشرح تداعيات فكرته، يعمِّق ميل النقاش موضّحًا التأثيرات الثوريّة لحجته حول المعرفة البشريّة وطبيعة الحقيقة بالمجمل. يشبّه معتقداتنا الأكثر ترسّخًا وتبريرًا بالمحارب الصلب الذي لا يهرب من المواجهة بالاختباء خلف أسوار الرقابة، بل يقف مشمرًا عن ساعديه في ساحة النقاش الحر متحديًا الجميع على إبطاله.
لم تكتسب نظريّة داروين في التطوُّر قوّتها الإقناعيّة وأصالتها الفكريّة من لحظة النشأة فحسب، بل قدرتها الدائمة على مواجهة أشرس الهجمات الدينيّة والعلميّة، إذْ كانت تخرج مُتحقَّقة أكثر بعد كلّ مواجهة. المعتقد المُبرَّر لا يكتفي بالاستراحة بعد معركة واحدة مع الاعتراض، بل فيه دعوة مستمرة للعالم على إثبات بُطلانه. ويحذّر ميل من إنّه إذا لم يوجد أحد يقبل تحدّي المحارب، أو قبله الجميع وفشلوا، أي أنّه حتّى لو انتصر معتقدنا في المعركة على كلّ خصومه، فإنّ هذا لا يعني أننا وصلنا إلى اليقين المطلق والحقيقة الكاملة. هذه إشارة خطيرة. صحيح أنّ ليس لدينا الآن أدلة دامغة كافية لبناء اعتقاد بوجود حضارة خارج الأرض، إلا أننا يجب أن نبقى في حالة من الانفتاح الفكري والاستعداديّة الدائمة لأدلّة جديدة، ربما ستكون قادرة مستقبلاً على دحضّ اعتقادنا بعدم وجود حضارة خارج الأرض.

الحقيقة سياقية وزمنية، وليست مطلقةً تتربّع في مرتبةٍ متعالية على حركة التاريخ.

يقول ميل: “إن معتقداتنا المترسّخة التي نمتلكُ أقوى التبريرات إزاءها، لا تمتلك ضمانةً دائمة تستند عليها، سوى وضعيّة الدعوة الدائمة للعالم لإثبات أنّّه لا أساس لها. لكن علينا أن نعلم بحذر، أنّه حتّى لو لم يقبل أحد التحدّي، أو قبله الجميع وفشلوا، لا زلنا سنكون بعيدين جدًا عن حالة اليقين المطلق. بالدعوة الدائمة، نكون قد فعلنا أفضل ما يسمح به الوضع الراهن للعقل البشري، إذْ لم نهمل أو نعرقل شيئًا كان يمكن أن يعطي فرصة للحقيقة في الوصول إلينا. بقاؤنا في وضعية الدعوة الدائمة والذهن المفتوح، يُشكِّل لدينا أملًا بأنّه إذا وُجِدَت حقيقة مبنيَّة على أدلّة أفضل في المستقبل، فسيكون العقل البشري قادرًا على استيعابها. في أي لحظة تاريخيّة، لا يمكن سوى الحديث عن اقتراب معين من الحقيقة. اقتراب ممكنٌ بقدر ما هو متاحٌ في عصرنا. فقط، مقدارٌ معيّن من اليقين، هو أقصى ما يمكن للكائن البشري الخطّاء الحصول عليه. والبقاء في وضعية الدعوة الدائمة هو سبيل الحصول لامتلاك هذا المقدار” (صفحة 18).
المثير هو أنّ نفسيّة الدعوة الدائمة لإفشال معتقداتنا، تفتح المجال أمام سماع اعتراضات جديدة كلما نشأت في المستقبل. بمعنى أنّ رأينا المُبرَّر قادم ومشتقّ من وزن الأدلة المتاحة لنا في لحظة تاريخيّة معيّنة، وليس كافيًا وزن الأدلة بشكل صحيح لمرّة واحدة فقط في التاريخ، بل يجب أن تبقى الاستعداديّة عالية لمواجهة أدلة جديدة قد تنشأ في المستقبل. التبرير ليس حدثًا يحصل مرّة واحدة في التاريخ، بل هو فزعةٌ مستمرّة لا تنفصل عن حركة التاريخ نفسها. الأمثلة في تاريخ العلم كثيرة، إذْ هيمن نظام بطليموس على الفكر الفلكي لأكثر من ألف عام، وكانت نتائجه العلميّة استخلاصًا منطقيًا مُبرّرًا من الأدلة المتوافرة له في عصره. استطاعت نظرية بطليموس حول مركزية الأرض أن تعيد إنتاج نفسها في وجه كلّ النظريات العلمية المنافسة آنذاك، ولما جاء غاليليو بتلسكوبه، أظهر أنّ أقمار المشتري تدور حوله، وبأنّ الأطوار الفصليّة لكوكب الزهرة تدعم نموذج مركزيّة الشمس الذي اقترحه بالضدّ من نظريّة بطليموس حول مركزية الأرض. المؤسّسة الدينيّة والعلميّة استنفرت ضدّه، ورفضت النظر حتّى في التلسكوب، وفي اللحظة التي رفض فيها مؤيدو بطليموس النظر إلى الأدلة الدامغة الجديدة التي طرحها غاليليو، فقدوا كلّ مبرراتهم بالتمسّك في نظريتهم حول مركزية الأرض. فقدوا مُبرّراتهم ليس لأنّ نظريتهم كانت خاطئة من البداية، لا، بل لأنّهم تخلوا عن وضعية الانفتاح الدائم الذي جعل اعتقادهم مُبرّرًا في الأصل، وفضّلوا قمع رأي غاليليو الذي كان يثقل تدريجيًا في ميزان الأدلة.
الانفتاح الذهني حالة طوارئ فكرية، تستبدل القناعة النهائية بالقابلية للمراجعة، والمعرفة المنفتحة على التجديد بالخبرة المكتملة، والمعتقد الذي يقبل المحاكمة الدائمة بالمعتقد المؤبّد في سجن الثقة. ومنه، فبدلًا من النضال من أجل فصل بابيروفسكي من عمله، لا بد من النظر إلى حججه، وبدلاً من منع مقالة توم كوتون من النشر في “نيويورك تايمز”، لا بدّ من جعل حججه متاحة أمام الجميع كي يتسنى تفنيدها وموازنة معتقداتنا ضدها.

لأنّ أي إسكات للرأي الآخر، ليس إلا انتحارًا للتبرير.

* كاتب سوري، من أسرة تحرير “ضفة ثالثة”، يدرس ماجستير فلسفة في جامعة هومبولدت في برلين.

شارك هذا المقال

Continue Reading

Previous: تراجع التحويلات المالية إلى السوريين… تعرف على الأسباب نور ملحم …المصدر:العربي الجديد
Next: الدكتور محمد نور الدين….  صلاحيات «ديانت» الجديدة: وحدها الدولة من تفسّر الدين…صفحة الكاتب

قصص ذات الصلة

  • مقالات رأي

ولماذا الحرية؟ لكي نشرب الويسكي مثلاً؟. عمر قدور……..المصدر: المدن

khalil المحرر يونيو 7, 2025
  • مقالات رأي

الدكتور محمد نور الدين….  صلاحيات «ديانت» الجديدة: وحدها الدولة من تفسّر الدين…صفحة الكاتب

khalil المحرر يونيو 7, 2025
  • مقالات رأي

اكرم حسين عن المواطنة المتساوية في سوريا…؟.المصدر:صفحة الكاتب

khalil المحرر يونيو 7, 2025

Recent Posts

  • رئيسة الوفد الكردي لـ«الشرق الأوسط»: طرحنا في اجتماع دمشق المشاركة بالبرلمان والتحفظ على الإعلان الدستوري.القامشلي سوريا المصدر: كمال شيخو. الشرق الاوسط
  • ولماذا الحرية؟ لكي نشرب الويسكي مثلاً؟. عمر قدور……..المصدر: المدن
  • الدكتور محمد نور الدين….  صلاحيات «ديانت» الجديدة: وحدها الدولة من تفسّر الدين…صفحة الكاتب
  • الدائرة المستحيلة وانتحار التبرير دارا عبدالله،،….المصدر:ضفة ثالثة
  • تراجع التحويلات المالية إلى السوريين… تعرف على الأسباب نور ملحم …المصدر:العربي الجديد

Recent Comments

لا توجد تعليقات للعرض.

Archives

  • يونيو 2025
  • مايو 2025
  • أبريل 2025
  • مارس 2025
  • فبراير 2025
  • يناير 2025
  • ديسمبر 2024
  • نوفمبر 2024
  • أكتوبر 2024
  • سبتمبر 2024
  • أغسطس 2024
  • يوليو 2024
  • يونيو 2024
  • مايو 2024
  • أبريل 2024
  • مارس 2024
  • فبراير 2024
  • يناير 2024
  • ديسمبر 2023
  • نوفمبر 2023
  • أكتوبر 2023

Categories

  • أدب وفن
  • افتتاحية
  • الأخبار
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • حوارات
  • دراسات وبحوث
  • مقالات رأي
  • منوعات

أحدث المقالات

  • رئيسة الوفد الكردي لـ«الشرق الأوسط»: طرحنا في اجتماع دمشق المشاركة بالبرلمان والتحفظ على الإعلان الدستوري.القامشلي سوريا المصدر: كمال شيخو. الشرق الاوسط
  • ولماذا الحرية؟ لكي نشرب الويسكي مثلاً؟. عمر قدور……..المصدر: المدن
  • الدكتور محمد نور الدين….  صلاحيات «ديانت» الجديدة: وحدها الدولة من تفسّر الدين…صفحة الكاتب
  • الدائرة المستحيلة وانتحار التبرير دارا عبدالله،،….المصدر:ضفة ثالثة
  • تراجع التحويلات المالية إلى السوريين… تعرف على الأسباب نور ملحم …المصدر:العربي الجديد

تصنيفات

أدب وفن افتتاحية الأخبار المجتمع المدني الملف الكوردي حوارات دراسات وبحوث مقالات رأي منوعات

منشورات سابقة

  • الأخبار

رئيسة الوفد الكردي لـ«الشرق الأوسط»: طرحنا في اجتماع دمشق المشاركة بالبرلمان والتحفظ على الإعلان الدستوري.القامشلي سوريا المصدر: كمال شيخو. الشرق الاوسط

khalil المحرر يونيو 7, 2025
  • مقالات رأي

ولماذا الحرية؟ لكي نشرب الويسكي مثلاً؟. عمر قدور……..المصدر: المدن

khalil المحرر يونيو 7, 2025
  • مقالات رأي

الدكتور محمد نور الدين….  صلاحيات «ديانت» الجديدة: وحدها الدولة من تفسّر الدين…صفحة الكاتب

khalil المحرر يونيو 7, 2025
  • مقالات رأي

الدائرة المستحيلة وانتحار التبرير دارا عبدالله،،….المصدر:ضفة ثالثة

khalil المحرر يونيو 7, 2025

اتصل بنا

  • Facebook
  • Instagram
  • Twitter
  • Youtube
  • Pinterest
  • Linkedin
  • الأرشيف
Copyright © All rights reserved. | MoreNews by AF themes.