–
غير مرّة، أعلن الرئيس السوري أحمد الشرع أن السلطة ليست غاية له بحد ذاتها. قد لا يأخذ بعض السوريين هذا الإعلان من الشرع على محمل الجد. ولكن لا يمكن لأحد على الإطلاق إنكار حقيقة أن هناك فريقاً سورياً عريضاً يؤمن فعلاً بجدّيته وصدقه، ويختار كاتب السطور، ومعه سوريون آخرون، أن ينحازوا لهذا الرأي، ولكن لأسباب قد تكون مختلفة، فهم يرون في سيرة الشرع سنواتٍ طويلة التزاماً ثابتاً بالفكر الذي يؤمن به ويمثله، ويحملون هواجس حقيقية في أن اهتمامه بتعزيز هذا الفكر في الدولة والمجتمع السوري يتجاوز بمراحل اهتمامه في قضية السلطة بحدّ ذاتها، عزّزت هذه الهواجس قرارات وتعيينات كثيرة وبعض فقرات الإعلان الدستوري الذي جاء أقرب إلى أن يكون دستوراً منه إعلاناً، مع فارق وحيد، أنه لم يخضع لأي تصويت.
ليس لدى أغلب السوريين من كل المشارب الاجتماعية والسياسية والدينية أية حساسية تجاه الالتزام الديني والعقائدي والفكري للرئيس الشرع والدائرة المقرّبة منه، خاصةً أنه ليس خافياً، ويظهر في تصرّفاتهم وتعاملاتهم مع الناس من كل الأطياف، سوريين أو أجانب، مواطنين أو ضيوفاً، بل يمكن بسهولة الزعم أن أغلب السوريين ينظرون بعين التقدير والاحترام لهذا الالتزام، ظهر ذلك بوضوح في تفاعلهم على وسائل التواصل الاجتماعي مع وقائع متعدّدة، رفض فيها الشرع مثلاً مصافحة النساء، أو أن يتصوّر مع فتاة سافرة طلبت هي الصورة معه في الشارع. يصل هذا التقدير والاحترام إلى غايته عندما ينعكس هذا الالتزام الديني على أخلاقيات الرئيس الشرع وفريقه المقرّب منه، والمستويات الأدنى نزولاً إلى عناصر الأمن العام في الطرقات، وتعاملهم المهذّب والبشوش مع السوريين الذين ارتبطت صورة السلطة في مخيّلاتهم عقوداً طويلة بكل ما هو سلبي وغير إنساني في الحالات العادية، ودموي وإجرامي في الحالات التي تجرّأ فيها بعضهم وطالبوا بأدنى حقوقهم الإنسانية قبل السياسية، على أن هؤلاء السوريين أنفسهم يرفضون أيضاً، وبشكل قاطع، قد لا يصرّحون به علناً اليوم، وإن كانوا يفعلون في دوائرهم الضيقة، أن يتغيّر الشكل العام للسلطة المتمثلة في الدولة، إلى درجةٍ تسمح لها بالتدخّل، ولو بشكل غير مباشر، في طريقة حياتهم وسلوكهم الاجتماعي، والأهم من ذلك الديني، بل يكون الأمر أكثر حساسيةً عند السوريين الملتزمين دينياً، فليس سرّاً على الإطلاق أن الشرع وفريقه يتبعان منهجاً دينياً سلفياً، يتناقض بالمطلق مع “الإسلام الشامي” الأشعري ذي النزعة الصوفية المتجذِّرة حتى في طرائق العمران على امتداد سورية عموماً، وفي المدن الكبرى خصوصاً، وما تزخر به من تكايا وزوايا ومراقد وأضرحة.
كان لافتاً خروج تجار سوق الحميدية مهللين لانقلاب الأسد على رفاقه، حاملين رايات كتب عليها “طلبنا من الله المدد فأرسل لنا حافظ الأسد”
تُثبت عودة سريعة إلى التاريخ القريب مدى حساسية السوريين للون الواحد والفكر الواحد، فالسوريون عروبيون بالفطرة، قبل حزب البعث وجمال عبد الناصر، وكانت الوحدة العربية دوماً حلماً أصيلاً في نفوسهم، ربما يفسر هذا حنينُهم المتوارث لحقيقة أن عاصمتهم كانت عقوداً تسعة عاصمة الدولة الأكثر عروبةً في التاريخ، دولة بني أمية، التي سيكون مهمّاً جداً تذكر أنها حافظت دوماً على التنوع والثراء الفكري والعرقي في كل نواحي الحياة، بل إن أغلب طبقة “التكنوقراط” فيها كانت من غير العرب وغير المسلمين، هؤلاء السورين نفسهم الذين طالبوا الرئيس عبد الناصر بإلحاح بالوحدة في 1958، وقف كثير منهم مع الانفصال بعد ثلاث سنوات، ليس لأنهم صاروا أقلّ إيماناً بالوحدة، ولكن لأنهم شعروا أن دولتها افتأتت على تنوّعهم السياسي والفكري لصالح فكرٍ واحدٍ ولونٍ واحد، رغم اقتناعهم الصادق بِهِ.
مع “البعث” الذي قفز إلى السلطة في سورية في مارس/ آذار 1963، كانت التجربة أكثر تعقيداً، فبعد أن تمكّن التيار الراديكالي فيه من إزاحة التيار التقليدي في فبراير/ شباط 1966، انحصرت السلطة بين التيار الذي يؤمن بالحزب ومسؤوليته في تغيير المجتمع، ممثلاً في صلاح جديد، وتيّار يمثله حافظ الأسد وحده تقريباً، يؤمن بالسلطة ولا شيء دونها أو سواها، متمترساً بالجيش ومفاصله الدقيقة من خلال ضباط من كل الطوائف، اختارهم بعناية شديدة ليكونوا على قياس المزرعة التي يحلم بها له ولعائلته من بعده.
شريحة واسعة من السوريين، ولعلها الأوسع اليوم، ترى في أحمد الشرع محرّراً ومخلصاً وضمانةً لمرحلة انتقالية لسورية ما بعد الأسد
بخبثٍ شديدٍ، ترك حافظ الأسد منافسه البعثي القوي صلاح جديد يغرق في “شطحاته الثورية”، وخطؤه الاستراتيجي في أنه أراد سورية من لون واحد لم يشفع له ولفريقه عند السوريين أنهم كانوا الأنظف كفاً والأكثر وفاءً لفلسطين، القضية الأكثر أصالةً في الوجدان السوري، فسورية لا تحتمل اللون الواحد مهما كان جَذَّاباً أو برّاقاً، وكان لافتاً خروج تجار سوق الحميدية مهللين لانقلاب الأسد على رفاقه، حاملين رايات كتب عليها “طلبنا من الله المدد فأرسل لنا حافظ الأسد”. وأدرك الأخير، بمنتهى الدهاء، أن دمشق (ومثلها حلب) تقوم على علاقة دقيقة بين السنّية الدمشقية والبازار المتمثل في شارع الحريقة، فقرَّب إليه طرفي المعادلة المتمثلين بالمفتي العام أحمد كفتارو وشهبندر التجار بدر الدين الشلاح، وحتى الزعامات الدينية (الدمشقية والحلبية) التي لم تخضع بالمطلق لسلطان الأسد الأب، وحافظت على مسافةٍ منه، بل ناكفته بصلابة في دستور 1973، فقد عرف، مع الوقت، ومن خلال ضباط أمنه الثقاة مثل محمد ناصيف وهشام اختيار، كيف يجترح معهم “اتفاقية جنتلمان” غير معلنه ولا مكتوبة، التزموا فيها بعدم الخروج عليه، والتزم هو بعدم التدخّل في عباداتهم وطرقهم وفكرهم الديني. كان حافظ الأسد يؤسّس لحكم المزرعة الذي استمر ثلاثة عقود، وكان مخطّطاً له أن يستمر فترة أطول مع وريثه لو أنه أدرك أبسط مقوّمات إدارة المزارع.
لا يمكن لأحدٍ أن ينكر أن شريحة واسعة من السوريين، ولعلها الأوسع اليوم، ترى في أحمد الشرع محرّراً ومخلصاً وضمانةً لمرحلة انتقالية لسورية ما بعد الأسد، ولكن ذلك كله لن يغير في حقيقة أن هناك تياراً سورياً عريضاً ومتصاعداً لا يريد لسورية أن تتحوّل معه إلى نظام حكم ثيوقراطي ذي لون واحد، أقرب إلى الطابع الديني منه إلى المدني، خصوصاً أنه يتبنى مدرسة دينية متفردة، تجاوزتها حتى الدول التي كانت مهداً لها، وكانت أسس حكمها تقوم على فكرها، مع ملاحظة أن من حق الرئيس الشرع وغيره أن يتبعوا المدرسة الدينية والفكرية التي يشاؤون، ما دام ذلك لا يتداخل مع بنية الدولة ولا يتدخّل في تركيبة المجتمع السوري.
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News