يتقاطع الواقع اللبناني المأزوم مع التحولات الاقليمية والدولية في لحظة شديدة الحساسية، تتكثّف فيها الأسئلة حول معنى السيادة، وحجم التهديد، ومصير الدولة في ظل فائض السلاح وتزايد الضغوط الخارجية. فملف سلاح “حزب الله”، الذي شكّل على مدى سنوات محور الانقسام اللبناني، يعود اليوم إلى الواجهة، ليس من باب التصعيد مع إسرائيل وحسب، بل أيضاً باعتباره ورقة ضمن لعبة دولية كبرى تُرسم ملامحها في مسقط، وتُراقَب تداعياتها في بيروت وتل أبيب وبغداد.
داخلياً، يبقى السلاح خارج الدولة عقدة مستعصية في صميم المشهد السياسي. الغارات الاسرائيلية تتوالى على الجنوب والبقاع، وسط اتهامات للحزب بإعادة بناء بنى تحتية عسكرية داخل مناطق سكنية، خصوصاً في الضاحية الجنوبية، بالتوازي مع تهديدات صريحة من تل أبيب بتكرار “نموذج ليبيا”. أما واشنطن، فتصعّد ضغوطها على الحكومة اللبنانية والجيش، مطالبةً بنزع السلاح غير الشرعي، ما يرفع منسوب التوتر ويهدد بعودة شبح الحرب الأهلية إلى المشهد اللبناني.
في المقابل، لا يبدو “حزب الله” رافضاً بالمطلق لنقاش سياسي مشروط حول السلاح. القيادي في الحزب، غالب أبو زينب، حدّد بوضوح معالم الموقف: لا تفكيك للمقاومة قبل الانسحاب الاسرائيلي من الأراضي اللبنانية المحتلة، وقبل قيام دولة تمتلك مقومات تؤهّلها لتسلّم “أدوات الدفاع”. هذا الموقف يتقاطع جزئياً مع المواقف الرسمية، لا سيما من رئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام، اللذين شددا على أولوية الانسحاب وتحرير الأسرى كمدخل لأي نقاش في الاستراتيجية الدفاعية. وقد بدأ عون، بالتنسيق مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، بوضع إطار سياسي للحوار مع الحزب في محاولة لإدارة الملف ضمن مؤسسات الدولة.
على وقع هذه التطورات، تتسارع المتغيرات على الساحة الاقليمية. ففي مسقط، العاصمة العُمانية، تُعقد مفاوضات أميركية – إيرانية حساسة بشأن الملف النووي. الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعلن عن محادثات مباشرة، واضعاً طهران أمام “الفرصة الأخيرة”، بينما تعتبر إيران اللقاءات غير مباشرة، متهمة واشنطن بنصب “كمين ديبلوماسي”، ومصرة على أن المبادرة بيد الادارة الأميركية.
في موازاة ذلك، ترفع إسرائيل منسوب التهديد، ملوّحة بخيار “تفكيك بالقوة” لما تصفه بالبنية التحتية العسكرية لـ”حزب الله”، في تكرار لسيناريوهات التدخل المباشر، كما حصل في ليبيا. هذا التصعيد الاسرائيلي لا يمكن عزله عن الضغط الأميركي المتزايد، سواء في لبنان أو على خط التوتر الاقتصادي مع الصين.
في ساحة موازية، تشن واشنطن حرب رسوم جمركية شاملة، رفعت بموجبها الضرائب على الواردات الصينية إلى 125%، وهدّدت بإجراءات مماثلة تطال أكثر من 60 شريكاً تجارياً. النتيجة كانت هزة عنيفة في الأسواق: بورصة طوكيو انهارت، مؤشرات تايوان تراجعت بصورة حادة، واليوان الصيني بلغ أدنى مستوياته منذ 19 شهراً. الصين لم تتأخر في الرد، فرفعت الرسوم على المنتجات الأميركية بنسبة 50%، فيما دعا رئيس الوزراء لي تشيانغ إلى “سياسات أكثر استباقية” لمواجهة هذه الصدمات.
في محاولة لتهدئة الأسواق، أعلن ترامب تعليق الرسوم على الدول الأخرى لـ90 يوماً، ما أدى إلى انتعاش محدود في بورصات نيويورك، حيث حقق مؤشرا “ناسداك” و”داو جونز” قفزات مدفوعة بهذا الاعلان. لكن على الرغم من ذلك، تبقى الأسواق قلقة، إذ إن الأزمة باتت تتجاوز المعادلات الاقتصادية إلى صلب التوازنات العالمية، مع استمرار الغموض حول المسار الذي ستتخذه الحرب التجارية.
من لبنان إلى مسقط، ومن بكين إلى واشنطن، تتقاطع ملفات السلاح والتجارة والنووي في لحظة مفصلية. فمسألة سلاح “حزب الله” لم تعد مجرد شأن داخلي لبناني، بل باتت ورقة إقليمية في رسم ملامح الشرق الأوسط الجديد. والمفاوضات الجارية في مسقط ليست لإنقاذ اتفاق نووي وحسب، بل اختبار لقدرة العالم على تجنّب الانهيار الشامل، سواء عبر الرصاص أو عبر الرسوم.
سلام السلاح على طاولة الحكومة
في السياق نفسه، أعلن الرئيس سلام، أن قضيتي حصر السلاح وبسط سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية ستُطرحان قريباً على طاولة مجلس الوزراء، وفق ما نقلته وسائل إعلام لبنانية. وأوضح سلام، عقب لقائه البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي، أن البيان الوزاري “أكد أن قرار الحرب والسلم بيد الدولة”، مشدداً على أنه لم يتلقَ أي تهديد يتعلق بإمكان عودة الحرب، ومطالباً في الوقت نفسه إسرائيل بالانسحاب الكامل من الجنوب.
رسامني ينفي تهريب السلاح عبر المرفأ
وعلى خط السلاح أيضاً، شدّد وزير الأشغال العامة والنقل فايز رسامني، خلال جولة في مرفأ بيروت، على أن العمل في المرفأ سيستمر “بالقوة نفسها التي عملنا بها في المطار”، كاشفاً عن اجتماع عقده مع الأجهزة الأمنية العاملة في المرفأ، ومؤكداً أن “الوضع الأمني ممسوك بيد من حديد”. ورداً على التشكيك الذي طاول قدرة المرفأ التشغيلية، قال: “لن نسمح لأحد بالتشكيك، ولن نسمح بتكرار الكلام الذي صدر أمس”، مضيفاً: “إذا كان هناك شيء، فليُقدم الدليل”. وشدد على أن “الموضوع الأمني أولوية”، لافتاً إلى ضرورة “تحديد قانونية المرفأ ومجلس إدارته، وإعادة النظر في القوانين وتعديلها وتفعيلها”. كما أعلن أن اللجنة المؤقتة ستطلعه على الملفات التي يجب العمل عليها، مؤكداً التوجه نحو تطوير المرفأ على مختلف الصعد.
غارات وتحليق مكثف للطيران الاسرائيلي
ميدانياً، أعلن الجيش الإسرائيلي سقوط مسيّرة تابعة له داخل الأراضي اللبنانية نتيجة خلل تقني، مؤكداً أن “لا خطر من تسرب المعلومات”. وشهدت الأجواء اللبنانية منذ ساعات ظهر أمس تحليقاً مكثفاً للطيران الحربي الاسرائيلي على علو متوسط. وفي تطور لاحق، شنّت مروحية أباتشي غارتين على منزلين في بلدة ياطر، بينما استمر التحليق الكثيف للطائرات الحربية فوق قرى القطاع الغربي وبلداته.
وتواصلت الغارات الاسرائيلية، مستهدفةً منازل تلقى سكانها تهديدات مباشرة بالإخلاء، في أعقاب غارة تحذيرية سابقة على البلدة، بعد اتصالات أنذرت قاطني ثلاثة منازل بوجوب الإخلاء الفوري. وقد تبلغ الجيش اللبناني وقوات “اليونيفيل” بالأمر، وشرعا في المتابعة.
وفي تطور ميداني آخر، حلّقت طائرة مسيّرة معادية على علو منخفض فوق مدينة صور ومحيطها، بصورة متواصلة، في حين شهدت منطقة جزين تحليقاً مكثفاً للطيران الحربي الاسرائيلي. كما شنّت مسيّرة غارة على محيط المدرسة الرسمية في بلدة راميا.
اتهام للحزب بإعادة بناء موقع عسكري في الشويفات
في سياق التصعيد ذاته، اتهم الجيش الاسرائيلي “حزب الله” بإعادة إنشاء موقع عسكري تحت الأرض في الضاحية الجنوبية لبيروت، ما أثار المخاوف من تجدد الاستهدافات الاسرائيلية للمنطقة، بعد أسبوع شهد ضربتين جويتين إسرائيليتين في غضون ثلاثة أيام.
وقال المتحدث باسم الجيش الاسرائيلي، أفيخاي أدرعي، إن “حزب الله” يعمل على إعادة بناء موقع تحت الأرض في منطقة الشويفات، كان مخصصاً لإنتاج وسائل قتالية، بعد استهدافه في تشرين الثاني 2024. وأضاف أن الموقع يقع في منطقة سكنية قرب مدرسة، ما يشكل تهديداً مباشراً للمدنيين.