المعجبون به، والذين كانوا يحضرون محاضراته عن هيغل، يقولون بأنّه كان من أبرز فلاسفة القرن العشرين، ومن أكثرهم عمقًا، ومعرفة بالتّراث الفلسفي منذ الإغريق. ذلك هو ألكسندر كوجيف (1902 ــ 1968) الذي كان يحذق لغات عدة، وبها يتكلّم بطلاقة. لذلك اختارته الدول الأوروبيّة لكي يكون موظّفًا ساميًا في منظّماتها الكبيرة. وقد أحاط ألكسندر كوجيف حياته بالغموض والألغاز، حتى أن بعضهم حوّله إلى أسطورة. وكان الكاتب الفرنسي المرموق رايمون كينو، صاحب “زازي في الميترو”، يلقّبه بـ”فيلسوف الأحد”، لأنّه كان ينصرف إلى التأمّل الفلسفيّ في عطلة الأسبوع.
ولد ألكسندر كوجيف في موسكو عام 1902. وهو ينتمي إلى عائلة ثريّة. وعقب وفاة والده في حرب منشوريا ضدّ اليابان عام 1904، تزوّجت أمّه من شخص يدعى ليمكول. وقد انشغل هذا الأخير بتربيته، فاتحًا ذهنه على عالم الأفكار والنظرّيّات الفلسفيّة مبكّرًا. وكانت لألكسندر كوجيف قرابة عائليّة بالفنّان الشّهير فاسيلي كاندينسكي، ومعه سيتبادل رسائل مهمّة للغاية. على عتبات المراهقة، قام قطّاع طرق بقتل ليمكول في الغابة، فتدهورت الأوضاع الماديّة للعائلة. وعند اندلاع الثّورة البلشفيّة عام 1917، اعتقل الشيّوعيّون ألكسندر كوجيف بتهمة ممارسة التجارة في السّوق السّوداء، وكاد أن يعدم، غير أنه تمكّن من الفرار. وعندما حاول مواصلة دراسته، اعترضته عراقيل كأداء رغم أنه قبل الانتساب إلى الحزب الشيوعي. ولما أدرك أن تطبيق الشيوعية سيفضي إلى كوارث فظيعة، غادر موسكو سرًّا عام 1919. وبرفقة صديقه جورج فيت، الذي تعرّف عليه في السّجن، وصل إلى بولونيا. وفي فرصوفيا تمّ اعتقاله مرّة أخرى، لكن بتهمة التّحريض على الشّيوعيّة هذه المرّة. وخلال فترة الاعتقال، فَقَدَ مؤلّفه الأوّل الذي حمل عنوان “دفاتر فلسفيّة”.
بعد إطلاق سراحه، توجّه ألكسندر كوجيف إلى برلين الخارجة للتّوّ من الحرب، غير أنه لم يمكث فيها إلاّ قليلًا. ليتوجه إلى إيطاليا، وفيها انصرف إلى كتابة ملاحظات وأفكار عن الفنّ المتأثّر بالبوذيّة. وعند عودته إلى ألمانيا وهو في سنّ الثّامنة عشرة، انتسب إلى جامعة هايدلبرغ، ليدرس اللّغات الشّرقيّة، الصّينيّة منها بالخصوص. كما دَرَس الفلسفة، مواظبًا على حضور محاضرات كارل ياسبرس الذي أشرف على الأطروحة التي قدّمها عند تخرّجه. وفي سنّ الرّابعة والعشرين، انتقل إلى باريس ليدرس الفيزياء والرياضيّات الحديثة. في الآن نفسه، تابع المحاضرات الفلسفيّة التي كان يلقيها أساتذة مرموقون في جامعة السّوربون، مثل كويري، وهو روسيّ ترك بلاده بعد انتصار الثّورة البلشفيّة. معه سيرتبط بعلاقة حميمة، وبواسطته سيتعرّف على رايمون كينو، وعلى جورج باطاي، وعلى نخبة من المفكّرين والكتاب والشعراء والرسّامين. وعندما غادر كويري إلى القاهرة، ترك كرسيّه الفلسفي لكوجيف. وظهيرة كلّ يوم اثنين كان الأستاذ الشاب يلقي أمام جمع من المعجبين من أعمار مختلفة محاضرات عن هيغل. من بين الحضور يمكن أن نذكر رايمون أرون، وميشال ليريس، وموريس مارلو بونتي، وجان هيبوليت، وروجيه كايوا، وأندريه بروتون، وجاك لاكان، وآخرين سيصبحون من المشاهير في ما بعد. وجميع هؤلاء كانوا يخرجون من تلك المحاضرات مفتونين بسعة معرفة صاحبها، وبقدرته على تبليغ أفكاره بأسلوب غاية في الرشاقة، وبلغة خالية من الغموض المصطنع.
“يرى كوجيف أن وجود الإنسان “يتحقّق بالرغبة، ومن خلالها”. كما يرى أن وجود الإنسان “يفترض الرغبة ويتضمنها””
وبعض من هؤلاء اعتبره “فكرًا ساميًا”. وفي محاضراته عن هيغل، ركز كوجيف على “جدليّة العلاقة بين السيد والعبد”، وعلى نهاية التاريخ عادًا أن التاريخ انتهى في الولايات المتحدة الأميركية، بعد أن تمّ تحرير العبيد، وأصبحت الملكيّة الخاصة شأن جميع الطبقات. فلا طبقة تعلو على طبقة أخرى. وبهذه النظرية، تأثر المفكر الأميركي فوكاياما في كتابه “نهاية التاريخ”، الذي صدر بعد انهيار جدار برلين، وانتفاء الأنظمة الشيوعيّة. ومقتديًا بهيغل، شدّد كوجيف على أن سير التاريخ الهائل الاتساع يبرز بشكل جليّ الطاقة الفعليّة للعقل البشري، وقدرة الإنسان على تخطي العواقب والعراقيل والمحن. واعتمادًا على هذا، يمكن أن يكون التاريخ سلسلة من الفواجع والنكبات والمحن، لكنه يكون في الآن نفسه سيرورة تقدم وتطور.
وفي محاضراته عن هيغل، جعل كوجيف من “الرغبة” موضوعًا فلسفيًّا، مؤثرًا بذلك في كلّ من جورج باطاي، ورايمون كينو. يرى كوجيف أن وجود الإنسان “يتحقّق بالرغبة، ومن خلالها”. كما يرى أن وجود الإنسان “يفترض الرغبة ويتضمنها”. وكانت محاضرته عن هيغل، وماركس، والمسيحيّة، من أهمّ المحاضرات التي ألقاها في تلك الفترة. وبعد الحرب العالميّة الثّانية، وبحكم وظيفته السّامية، أخذ ألكسندر كوجيف يتنقّل كثيرًا عبر العالم، وينزل في أفخم الفنادق، ويلتقي بكبار الشّخصيّات السياسيّة والعلميّة والأدبيّة.
وعندما كانت المظاهرات الطلاّبيّة تهزّ باريس، والعواصم الغربيّة، توفّي “فيلسوف الأحد” فجأة، وذلك يوم 4 حزيران/ يونيو 1968. حدث ذلك خلال اجتماع أعضاء السّوق الأوروبيّة المشتركة في بروكسل. وقد ترك كوجيف عددًا من الوثائق بالغة الأهمّيّة في مجال الفلسفة، وآلافًا من الصّفحات التي سجّل فيها أفكاره وآراءه في عديد القضايا. ومن كتبه المنشورة يمكن أن نذكر “مقدّمة في قراءة هيغل”، و”الإمبراطور جوليان وفنّه في الكتابة”، و”الفلسفة والدولة”، و”نهاية التّاريخ”. ويعد كتاب الإيطالي ماركو فيلوني “فيلسوف الأحد: حياة ألكسندر كوجيف وفكره” من أهمّ الكتب التي تمكّن القراء من التعرّف على أفكاره وعلى مختلف جوانب حياته الشّخصيّة.
وفي حوار أجرته معه مجلة “الأسبوع الأدبي” الفرنسية (عدد 500، الأسبوع الأول من كانون الثاني/ يناير 1968) قبل وفاته بوقت قصير، قال كوجيف مُجيبًا عن سبب مغادرته روسيا بينما كانت نيران الثورة البلشفية لا تزال مشتعلة: “لماذا غادرت؟ كنت شيوعيًا. وإذن، لم يكن هنالك سبب لمغادرة روسيا. غير أني كنت أعلم أن إقامة الشيوعية تعني ثلاثين سنة مرعبة. يحدث أن أفكر في أشياء كهذه. ويومًا ما قلت هذا لأمي: “وماذا لو بقيت في روسيا…”. وكان جوابها: “لو بقيت في روسيا لكنت أعدمت مرتين”…”.
وعن سنوات ألمانيا في جامعة هايدلبرغ، قال كوجيف: “منذ البداية اخترت عدم حضور دروس هوسرل، بل تابعت دروس أستاذ آخر كان في غاية الغباء، ثم بدأت أحضر دروس ياسبيرس. وكنت قد أضعت وقتًا في تعلم لغات كثيرة، منها لغة التبت، واللغة الصينية. وكانت البوذية تهمني بسبب راديكاليتها. وهي الديانة الإلحادية الوحيدة، لكن وأنا أحفر عميقًا، انتبهت إلى أني كنت على خطأ. ثم أدركت أنه حدث شيء ما في بلاد اليونان قبل أربعة وعشرين قرنًا، وأنه يوجد هناك المصدر والمفتاح لكل شيء. هناك نُطق ببداية الجملة”.
وعن هيغل قال كوجيف: “هيغل، حاولت أن أقرأه. وقد قرأت “فينومينولوجيا الروح” أربع مرات. وكنت أجهد نفسي في القراءة، رغم أني لم أفهم ولو كلمة واحدة. ثم انتقلت إلى باريس. ولم أكن أفعل شيئًا آخر سوى تثقيف نفسي. ولما فقدتّ عملي في محل يبيع الجبن، أفلست. وذات يوم انقطع كويري عن إلقاء دروسه حول هيغل، واقترح عليّ أن أعوّضَه. وفي الحين استجبت لاقتراحه. حدث ذلك عام 1933. وكان عليّ أن أعيد قراءة “فينومينولوجيا الروح”.
“كوجيف: في الحقيقة الفلاسفة لا يهمونني، وأنا لا أبحث إلاّ عن حكماء، حكماء. المهم أن تعثروا لي على واحد منهم. كل شيء مرتبط بنهاية التاريخ. وهذا أمر مسلّ”
وعندما وصلت إلى الفصل الرابع فهمت أن الأمر يتعلق بنابليون. وهكذا شرعت في إلقاء دروسي. ولم أكن أعدّ أيّ شيء. كنت فقط أقرأ وأعلق. لكن كل ما كنت أقوله عن هيغل كان يبدو لي مضيئًا. وأعترف أنني شعرت بمتعة ثقافية استثنائية. وكان أمرًا خارقًا أن أتحدث عن هيغل أمام بروتون، وباطاي، ولاكان، وكينو… وكان هناك رجل بوسام يأتي كل يوم برفقة زوجته، ولم يكن أحد يعرفه. وعلى مدى ثلاث سنوات لم يتغيّب عن أيّ درس من دروسي. وفي آخر يوم، أعلمني أنه سيغادر باريس، وقدم لي بطاقته. عندئذ عرفت أني كنت ألقي دروسي على أميرال الأسطول”.
وتحدث كوجيف عن نهاية التاريخ قائلًا: “فلاسفة؟ هايدغر؟ لكن أنتم تعلمون أن نهايته كانت سيئة كفيلسوف. لكن باستثناء هايدغر؟ وفي الحقيقة الفلاسفة لا يهمونني، وأنا لا أبحث إلاّ عن حكماء، حكماء. المهم أن تعثروا لي على واحد منهم. كل شيء مرتبط بنهاية التاريخ. وهذا أمر مسلّ. كان هيغل قد قال هذا. وأنا كنت قد وضّحت أن هيغل قال ذلك غير أن أحدًا لم يقبل بأن التاريخ بات مغلقًا. وعليّ أن أعترف بأنني أنا نفسي فكرت بأن هذا يمكن أن يكون من الترهات، ومن الأباطيل، لكن عندما تمعنت في الأمر جيدًا، وجدته عبقريًّا. المسألة بكلّ بساطة هي أن هيغل أخطأ في التقدير بمقدار مئة وخمسين عامًا. نهاية التاريخ لم تحدث مع نابليون، بل مع ستالين. وأنا الذي كُلّفت بالإعلان عن ذلك مع اختلاف وحيد وهو أن الحظّ لم يسعفني لكي أشاهد ستالين يمرّ تحت نافذتي ممتطيًا حصانًا… لكن… بعد ذلك اندلعت الحرب، وفهمتُ. لا، هيغل لم يخطئ. لقد قدم التاريخ الحقيقي لنهاية التاريخ: 1806. ومنذئذ، ماذا حدث؟ لا شيء مطلقًا. الثورة الصينيّة ليست غير المدخل لرمز نابليون في الصين. نظريّة تسارع التاريخ الشهيرة، والتي يكثرون من الحديث عنها، هل لاحظتم أنه لما تتسارع حركة التاريخ أكثر فأكثر، فإن تقدمها يكون أكثر بطئًا؟ علينا أن نوضّح ماذا يعني كلّ هذا. ما هو التاريخ؟ جملة تعكس التاريخ غير أن أحدًا لم ينطق بها من قبل. بهذا المعنى نحن نتحدث عن نهاية التاريخ. تحدث دائمًا أحداث، لكن منذ هيغل ونابليون لم يقل أحد شيئًا، بل لم يقل أحد شيئًا جديدًا. ثمة شيء ولد في بلاد اليونان، والكلمة الأخيرة قيلت. ثلاثة رجال أدركوا هذا في اللحظة نفسها: هيغل، والماركيز دو ساد، وبرومل، نعم برومل، الذي عرف أنه بعد نابليون لن يكون في استطاعة أحد أن يكون جنديًّا. أنظروا من حولكم، كلّ شيء، بما في ذلك اضطرابات العالم، يشير إلى أن التاريخ بات مغلقًا”.
وعن الفلسفة، يقول ألكسندر كوجيف، في الحوار ذاته: “إذا ما نحن أردنا أن نلخّص بشكل خطوط عريضة، يمكننا أن نقول إنني أبدأ بتحديد مفهوم الفلسفة. والفلسفة لا تملك مجالًا خاصًّا بها وحدها. إنها خطاب، مهما كان نوعه، غير أنه يختلف عن كلّ الخطابات الأخرى، بمعنى أنه لا يتحدث فقط حول ما يرغب في الحديث عنه، ولكن أيضًا لأنه هو الذي يُتحدّث عنه. وكلّ خطاب لا يتحدث عن نفسه يتموْضع خارج الفلسفة. هذا الخطاب الفلسفي الذي نشأ في اليونان على يد رجل يدعى طاليس، عرف تجسّدات متضادّة: بارمينيدس الذي يفضي خطابه إلى الصمت، وإلى هيراقليطس الذي يدعو إلى خطاب من دون انقطاع، إلى خطاب لامتناه فيه يمكن لكلّ جملة أن تكون متبوعة دائمًا بجملة أخرى. ذلك هو الخطاب الذي يعتمده السفسطائيّون والبلاغيّون. لذا أنا أرى أن السفسطائيين المعاصرين هم أبناء هيرقليطس، وهم علماء الاجتماع والمؤرخون الذين يعتمدون خطبًا لانهائيّة. إنه نهر هيراقليطس (…) وصحيح أن الخطاب الفلسفي بات مغلقًا مثل التاريخ. وهذه الفكرة تزعج وتغيظ. وربما لهذا السبب أصبح الحكماء الذين خلفوا الفلاسفة، وهيغل أولهم، نادرين، إذا لم نتجرأ على القول بأنهم غير موجودين أصلًا. وصحيح أنه ليس في إمكان هذا أو ذاك أن ينتسب إلى الحكمة إذا لم يعتقد في آلهة ما، إلاّ أن أصحاب العقول السليمة نادرون جدًّا”.
شارك هذا المقال