–
قد يكون أهم ما في خورخي ماريو ييرغوغليو، أو بابا الكاثوليك فرنسيس، الراحل عن عالمنا أول من أمس الاثنين عن 88 عاماً، أنه كان رجلاً يغيّر موقفه عندما يقتنع بصوابٍ اليوم كان يراه خطأ في الأمس. والتغيير بهذا المعنى منزّه عن أي مصلحة شخصية، وهو تطوّر فكري قيمته عظيمة، ومن بين ما يميّز الإنسان عن باقي الكائنات. ولمّا كان مستحيلاً القول في 500 كلمة ما يمكن أن يُكتب عن شخصية إصلاحية تقدّمية مثله ترأّست أقدم مؤسسة في التاريخ (عمر الكنيسة الكاثوليكية بصفة مؤسسة 1995 عاماً)، وأكثرها محافظةً إلى حين انتخاب فرنسيس عام 2013، وجب حصر هذه المداخلة بمسألة نظرته إلى كنيسته التي يتبع لها (نظرياً) 1.3 مليار كاثوليكي في العالم.
قبل أن يصبح فرنسيساً، وعندما كان رئيساً لأساقفة بيونس أيرس، كان الكاردينال ييرغوغليو يخشى على هذه الكنيسة من الانقراض بسبب تشدّدها وصراعات السلطة داخلها وامتيازات رجالها وإسرافهم في مُتع الدنيا وذكوريتهم وبُعدهم عن “رعيّتهم” وفساد مئات رجال الدين من صفوفها والجرائم الجنسية لكثر منهم بحق الأطفال وارتباطهم بالمافيا وبجرائم غسل أموال، ومعاداتهم فئات كثيرة من البشر، كأبناء الديانات غير المسيحية والطوائف المسيحية غير الكاثوليكية، أو السكان الأصليين الذين تعرّضوا لمذابح على يد رجالات الكنيسة في طريق تحويلهم بالدم والنار إلى المسيحية، ثم المثليين والنساء إن طالبنَ بحق الإجهاض وبتشريع حبوب منع الحمل أو بدور أكبر في الكنيسة. والمفارقة أن مَن أقنع خورخي بأن يصبح فرنسيس هو البابا الألماني بنديكتوس السادس عشر، والذي كان رمزاً لكل ما كان فرنسيس يبغضه في الكنيسة. حصل ما حصل وقد وثّقه الفيلم الرائع “الباباوان” (2019، متوفر على نتفليكس)، وتسلم فرنسيس الباباوية رغم أنه لم يكن يرغب بذلك، لكن سلفه بنديكتوس أقنعه بأنه وحده القادر على إحداث ثورة داخل الكنيسة وتطويرها وإبرام مصالحةٍ بينها وبين ناسها لكي تنجو من مصير أسود ليس الزوال ببعيد عنه. وربما يكون الأهم في كل هذه المعلومات المعروفة، أن فرنسيس، قبل ثلاث سنوات فقط من تسلمه منصبه البابوي، كان من رافضي الإجهاض والقتل الرحيم وزواج المثليين، ما دفع الحكومة الأرجنتينية إلى وصف مواقفه عام 2010 بأنها “تذكّر بالعصور الوسطى، ومحاكم التفتيش”. ثم انتقل فرنسيس نفسه (لم يزر بلده طوال ولايته 12 عاماً) من اعتبار المثلية “عملاً شيطانياً”، إلى القول: “إذا كان الشخص مثلياً ويبحث عن الله، فمن أكون لكي أحاسبه؟”. وبحجم الثورة التي مثلها فرنسيس، الرئيس الرقم 266 للكنيسة، انفجرت ثورة مضادّة ضده من صقور الكنيسة رفضاً لقراراته ومواقفه المتسامحة مع المثليين والمتساكنين من دون زواج وتخفيف القوانين التي تحرم المطلقين والمتزوجين من بعد طلاق من “سرّ المناولة” وتطوير الكنيسة ومواكبتها العصر وسماحه بأن تصبح المرأة كاهناً أو شماساً، وإقراره عقوبات غليظة على الكهنة الذين يعتدون على الأطفال، ومنع التستر على جرائمهم، وتكراره طلب الصفح عن آلاف الضحايا نيابة عن كهنة مجرمين.
كان فرنسيس ثروة لا لليساريين والعلمانيين والملحدين وغير المسيحيين والتقدّميين ممن يلتقون معه في كثير من المواقف، بل للمتمسّكين بالكنيسة الكاثوليكية، لأنه أطال بعمرها وأنزلها إلى ملعب الهموم العالمية الفعلية عندما جعل التغير المناخي بنداً رئيساً على أجندته، كذلك وخصوصاً المهاجرين واللاجئين والفقراء وضحايا الحروب. يكفي فرنسيس فخراً أنه كان من أوائل مكتشفي شرّ دونالد ترامب منذ انتخابه للمرة الأولى عام 2016، ذلك أن “شخصاً يفكّر حصراً في بناء جدران (على الحدود مع المكسيك آنذاك) بدل الجسور، ليس مسيحياً”. فرنسيس أكثر بابا أولى أهمية للحوار مع المسلمين، ودان “الإرهاب المسيحي” عندما يستهدف ويحرض على المسلمين في المهجر. أمام بورتريه من هذا النوع، لم يكن غريباً أن ينال الرجل ما ناله من شتائم ذلك الرئيس الأرجنتيني الفاشي خافيير ميلي، الذي قال عن فرنسيس يوماً إنه “ممثل الشيطان على الأرض”.
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News
دلالات
الكنيسة الكاثوليكية