بعد مقال الدكتور طارق متري المنشور في العدد 142 من مجلّة الدراسات الفلسطينية، في ربيع 2025، ينشر موقع “أساس ميديا” مقتطفات من بعض ما جاء في محاضرة المدير العامّ للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الدكتور عزمي بشارة التي أُلقيت في المنتدى السنويّ لفلسطين 2025 في الدوحة، والمنشورة في المجلّة. وهنا نصّ هذه المقتطفات:
(….) كان الشعب الفلسطيني موحّداً خلال الحرب، وصمد الشرخ بين الفصائل الفلسطينية بلا حرج أو وازع من ضمير حتّى في ظلّ حرب إبادة تُشنّ على الشعب الفلسطيني. وما دامت المعاناة الفلسطينية خلال هذه الحرب عاجزة عن الإقناع بالوحدة، فهذا يعني أنّ الأمر ميؤوس منه تماماً. فهذه القيادات الفلسطينية ليست قادرة على تحقيق الوحدة الفلسطينية، وذلك بسبب تضارب المصالح المنفصلة عن المصلحة الوطنية، ولا يوجد سقف يظلّل التعدّدية السياسية الفلسطينية، ولا قاعدة مشتركة تقف عليها. لقد جرت تصفية ممنهجة لمنظّمة التحرير الفلسطينية، وهي مستمرّة منذ أكثر من عقدين، وثمّة معارضة رسمية شرسة لإحيائها.
(…) المهمّة الآن هي العمل على استدامة وقف إطلاق النار، فهذه مشيئة الشعب الفلسطيني كلّه، والانتقال إلى الإعمار، لأنّ هذا هو الطريق الوحيد لتعزير الصمود والحيلولة دون نزوح واسع من القطاع إذا فُتح المجال لذلك، وهو ما تريده الإدارة الأميركية الجديدة. والمهمّة الثانية هي منع إسرائيل من التخلّص من وصمة الإبادة والحؤول دون قبولها إقليمياً بصفتها دولة إقليمية مقرِّرة في رسم خرائط المنطقة.
لا نتعب من التذكير بنتائج ترتّبت على فعل المقاومة الفلسطينية، وحرب الإبادة الإسرائيلية، وهي إعادة جدولة القضية الفلسطينية على الأجندة الدولية والإقليمية بعد تهميشها طويلاً، والإلحاح على ضرورة الاستفادة من هذه العودة. فالحرب في حالة فلسطين ليست مجدية، إذ لن ينتهي الصراع إلّا بإبادة كاملة للشعب الفلسطيني، أو بحلٍّ عادل. وإسرائيل لا يمكنها شنّ حرب أكثر همجيّة من الحرب الأخيرة التي بانت حدودها، فلا بدّ إذاً من طرح قضيّة فلسطين مجدّداً.
كان الشعب الفلسطيني موحّداً خلال الحرب، وصمد الشرخ بين الفصائل الفلسطينية بلا حرج أو وازع من ضمير حتّى في ظلّ حرب إبادة تُشنّ على الشعب الفلسطيني
(…) إنّ توصيفنا لمواجهة إسرائيل هذا المأزق هو عبارة عن استنتاج منطقي من التجربة التاريخية، وليس حتميّة تاريخية. فعهدُنا بالنظام الرسمي العربي هو التغلّب على أيّ منطق، ونأمل ألّا تجد الولايات المتّحدة من العرب والفلسطينيين مَن يعينون إسرائيل على إيجاد مخارج من مأزقها من دون حلّ لقضيّة فلسطين.
لا أريد أن أصف مأزق إسرائيل هذا بالإنجاز، فهو نتيجة مترتّبة على جدليّة الصراع الدائم بين حقّ القوّة وقوّة الحقّ. وهي لا تخرج بنفسها من نطاق الممكن إلى الواقع من دون إرادات سياسية واعية تعيد إدراج قضيّة فلسطين على جدول الأعمال الدولي، ولا تمنح إسرائيل، والولايات المتّحدة من خلفها، مهرباً من مواجهة المأزق التاريخي للاستعمار.
ثمّة حاجة ملحّة إلى موقف فلسطيني موحّد يُصرّ على مواجهة العالم بالخيارات: “إمّا التوجّه إلى حلّ عادل وإمّا استمرار المأزق”. وهذا الموقف الموحّد غير قائم حاليّاً، الأمر الذي يفسح المجال أمام إسرائيل للمناورة دولياً وإقليمياً وفلسطينياً لاستبدال حرجها بحرج فلسطيني: فإمّا إدارة محلّية بمشاركة عربية موثوق بها إسرائيلياً تحت إشراف أمنيّ إسرائيلي، وإمّا أن تتواصل الكارثة في غزّة مع منع إعادة الإعمار للحثّ على الهجرة، كأنّ الاختيار بين السيّىء والأسوأ قَدَرٌ مقدور للفلسطينيين. وكلّ مَن يستعجل إصدار البيانات برفض لجنة الإسناد الفلسطينية، ثمّ يُعرب عن الاستعداد لإدارة قطاع غزّة فور وقف إطلاق النار من خارج أيّ توافق فلسطيني، يساهم في تحويل المأزق الإسرائيلي إلى مأزق فلسطيني.
يمكن أن تعود السلطة الفلسطينية إلى إدارة غزة رغماً عن إسرائيل، وبرضا المقاومة التي لن تدير غزّة، والتي أعربت عن قبولها بإدارة متوافق عليها تتبع السلطة الفلسطينية، وعدم رغبتها في الانضمام إلى مجلس وزراء. ويكفي هذا لتحقيق نوع من التوافق بدلاً من أن تكون العودة رغماً عن المقاومة كأنّها استثمار للحرب الإسرائيلية.
ثمّة حاجة ملحّة إلى موقف فلسطيني موحّد يُصرّ على مواجهة العالم بالخيارات: “إمّا التوجّه إلى حلّ عادل وإمّا استمرار المأزق”
على المستوى الدّوليّ
أوّل ما يلفت الانتباه على المستوى الدولي هو تميّز الموقف الأميركي وبروز عناصره الأيديولوجيّة التي تتجاوز انعكاس المصالح الاقتصادية أو الجيوستراتيجيّة. لقد بالغت الولايات المتّحدة في تبنّي الرواية الإسرائيلية لما جرى في 7 أكتوبر (تشرين الأوّل)، وكانت مستعدّة لتبنّي استخدام إسرائيل المحرقة النازية أداتيّاً، ولتبنّي تعريفات باطلة لمعاداة السامية وزجّها في الحملة السياسية ضدّ كلّ مَن عارض الحرب العدوانية والدعم المطلق الذي حظيت به إسرائيل.
(…) لقد تعرّت السياسة من الأخلاق تماماً من دون أن يرفّ جفن للمسؤولين والناطقين. وانطبق هذا بدرجات متفاوتة على عدّة دول غربية أصبحت مستعدّة لقمع حرّية التعبير في ديمقراطيّاتها لإرضاء دولة تمارس الجينوسايد، وتقيم نظام أبارتهايد في القرن الحادي والعشرين.
(…) غير أنّ الولايات المتّحدة والدول الغربية التي تضامنت مع إسرائيل لن تراجع سياساتها بدافع من تأنيب الضمير، بل ثمّة خطر حقيقي في أن يحدث العكس، وهذا ما ينصح به اللوبي الإسرائيلي القويّ في واشنطن. وحجّته هي أنّ النهج الإسرائيلي أثبت نفسه، وأنّ إسرائيل أحسنت صنعاً في صمّ أذنيها عن النصائح الأميركية خلف الأبواب المغلقة بشأن طريقة خوضها الحرب في قطاع غزّة. أمّا في لبنان فقد اقتنعت الولايات المتّحدة بالمنطق الإسرائيلي في تحويل قواعد الاشتباك إلى حرب شاملة، وبنهجها في الإصرار على إخراج لبنان من دائرة النفوذ الإيراني بعد غزّة. والمقصود (بحسب اللوبي الإسرائيلي وحلفائه) هو أنّ عدم الانصياع الإسرائيلي للتردّد الأميركي الناجم عن أخذ مصالح أُخرى في المنطقة غير مصلحة إسرائيل في الاعتبار كان عين الصواب، وأنّ ثمّة نظماً عربيّة أميَل إلى هذا الحزم الاستعماري، أكان أميركيّاً في العراق في سنة 2003، أم إسرائيليّاً في فلسطين ولبنان. فاللوبي الإسرائيلي وحلفاؤه اليمينيّون في واشنطن يدّعون أنّهم أعرَف بالميول الحقيقية للدول العربية، وأنّهم أقرب إليها من الليبراليين.
ستحكم الولايات المتّحدة في الأعوام الأربعة المقبلة إدارة أميركية يمينيّة متطرّفة تحيط برئيس معتدّ بنفسه بشدّة
في المقابل، كسبت قضيّة فلسطين أصدقاء جدداً في الغرب، وتحديداً على المستوى الشعبي، إذ أصبحت بعض الحكومات أكثر جذريّة في نقد إسرائيل. غير أنّ هذا المكسب على أهمّيّته لا يتحوّل إلى عامل سياسي مؤثّر من دون استراتيجية فلسطينية للاستثمار فيه، وخطاب سياسي فلسطيني وطنيّ ديمقراطي قادر على ذلك.
ستحكم الولايات المتّحدة في الأعوام الأربعة المقبلة إدارة أميركية يمينيّة متطرّفة تحيط برئيس معتدّ بنفسه بشدّة، وتساير نزواته كي تستغلّها. والموقف الثيولوجي الإنجيلي الأصوليّ اللاعقلاني من إسرائيل هو في صلب هذه العمليّة، وهو أكثر تطرّفاً من اليمين الإسرائيلي، ومتصالح مع نفوذ أوليغارشيا رجال الأعمال الذين لم يعد نموذج ترامب يثير سخريتهم، بل أصبح يغريهم، ومن هؤلاء مَن يعاني اختلال شخصيّة نرجسيّة (narcissistic personality disorder).
إنّ الاعتقاد بأنّ ما يتحكّم بالرئيس الأميركي الحالي هو نزوات فقط، وأنّ سلوكه غير متوقّع، والتأثير فيه سهل، هو عبارة عن أمانٍ وأوهام تعوّض عن العجز. فهذا الرئيس سيبتزّ العاجزين على صعد متعدّدة ليس هنا سياق تفصيلها. صحيح أنّ لديه نزواته، وأنّه يشغل الإعلام بكلام مرسل عارٍ عن الصحّة، وأنّه مهووس بالاعتراف بشخصه وزعامته وقدراته وغير ذلك، إلّا أنّ هذا ضمن إطار محدّد هو مصالح الولايات المتّحدة مثلما يراها اليمين المتطرّف الذي أوصله إلى الحكم، وبصيغة شعبوية تخاطب قواعده. إنّها مرحلة خطرة في الداخل والخارج.
(…) غير أنّ الرئيس الأميركي ليس قدراً ولا ظاهرة طبيعية. ولا يجوز التحدّث عنه كأنّه كلّيّ القدرة، إذ يكفي أن نتذكّر أنّه يتطرّف لفظياً ويختبر ردّات الأفعال ليقيس أفعاله، ويحسب ويتراجع أمام الصمود، ويتقدّم ويطلب أكثر عند تراجع الطرف المقابل، وأن نتذكّر أن لا مكان للأخلاق والاستعطاف الأخلاقي في عالمه، فهو يعتبر أنّ السلطة والثروة هما القيمة العليا والنجاح، وأنّ الضعف والعجز هما الفشل، إذ لا مكان للضعف عنده. وستظهر معارضات في الولايات المتّحدة وفي كل مكان في هذا العالم، غير أنّ المجال هنا لا يتّسع لتفصيل عناصر القوّة في منطقتنا، والتذكير بأنّ العجز عن استغلالها في مواجهة الابتزاز ناجم عن طبيعة الأنظمة والصراعات فيما بينها، وأنّ تسوية هذه الصراعات تقلّل من فرص الضغط والابتزاز.
من المتوقّع أن تتباهى إسرائيل أمام الأنظمة العربية بتخليصها من محور المقاومة، وبإيصال طموح “حماس” إلى ما هو أقلّ من العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر
الموقف الإقليميّ
لقد أحرجت هذه الحرب النظام الرسمي العربي: أوّلاً، بسبب مشاعر التضامن الواسعة مع الشعب الفلسطيني على مستوى الرأي العامّ في جميع الدول العربية، وانتشار الإحباط من المواقف الرسمية العربية، والغضب على الحلفاء الدوليّين لهذه الأنظمة، ولا سيما الولايات المتّحدة التي دعمت الحرب الإسرائيلية على نحو مطلق. ثانياً، بسبب استمرار الحرب طوال هذه المدّة من دون أن تتمكّن إسرائيل من القضاء على المقاومة الفلسطينية، أو أن تحرّر الرهائن بالقوّة. صحيح أنّ الرأي العامّ العربي أيضاً عاجز وغير فاعل ومتسمّر أمام الشاشات الكبيرة والصغيرة، وتستهلكه وتستنزف مشاعره وسائل التواصل الاجتماعي وترهاتها التي تمحو الفرق بين عرض القضيّة واستعراض النرجسية الشخصية، إلّا أنّ حالة الغضب والاحتقان الشعبي غير قابلة للتجاهل، ولذلك عُقدت مؤتمرات على المستوى الرسمي أُلقيت فيها خطابات واتُّخذت قرارات جيّدة ليست للتنفيذ.
على الرغم من الحرج، استشعر النظام الرسمي العربي باعثَين دفعاه إلى “الصمود” في وجه الغضب الشعبي، وهما: أوّلاً، الحزم الإسرائيلي والإصرار على مواصلة الحرب حتّى النهاية، بما في ذلك في لبنان، وثانياً، عدم تزعزع الدعم الأميركي لإسرائيل.
لم يكن في وسع أولئك المحتارين الذين تتنازعهم الرغبة في القضاء على حركة المقاومة الفلسطينية، والتخلّص من تحالفاتها الإقليمية، وإحراجاتها الموسمية من حرب إلى أُخرى من جهة، والرغبة في تخفيف وطأة حرب الإبادة الإسرائيلية تجنّباً لاستغاثة النساء والأطفال من جهة أُخرى، إلّا الاعتماد على الولايات المتّحدة في إيجاد تسوية لهذه المعضلات، والجَسر بين مختلف الإحراجات.
ثمّة صيرورة جرت وشقّت طريقها بعناد عبر هذه الفوضى، وهي الاندفاع الإسرائيلي غير الآبه بالنصائح الودّية الأميركية، ولهاث الإدارة الأميركية خلفه. وبالنسبة إلى السياسي الذي يخلط بين البراغماتيّة والتحلّل من القيم، فإنّه ثبت في هذه الحرب أنّ إسرائيل فاعل سياسي إقليمي. وهناك احتمال في أن تقود هذه الصيرورة إلى التحوّل “البراغماتي” من الاعتماد على الولايات المتّحدة إلى الاعتماد على إسرائيل في الصراعات الإقليمية، جزئيّاً على الأقلّ.
تعمّقت هذه الصيرورة بإصرار إسرائيل على تحويل حرب الاستنزاف أو الإسناد التي شنّها “الحزب” إلى حرب شاملة على المقاومة اللبنانية كانت تُعدُّ لها منذ سنة 2006. لقد أعاق خطاب “الانتصار الإلهيّ” استفادةَ “الحزب” وغيره من دروس حرب تلك السنة، ومن ردّات الفعل الإسرائيلية واستخلاص الدروس والعبر، والاستعداد لما هو آتٍ. لقد قادت سلسلة التفاعلات التي أطلقتها الحرب الأخيرة منذ 7 أكتوبر إلى انهيار محور المقاومة عمليّاً، وسقوط نظام الفساد والاستبداد في سورية، الذي كان على شفا الانهيار.
من المتوقّع أن تتباهى إسرائيل أمام الأنظمة العربية بتخليصها من محور المقاومة، وبإيصال طموح “حماس” إلى ما هو أقلّ من العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر، وبأنّها جعلت إيران منشغلة بالدفاع عن نفسها في مواجهة تحريض إسرائيلي علنيّ للولايات المتّحدة على توجيه ضربة عسكرية إلى إيران فتُكمل ما بدأته إسرائيل التي نهجت لها السبيل. هكذا تعرض إسرائيل الأمور.
إقرأ أيضاً: طارق متري: غزّة تروي قصّة إبادتها بوضوح
ليس ضروريّاً أن تستجيب الولايات المتّحدة للوسواس الإسرائيلي في حالة إيران، لكن حتّى لو رجَّحنا تفضيل إدارة ترامب التوصّل إلى صفقة في ظلّ ظروف الضعف الإيراني، فلن تكون صفقة تعيد إلى إيران دورها في قيادة محور إقليميّ.
وفي انتظار تفاعل ردّة الفعل العربية الشعبية على شرعنة دور إسرائيل الإقليمي، فإنّ العامل الأوّل في التصدّي لهذه الصيرورة هو العامل الفلسطيني انطلاقاً من إعادة النظر في استراتيجية المقاومة، من دون التخلّي عن مقاومة الاحتلال ونظام الفصل العنصري، وابتداع أدوات نضالية جديدة وخطاب سياسي جديد ديمقراطي يواكب التطوّر داخل المجتمع الفلسطيني وأجياله الجديدة الصاعدة، وينسجم مع الأوساط الدولية المتعاطفة مع قضيّة فلسطين، ويتمسّك بالعدالة المتمثّلة في التحرّر من الاحتلال. فمن دون ذلك لا أرى حاليّاً نفقاً ولا حتّى ضوءاً في نهايته، وعلينا، عرباً وفلسطينيّين، أن نضيء طريقنا نحو المخرج بأنفسنا.