“عندما تحلّ المعرفة العاقلة، تضيق مساحة الأسطورة، وعندما يغيب العقل، تأتي الأساطير لتغطية الفراغات في المعرفة”.
لا أحد يتشكّك في إيمان الشيخ نعيم قاسم بأسطورة ولاية الفقيه، ولا ربّما بقناعته بأنّ سلاح فيلقه العسكري التابع للحرس الثوري الإيراني لن يزول إلّا بعودة المهديّ، لأنّ هذا السلاح سيكون في طليعة المعركة الكبرى الموعودة مع الشرّ والأعور الدجّال وقوم يأجوج ومأجوج في “حر مجدو”. فمكان المعركة في فلسطين أقرب إلى لبنان من إيران.
لكنّ المصيبة على البشر هي في تحويل الأساطير إلى مخطّطات سياسية وعسكرية، أو أن يكون الاعتماد على تفسيرها واجتهاداتها، التي قد تصحّ أو تخطئ، في بناء الاستراتيجيات الاقتصادية والسياسية، والأخطر العسكرية. فمثلاً، رئيس إيران السابق، محمود أحمدي نجاد، الذي أنشد له منشدو ولاية الفقيه اللبناني بتعبير “نجاد يا رؤى الأمم”، يوم زار لبنان ليعاين عن كثب الطريق المهدويّ إلى النصر، قيل عنه بأنّه شاهد المهديّ، وصار يترك له مقعداً في جلسات مجلس الوزراء إن أتى ليرأس… حتّى اتُّهم بالهذيان عندما افترض أنّه لم يعد هناك حاجة إلى وليّ فقيه يحكم بالوكالة ما دام الأصيل قد حضر!
لا بأس، فلكلٍّ أساطيره التي يستند إليها لاستكمال ما هو مجهول وغير مفهوم. فالأساطير ضرورة للبشر في ظلّ غياب المعرفة، لكنّها تصبح كارثية إن أتت لتتنافس مع المعرفة، أي حين تبقى مرجعيّة أساسية لبعض البشر على الرغم من إثبات ما يعاكسها. لكن عندما تكون الأسطورة أساس وجود منظومة ما، وعندما يعني بطلان تلك الأسطورة موتاً لهذه المنظومة، يصبح التمسّك بالأسطورة وسيلة لمواجهة العدميّة.
“عندما تحلّ المعرفة العاقلة، تضيق مساحة الأسطورة، وعندما يغيب العقل، تأتي الأساطير لتغطية الفراغات في المعرفة”
مكاسب مذهبيّة؟
خرج الشيخ نعيم قاسم، الأستاذ الذي اعتبر أنّه لا يحقّ للمرأة المطلّقة أن تكون معلّمة في مدرسة، ليردّد المزيد من الأحاديث المملّة عن تاريخ حزب ولاية الفقيه، مستنداً إلى فرضيّات وأساطير عن إنجازات حزبه في مواجهة إسرائيل والقوى الكبرى. وفي كلّ مرّة يقول، كما قال من كانوا قبله، “لم تتمكّن إسرائيل من تحقيق أهدافها”، مفترضين أنّهم يعرفون أهداف العدوّ، أو أنّهم يسمعون ما يقوله قادة العدوّ ويثقون بصدق أقوالهم عن الأهداف من الاعتداء. يقول قاسم إنّ هذه المقاومة تمكّنت من إجبار إسرائيل على توقيع الاتّفاق المرتبط بالقرار 1701 بصمودها، ثمّ يقع في التناقض ليقول إنّ إسرائيل، التي أجبرها حزبه على توقيع الاتّفاق، ما زالت مستمرّة في اعتدائها ولم تلتزم الاتّفاق! هذا يعني وفق المنطق أنّ إسرائيل لم تجبَر على توقيع الاتّفاق بل “الحزب” هو من أُجبر بحكم نتائج الحرب، لأنّ “الحزب”، كما يقول قاسم، التزم الاتّفاق على الرغم من استمرار إسرائيل في عدوانها.
لكنّ ما نفع المنطق في مواجهة الأساطير، حتّى لو لم يقُل قاسم كيف ستكون المواجهة في ظلّ انهيار إمبراطوريّة ولاية الفقيه في كلّ مستعمراتها. فإيران لاهثة لعقد اتّفاق مع الشيطان الأكبر على حساب كلّ من قاتل لأجلها، وقد يكون كلام قاسم لرفع السقف ليس إلّا. حتّى الآن لم يعلن أحد شروط حزب ولاية الفقيه الحقيقية، أو بالأحرى الشروط الأرضيّة، المرتبطة بقدرة البشر على تحقيقها أو التجاوب معها. فهل هي حصص في الحكم تتناسب مع حجم “التضحيات” وتترجم بمكاسب مذهبيّة؟ وهل هي تثبيت واقع في إدارة المرافئ والمطار والجمارك والقرض الحسن يبقي على “أرزاق” الحزب، أو في القضاء بوقف التحقيقات في مسألة المرفأ والاغتيالات، وكان المؤشّر الأخطر هو إعادة فتح التحقيق في اغتيال لقمان سليم؟ كلّها ملفّات ربّما تنتظر بدء الحوار أو النقاش أو المفاوضات الموعودة مع الرئيس. أمّا السقوف المافوق أرضيّة المتعلّقة بعودة المهدي أو غيرها من الأمور الماورائية، فلا أظنّ أنّ الحوار مع الرئيس فيها سيؤدّي إلى نتيجة ما!
الواقع المثبت بالتجربة هو أنّ هذه المقاومة، في عزّ جبروتها، لم تحمِ لبنان ولا المقاومة ولا غزّة، لا بل بالعكس أدّى الاعتقاد بالأساطير وسوء التقدير إلى دمار وموت إضافي، في حين أنّ العدوّ مستمرّ في مساره. فيما خسر “الحزب” سطوة الأسطورة وخسر مداه الاستراتيجي في سورية، وهو على طريق خسارة مدده في العراق، والمدى الحوثي يتلقّى ضربات قاصمة، في حين أنّ إيران تفاوض.
سلاح “الحزب” فقدَ مسوّغات أساطيره بعجزه الفاضح عن تحقيق توازن رعب، وعن إسناد فلسطين، وبالتأكيد عن حماية لبنان
أساس وجود الدّولة
كلام قاسم اليوم هو هديّة إضافية لإسرائيل لاستمرار اعتدائها واستمرار تمسّكها بأراضٍ احتلّتها بالحرب، وضرب جديد لأيّ غطاء وطني كان يريد التفاهم على تسليم السلاح بدل الحديث عن نزعه. فكلام قاسم موجّه أوّلاً لرئيس الجمهورية وللحكومة التي يشارك فيها، قبل من قال إنّهم “تافهون” و”منفصلون عن الواقع”. وكلامه، إن كان صادقاً، فهو دعوة إلى صدام يؤدّي إلى انفصال حتميّ في وطن صغير اتّخذ “الحزب” منه بأهله واقتصاده وأبنيته متراساً، وبالتالي ستحقّق إسرائيل أهدافها بتحويل محيطها إلى كيانات جغرافية مذهبية وطائفية تشبه تكوين دولتها اليهودية. إنّ استمرار الحرب أيضاً هو التعويذة التي يتمنّاها العدوّ ليستمرّ في التطهير العرقي في فلسطين، التي فشل “الحزب” في إسنادها، حتّى بصواريخ الوليّ الفقيه نفسه.
إقرأ أيضاً: أزمة “الحزب” شيعيّة… وليست في مكان آخر!
إنّ سلاح “الحزب” فقدَ مسوّغات أساطيره بعجزه الفاضح عن تحقيق توازن رعب، وعن إسناد فلسطين، وبالتأكيد عن حماية لبنان. ومع ذلك، ليس هذا بيت القصيد، فوحدة مرجعيّة السلاح الشرعي هو أساس وجود الدولة، وعلى الدولة تحقيق أساس وجودها بغضّ النظر عن كلّ الأساطير التي ينسجها نعيم قاسم لتسويغ بقاء حزبه على قيد الحياة، ومن يتفّه الآخرين المطالبين بحقّ الدولة في حصريّة السلاح هو التافه الذي يحيا منفصلاً عن الواقع.
ل