ملخص
محادثة عبدالناصر مع القذافي، شملت تحذير الرئيس المصري من خطر تكرار نكبة 1948 في حال مواجهة إسرائيل في ظل تفوقها عسكرياً، بخاصة في القوات الجوية والبرية، وهو ما زاد الجدل في شأن جدوى المقاومة المسلحة حالياً، في ظل مطالبات إسرائيل بنزع سلاح حركة “حماس” ثمناً لوقف الحرب على غزة
حينما يتطرق الحديث إلى القومية العربية دائماً يُستدعى اسم الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، الذي ترسخت صورته الذهنية لدى الشعوب العربية بوصفه أيقونة مقاومة إسرائيل، لكن التسجيل الصوتي الذي خرج أخيراً لعبدالناصر فتح باب الجدل حول تلك الصورة والرمزية التي كثيراً ما أكدها الرئيس المصري خلال أعوام حكمه، وظلت مستقرة طوال 55 عاماً منذ وفاته.
حديث عبدالناصر مع الرئيس الليبي السابق معمر القذافي عن إمكانية القبول بـ”تسوية سلمية” مع إسرائيل، والتفوق العسكري الإسرائيلي على الجيوش العربية، يتماس في جوهره مع النقاش المحتدم خلال الأشهر الأخيرة حول المقاومة المسلحة، ومدى مسؤولية ما قامت به حركة “حماس” في هجمات السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عن سقوط نحو 52 ألف فلسطيني في غزة وظهور خطر التهجير.
أما الجدل المستمر في شأن إمكانية الحل السلمي وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، فقد انقلبت موازينه بعد الكشف عن حديث عبدالناصر الذي “وصف بالعقلانية”، بل وجد بعض المعلقين على مواقع التواصل الاجتماعي في كلمات الرئيس المصري الراحل “تأطيراً سياسياً لمعاهدة السلام”، التي سعى إليها خلفه أنور السادات، الذي يظل حتى الآن هدفاً لانتقادات أصحاب الفكر الناصري.
عبدالناصر يربك قناعات المصريين عن السلام مع إسرائيل
نقاشات مواقع التواصل الاجتماعي التي بدأت نخبوية بين المثقفين انتقلت إلى الرأي العام بمعناه الأوسع، فكثير من التعليقات أبدت ما يشبه “الصدمة” من رفض عبدالناصر ضغط القذافي لـ”الإسراع بقتال إسرائيل”، فيما فوجئ آخرون من تململ “زعيم العروبة” من صورة العمل الجماعي العربي وشعوره بالخذلان من الأنظمة العربية في ذلك الوقت، بينما عد البعض أن السياسيين الناصريين “كانوا أكثر ناصرية من ناصر”.
وفي مواجهة التساؤلات حول حقيقة موقف عبدالناصر تجاه إسرائيل بين الخطب النارية وحديثه الشخصي مع القذافي، حاول البعض تفسير كلمات الرئيس المصري في سياقها التاريخي، وهو موافقته على مبادرة روجرز الأميركية لوقف إطلاق النار موقتاً بين مصر وإسرائيل، في محاولة لاستكمال بناء حائط الصواريخ على طول الجبهة الغربية لقناة السويس، بهدف منع الغارات الإسرائيلية المتكررة على المدن المصرية.
العاطفة تحكم
يرى عضو مجلس النواب المصري ضياء الدين داوود، أن مواقف عبدالناصر العروبية والتحررية معروفة ودفع ثمنها في حروب ودماء الجيش المصري. مشيراً إلى أن فهم ما جاء بالتسجيل “يكون بمغزى الكلمات لا مفرداتها”.
داوود الذي يصف نفسه بـ”الناصري الحديث” الذي لا يرى في جمال عبدالناصر إلهاً أو صاحب نظرية إنما نموذج لمشروع تحرر وطني، يقول لـ”اندبندنت عربية”، “لا يمكن فصل حديث عبدالناصر عن سياقه التاريخي”. موضحاً “الناس تلقت ما جاء بالتسجيل بناء على عواطفهم ومواقفهم المسبقة، لذلك من يكره عبدالناصر رأى في التسجيل أداة لهدم ما تبقى منه”.
وحول إمكانية تشويه أو خدش صورة عبدالناصر بوصفه أيقونة المقاومة والعروبة، أوضح عضو مجلس النواب المصري “التسجيل يحقق أغراض مَن يريد التشفي في عبدالناصر باجتزاء بعض نقاط الحديث من دون وضعها في السياق الذي قيل فيه”. موضحاً، “بعض المنتمين إلى الفكر الناصري يسهمون في توضيح سياقات حديث الرئيس المصري الراحل من خلال تدوينات على مواقع التواصل، في ظل ضعف التنظيمات المنتمية لذلك الفكر حالياً”، وفق تعبيره.
تأثير محدود
محادثة عبدالناصر مع القذافي، شملت تحذير الرئيس المصري من خطر تكرار نكبة 1948 في حال مواجهة إسرائيل في ظل تفوقها عسكرياً، بخاصة في القوات الجوية والبرية، وهو ما زاد الجدل في شأن جدوى المقاومة المسلحة حالياً، في ظل مطالبات إسرائيل بنزع سلاح حركة “حماس” ثمناً لوقف الحرب على غزة.
توقيت إذاعة التسجيل الصوتي كان غريباً، بحسب المتخصص في مجال العلوم السياسية بجامعة القاهرة إكرام بدر الدين، الذي يعتقد أنه “لا يرى تفسيراً لذلك سوى محاولة البعض التأثير في الموقف من سلاح المقاومة والنظرة إلى القضية الفلسطينية”.
وفي حديثه إلى “اندبندنت عربية”، يرى بدر الدين أن ما ورد في التسجيل الصوتي قد يترك أثراً محدوداً على صورة جمال عبدالناصر كمقاوم. ويشير إلى أن استمرار المقاومة المسلحة حالياً يمثل، من وجهة نظره، ما تبقى من القضية الفلسطينية، خاصة في ظل تعذر المواجهة بين الدول العربية وإسرائيل، والتخاذل الدولي، وغياب موقف رادع تجاه تل أبيب. كما يعتقد أن بعض مناصري الفكر الناصري قد يعيدون النظر في بعض مواقفهم نتيجة ما يُنشر من تسجيلات، إلا أنهم، بحسب تقديره، لن يتخلوا عن المبادئ العامة للفكر الناصري.
كان عبدالحكيم جمال عبدالناصر قد أعلن أنه صاحب قناة “ناصر تي في” على “يوتيوب” التي أذاعت التسجيل الصوتي، وقال في تصريحات صحافية محلية عند سؤاله عن المستفيد من النشر، إن “الحقيقة المجردة” هي المستفيد الوحيد، فيما قالت ابنة الرئيس الراحل هدى عبدالناصر في تصريحات صحافية إن والدها لم يتخلَ يوماً عن دعم القضية الفلسطينية، التي كانت “في صدارة المشروع القومي العربي الذي ظل ينادي به طوال حياته”.
مقاربة خطأ
التوظيف السياسي لحديث عبدالناصر، يجد فيه المتخصص في مجال العلوم السياسية بجامعة القاهرة حسن سلامة “مبالغة شديدة، ومحاولة لتشويه رئيس عربي يحوز القبول عربياً”. وقال لـ”اندبندنت عربية”، “لا يمكن استحضار حديث جرى منذ 55 عاماً لتوصيف الوضع الحالي”.
ويعد سلامة أن في ذلك “مقاربة خطأ من الناحية العلمية نظراً إلى اختلاف الظروف والمعطيات”، مشدداً على ضرورة فهم التسجيل في “سياقه التاريخي والسياسي في ذلك الوقت”. ورافضاً إسقاط حديث عبدالناصر على فكرة المقاومة أو سلاح “حماس”.
وعن حديث المقاومة والسلاح لفت المتخصص في مجال العلوم السياسية إلى أن استمرار الاحتلال هو ما يعطي الذريعة لوجود السلاح. مشيراً إلى أن القانون الدولي يؤيد المقاومة المسلحة للمحتل. كما لم يستبعد أن تكون بعض الأطراف المعارضة لمبدأ سلاح المقاومة تستغل التسجيل الأخير لتوجيه الرأي العام لمصلحتها، من خلال تكثيف فهمه في سياق معين عبر مواقع التواصل الاجتماعي.