يبدو أنّ منظومة السلطة في إيران باتت على يقين بضرورة الحفاظ على النافذة التي فتحتها الوساطة العُمانية لانطلاق المفاوضات غير المباشرة بينها وبين الإدارة الأميركية، وأنّ الوقت يضيق أمامها لتوظيف ما تمتلكه من أوراق واقتناص الفرصة من أجل الوصول إلى معادلة جديدة تعيدها إلى المشهد السياسي والاقتصادي الدوليّ.
تراجع هامش الوقت أمام المفاوض الإيراني من أجل الوصول إلى اتّفاق على برنامجه النووي يعيد إلى الواجهة معادلة اتّفقت عليها الأوساط الإيرانية السياسية، وهي أنّ النظام باستطاعته الربح في التكتيك لكنّه يفشل في توظيف ما يحقّقه في ربح استراتيجي. ويستدلّ هؤلاء على أنّ النظام أضاع الكثير من الفرص من أجل الوصول إلى تفاهمات وتسويات مع الإدارة الأميركية في السنوات الماضية عندما تجمّعت في يده الكثير من الأوراق والأرباح التكتيكيّة، وأنّه كان قادراً على تحسين شروطه في أيّ تفاهم استراتيجي عندما كان يمسك بالقرار الإقليمي من خلال حلقات النفوذ التي عمل على إنشائها عبر الأذرع والحلفاء في الإقليم.
الخسائر التكتيكيّة التي لحقت بالمشروع الإيراني في الإقليم، والتي تحوّلت إلى تراجع استراتيجي، لم تترك له سوى الورقة النووية ليساوم عليها ويضعها على طاولة التفاوض، وإنّ الإغراءات الاقتصادية التي قدّمها للإدارة الأميركية وما فيها من فتح مجال أمام الاستثمارات الأميركية المباشرة في مختلف القطاعات الاقتصادية الإيرانية، تشكّل مؤشّراً آخر إلى حجم ما لحق بالنظام من خسائر.
الخسائر التكتيكيّة التي لحقت بالمشروع الإيراني في الإقليم، والتي تحوّلت إلى تراجع استراتيجي، لم تترك له سوى الورقة النووية ليساوم عليها
قراءة عقلانيّة وهادئة
بعيداً عن القراءة التقليدية التي تسيطر على الخطاب المحافظ في النظام الإيراني للزيارة التي قام بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب للدول الخليجية الثلاث، المملكة العربية السعودية ودولتَي الإمارات العربية المتّحدة وقطر، وحجم الصفقات التي أبرمها في هذه المحطّات الثلاث، وهي القراءة العالقة في دائرة اللعب على مخاوفها وهواجسها من الطموحات الإيرانية النووية والتوسّعية، بدأت قراءة أكثر عقلانية تأخذ حيّزاً وموقعاً في فهم أبعاد هذه الزيارة، وحجم الرسائل التي من المفترض بطهران أن تتلقّفها وتقرأها بعناية ودقّة، وهي رسائل واضحة يمكن تلخيصها في نقاط ثلاث:
1 – الحدّ من الاندفاعة العربية نحو تعزيز وتعميق العلاقات الاقتصادية بينها وبين الصين، الذي يصبّ في إطار الاستراتيجية العامّة لإدارة ترامب الساعية إلى فرض مزيد من الحصار على الصين في سياق الحرب الاقتصادية بين البلدين.
إيران
2 – الإدارة الأميركية قادرة على اتّخاذ خطوة استراتيجية لإنهاء جميع العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، في حال تجاوبت طهران مع المخاوف الأميركية والإقليمية والدولية من البرنامج النووي وطموحاتها الإقليمية، والمؤشّر إلى هذه الخطوة هو القرار الذي اتّخذه الرئيس ترامب بإلغاء العقوبات الاقتصادية عن سوريا بعد اللقاء الذي جمعه مع الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع برعاية ووساطة من وليّ العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان.
3 – التوصّل إلى تفاهم واتّفاق بين واشنطن وطهران سيمهّد الطريق أمام انفتاح خليجي عربي للاستثمار في الاقتصاد الإيراني المتعطّش، بما يعيد دمج إيران بمحيطها الإقليمي ويخفّف من الهواجس والمخاوف من طموحاتها، وإنّ على طهران الاستفادة من الأجواء الإيجابية العربية الداعمة للمفاوضات القائمة بين الطرفين والاستثمار فيها من أجل تعزيز اندماجها وتعاونها مع هذه الدول.
يبدو أنّ منظومة السلطة في إيران باتت على يقين بضرورة الحفاظ على النافذة التي فتحتها الوساطة العُمانية لانطلاق المفاوضات
فصل المسارات
إذا كان النظام الإيراني يريد أن يبعد ما بقي له من نفوذ إقليمي عن طاولة التفاوض، وأن يسوّغ رفضه أو امتناعه عن طرح المسائل الإقليمية مع المفاوض الأميركي بأنّ القضايا الإقليمية، وفي مقدَّمها المسألة الفلسطينية، ما تزال تشكّل أولويّة في سلّم اهتمامات سياساته الخارجية، وأنّ النظام لا يتردّد في بذل الجهود لحلّ أزمة قطاع غزّة، وعلى استعداد لاستخدام وتوظيف كلّ ما يملك من وسائل بما فيها المواجهة العسكرية من أجل تحقيق ذلك.
إلّا أنّه يسعى في المقابل إلى التأكيد أمام حلفائه قبل خصومه وأعدائه أنّ كلّ المساعي التي يبذلها خلال كلّ المفاوضات، التي أجراها مع الإدارة الأميركية وحتّى العواصم الأوروبية، كانت تصبّ في إطار فصل مسار التفاوض على النووي عن المسائل الإقليمية، وعدم الخلط بين هذه الملفّات، لأنّ التداخل يخدم مطالب الأعداء، ويقلّل من إمكان النجاح، ويفتح أيضاً الطريق أمام دخول كلّ اللاعبين على خطّ التفاوض بما فيها إسرائيل، الأمر الذي قد يضعف الموقف الإيراني التفاوضيّ.
أمام جميع هذه المعطيات والتطوّرات، يبدو أنّ منظومة السلطة والقرار في النظام الإيراني تعاملت مع المواقف المتشدّدة التي صدرت عن الإدارة الأميركية المطالِبة بتفكيك برنامج تخصيب اليورانيوم وتصفير هذه الأنشطة على الأراضي الإيرانية، باعتبارها حاجة أميركية داخلية أوّلاً لإسكات المعترضين داخل الإدارة على المسار التفاوضي، بالإضافة إلى محاولة تهدئة المخاوف الإسرائيلية، وأنّ حرب الخطوط الحمر التي تصاعدت وتيرتها في الأيّام الأخيرة قبل جولة التفاوض الخامسة لم تكن سوى محاولة الطرفين لتثبيت مواقعهما على طاولة التفاوض، ورسم السقوف التي من المفترض أن يعملا تحتها من أجل البحث عن حلول لبناء تفاهم أو اتّفاق جدّي ودائم.
الإدارة الأميركية قادرة على اتّخاذ خطوة استراتيجية لإنهاء جميع العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران
التمسّك المتبادل الأميركي الإيراني بإبقاء المفاوضات قائمة وعدم تعطيلها أو نسفها يشكّل رغبة مشتركة لدى الطرفين، للابتعاد عن خيار المواجهة العسكرية الأصعب الذي لا يصبّ في مصلحة أيّ منهما، وخصوصاً إيران.
إقرأ أيضاً: المفاوض الإيرانيّ مُربك والأميركيّ مستفيد
من هنا يمكن تفسير دخول المرشد الأعلى على خطّ الأزمة التي نشأت بسبب المطلب الأميركي بتصفير تخصيب اليورانيوم، الذي تعتبره طهران من المحرّمات الاستراتيجيّة. وكان قوله إنّ الكلام الأميركي “هراء” محاولة لتذكير الرئيس الأميركي وفريقه المفاوض بالخطوط الأساسية التي جاءت في رسالته الجوابيّة على رسالة ترامب، والتي أسّست لبدء المفاوضات غير المباشرة، ولذا على الطرفين التزام الإطار العامّ الذي خرجت به الجولات الأولى من التفاوض، وهو ما يعني أنّ النظام في طهران بكلّ مستوياته متمسّك بهذه المفاوضات ولن يعطي الذرائع لعدوّه الإسرائيلي أو لأيّ طرف آخر للاصطياد بالمياه العكرة أو إفشال هذه المفاوضات التي يراهن عليها للانطلاق نحو فتح أفق التفاوض لاحقاً على الشراكات الإقليمية وإعادة ترميم مواقعه في المنطقة.