من بين القضايا الإشكالية العديدة بين الإدارة في دمشق و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي تسيطر على أجزاء واسعة من شمال شرق سورية، مسألة مقاتلي تنظيم داعش المحتجزين في سجون “قسد”، إضافة إلى عائلاتهم المحتجزة أيضاً في مخيمات مكتظة في تلك المنطقة. وفيما ظلت “قسد” خلال السنوات الماضية متمسكة بإدارة هذه السجون، بوصفها من أبرز الأوراق بيدها لاستمرار الحصول على دعم أميركي ودولي، فإن التطورات المتسارعة بعد إطاحة نظام بشار الأسد في سورية، ووصول قيادة جديدة في دمشق وما أعقب ذلك من انفتاح دولي عليه ورفع للعقوبات المفروض على سورية، تعيد طرح هذا الملف باتجاه انتزاعه من يد “قسد”، وتسليمه إلى حكومة دمشق، أو إيجاد صيغة أخرى لإدارته بعيداً عن استفراد “قسد”، وهو ما تدفع إليه تركيا على وجه الخصوص.
وزار وفد حكومي سوري، مساء السبت الماضي، مخيم الهول في شمال شرق سورية، برفقة مسؤولين من قوات التحالف الدولي. وذكرت مصادر محلية لـ”العربي الجديد” أن الوفد الحكومي أجرى مباحثات مع إدارة المخيم للتنسيق بهدف إخراج العائلات السورية من المخيم. وضم وفد الحكومة السورية مسؤولين من وزارتي الخارجية والداخلية، ومسؤولي الاستخبارات ومكافحة الإرهاب، ورافقهم مسؤولون مدنيون من الخارجية الأميركية وقوات التحالف.
فراس علاوي: في نهاية المطاف سيتم نقل الملف إلى الحكومة السورية
وقالت جيهان حنان، وهي مسؤولة إدارية في مخيم الهول، لـ”العربي الجديد”، إنه لم يُناقَش الكثير من التفاصيل، لكن الزيارة كانت إيجابية، وتبين أن لدى الحكومة استعداداً لاستقبال القاطنين السوريين في المخيم. وأضافت حنان أن هذا الاجتماع هو الأول من نوعه، وستُعقبه اجتماعات مستقبلية لمناقشة قضايا أخرى تتعلق بالمخيم. من جهة أخرى، قالت وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل السورية، هند قبوات، إن الحكومة تعمل على إنهاء مشهد اللجوء والمخيمات في سورية بشكل كامل، مؤكدة ضرورة عودة كل اللاجئين إلى “حياة كريمة داخل وطنهم، بعيداً عن الاعتماد على الخيام أو المساعدات الإغاثية”. وشددت قبوات في تصريح لوكالة الأناضول التركية خلال مشاركتها في المنتدى الدولي للعائلة الذي استضافته مدينة إسطنبول التركية، السبت الماضي، على وجوب عدم نسيان أن “العائلات السورية قد تشتتت وانتشرت في أنحاء العالم، واليوم حان وقت استعادة هذا الرابط”.
الشرع وعبدي خلال توقيع الاتفاق،دمشق 10 مارس 2025(الرئاسة السورية)
تقارير عربية
دمشق و”قسد”… أكثر من خطوة إلى الوراء
دعوة تركية لدمشق
في السياق، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إنه يتعين على الحكومة السورية التركيز على اتفاقها مع “قسد”، والذي ينص على اندماجها في القوات المسلحة السورية، وحث دمشق على تنفيذه. وقال في حديثه للصحافيين على متن طائرة من بودابست، الخميس الماضي، إن تركيا وسورية والعراق والولايات المتحدة شكلوا لجنة لمناقشة مصير مقاتلي “داعش” في معسكرات الاعتقال في شمال شرق سورية التي تديرها “قسد”. وحث أردوغان الحكومة العراقية على استعادة مواطنيها، ومعظمهم من النساء والأطفال الذين يشكلون غالبية عائلات “داعش” خصوصاً في مخيم الهول. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد طلب من الرئيس السوري أحمد الشرع خلال اجتماعهما في السعودية في 14 مايو/أيار الحالي، تسلّم إدارة سجون “داعش”، وهو ما شكّل كما يبدو مفاجأة لقيادة “قسد” التي ظلت تقول إنها القوة السورية الوحيدة المؤهلة لهذه المهمة بسبب امتلاكها عناصر مدرّبين على هذه المهام، بإشراف من دول التحالف الدولي.
وقال عضو هيئة الرئاسة المشتركة لحزب الاتحاد الديمقراطي، آلدار خليل، في تصريحات لفضائية كردسات نيوز، إن التحالف الدولي والإدارة الأميركية لم يخطرا الإدارة الذاتية و”قسد” بأي جديد حيال تسليم ملف “داعش” للحكومة السورية. واعتبر خليل أن إدارة ملف “داعش” من دون “قسد” أمر غير ممكن، و”الغرب يعلمون العواقب، نظراً لوجود معادلة عدم ثقة بقدرات دمشق، ووجود فصائل ضمن الحكومة السورية كانت بالأمس داعش”. وفي تصريحات أخرى لوكالة رويترز، قال خليل إن الأحزاب الكردية السورية تستعد لإرسال وفد إلى دمشق قريباً، لإجراء محادثات بشأن المستقبل السياسي لمناطق شمال شرقي سورية، مشيراً إلى أن “وثيقة الرؤية الكردية ستكون أساساً للمفاوضات مع دمشق”، مضيفاً “قد نواجه بعض الصعوبات لأن موقفهم لا يزال متصلباً”. وبعد توقيع الشرع اتفاق 10 مارس/آذار الماضي مع قائد “قسد” مظلوم عبدي، لدمج الأخيرة في مؤسسات الدولة الإدارية والعسكرية، كان أول ما طالبت به دمشق تسليمها ملف السجون والمخيمات، لإدراكها أن هذه هي الورقة الأهم لدى “قسد” للمحافظة على الدعم الدولي لها، فيما تتطلع دمشق لتسلم الملف لإثبات قدرتها على أداء المهمة نفسها، والحصول على المزيد من ثقة المجتمع الدولي، تمهيداً لتسلم كامل الملفات في شرق سورية، بما فيها آبار النفط والغاز.
ورأى الباحث السوري المختص بملفات شرق سورية، فراس علاوي، أن ملف سجون “داعش” في سورية خاص بالتحالف، و”قسد” تشرف عليه فقط “لكن من يديره هو التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، وبالتالي إذا اتخذت الولايات المتحدة قراراً بنقل إدارة الملف إلى الحكومة السورية، فإن قسد لا تستطيع الاعتراض، لكن ربما تستطيع القيام ببعض التشويش مثل تهريب عناصر من التنظيم أو افتعال مشكلات وحوادث”. واعتبر علاوي في حديث مع “العربي الجديد” أنه في نهاية المطاف “سيتم نقل الملف إلى الحكومة السورية وفق ما أعلن ترامب خلال لقائه مع الشرع”. وأوضح أن تركيا تضغط لتسريع نقل الملف إلى الحكومة السورية، كي لا يظل ورقة ضاغطة بيد “قسد”. وأعرب عن اعتقاده أن الحكومة السورية قادرة على إدارة هذا الملف لسببين: الأول أنها تحظى بدعم إقليمي ودولي، خصوصاً الدعم التركي والخليجي، وثانياً أن لديها تجارب في إدارة هذا الملف، وكان لدى “هيئة تحرير الشام” في إدلب سجناء من التنظيم والتنظيمات المتشددة الأخرى.
تقول “قسد” إنها تحتجز ما بين 9 آلاف و10 آلاف مقاتل من التنظيم في عدة سجون، بينهم ألفا أجنبي
لا ثقة أميركية بتركيا
من جانبه، قال أحمد البرو، وهو باحث ومحلل سياسي مقيم في مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية”، إنه “لا يمكن الركون لصدقية رواية تركيا حول الاتفاق بين الأطراف الأربعة (تركيا وسورية والعراق والولايات المتحدة)، خصوصاً أن العراق غير مؤهل ولا يملك الإمكانات لإدارة هذا الملف، وهو يعتمد حتى الآن على قوات التحالف في عمليات مكافحة الإرهاب ومحاربة داعش”. وأضاف برو لـ”العربي الجديد” أن العراق يتخوف أيضاً من إعادة جميع مواطنيه من مخيم الهول لأسباب أمنية. وبالنسبة للولايات المتحدة، قال برو إنها “لا تثق بتركيا في إدارة هذا الموضوع وهو أمر بات معروفاً خلال السنوات الماضية واعتمادها على قسد هو بسبب فقدان الثقة بتركيا والفصائل الموالية لها”، معتبراً أن تصريحات الرئيس التركي لا تعدو أن تكون محاولة تركية لانتزاع هذا الملف من يد “قسد” لأسباب سياسية وأمنية.
ورأى أن “قسد” لن تسلم هذا الملف للإدارة في دمشق بسهولة، لأن “النظام في دمشق غير موثوق حتى الآن من قبل قسد وهو غير مؤهل لتولي هذا الأمر”، مضيفاً أن “الكثير من العناصر والقوى العسكرية المنضوية في صفوف وزارة الدفاع السورية لديهم أيديولوجيا وأفكار قريبة من تنظيم داعش والكثير منهم كانوا ضمن صفوف التنظيم قبل الانشقاق”. وأضاف أن “حكومة دمشق غير قادرة حتى الآن على ضبط الأمن في مناطق سيطرتها، وتعاني من مشاكل كبيرة في عمليات التحكم والسيطرة وفرض الأمن”. ورأى أن انتزاع الملف من يد “قسد” سوف يشكل “خسارة نقطة تفاوض مهمة أمام دمشق وتركيا، وقد يؤدي ذلك لتآكل الدعم الدولي لهم وحتى فقدانه وقسد تدرك أهمية هذا الملف فيما يخص مستقبلها”.
وتقول “قسد” إنها تحتجز ما بين 9 آلاف و10 آلاف مقاتل من التنظيم في عدة سجون، بينهم ألفا أجنبي. ويتوزع السجناء على نحو عشرة سجون تديرها إدارة السجون والمعتقلات، ويتمركزون بشكل رئيسي في سجن غويران (الصناعة) وسجن المالكية (ديريك) إضافة إلى سجون أخرى مكتظة في عدة مدن وبلدات، بعضها عبارة عن أبنية غير مجهزة تخضع لحراسة مشددة. ويقع سجن غويران في مدينة الحسكة، وهو من أكبر السجون التي تديرها “قسد”، واندلعت فيه أعمال شغب قبل نحو خمس سنوات، ويؤوي نحو خمسة آلاف موقوف، بينهم أجانب من جنسيات مختلفة. وتدير “قسد” أيضاً سجن جركين في القامشلي، وسجن الشدادي في الحسكة، إضافة لمراكز اعتقال في الرقة ودير الزور. كما تحتجز “قسد” نحو 40 ألفاً من أفراد عائلات عناصر تنظيم داعش في عدد من المخيمات في شمال شرق سورية.
تشكيك بأعداد المسجونين من تنظيم داعش
وتشكك بعض المصادر بالعدد الإجمالي لسجناء “داعش” في سجون “قسد” وتقدر أن عددهم لا يتجاوز ستة آلاف، لكن “قسد” تتعمد تضخيم العدد، بهدف الاستثمار السياسي. ولا يمكن حصر العدد على وجه الدقة، نظراً لوجود معتقلين أساسيين منذ معركة الباغوز عام 2019، والتي كانت آخر المعارك الكبيرة قبل الإعلان عن القضاء على التنظيم، إضافة لمعتقلين لاحقين، حين تعلن “قسد” باستمرار عن اعتقال عناصر من التنظيم في حملاتها الأمنية المتكررة. والسؤال المطروح بعد هذه التطورات هو كيف يمكن أن ينتهي هذا الملف، هل تحتفظ “قسد” بإدارته لتحافظ على مبررات وجودها وعلى الدعم الدولي، أم ينتقل إلى الحكومة السورية ليمنحها المزيد من الشرعية والثقة من جانب المجتمع الدولي، أم يتم التوصل إلى إدارة مشتركة بين “قسد” وحكومة دمشق والدول الأخرى المعنية، خصوصاً الولايات المتحدة وتركيا والعراق، وفق ما أعلن أردوغان؟
ويرى مراقبون أنه مع حرص “قسد” على التمسك بهذا الملف، إلا أنها تواجه معضلة قانونية وسياسية، بسبب افتقادها للشرعية الكافية، ذلك أن إيجاد إطار قانوني لإنشاء محاكمات لعناصر التنظيم المحتجزين يتطلب أن يتم من جانب دولة معترف بها، وهذا غير حاصل بالنسبة لـ”قسد”، التي هي مجرد فصيل عسكري محلي، ولم تحظَ لا هي ولا الإدارة الذاتية بأي اعتراف سياسي، سواء من الدولة السورية أو دول أخرى. ومن بين الحلول الواردة وفق مصدر أمني مطلع في دمشق، تحدث لـ”العربي الجديد”، أن يتم في مرحلة أولى نقل مقاتلي تنظيم داعش السوريين إلى سجون في حلب ومحافظات أخرى تحت سيطرة الحكومة السورية، على أن يبقى المقاتلون الأجانب في سجون “قسد” شرقي سورية بإشراف أميركي ـ فرنسي، مع بذل جهود مع الحكومة العراقية لاستعادة جميع مواطنيها من التنظيم. وأضاف المصدر أن نقل جميع مقاتلي التنظيم دفعة واحدة قد يكون متعذراً من الناحية اللوجستية والفنية بسبب عدم وجود سجون كافية مجهزة لاستيعابهم، لكن من الوارد أن تنتقل إدارة السجون في شرق سورية التي تضم مقاتلي التنظيم اليوم إلى الحكومة السورية بدل “قسد”، أو بمشاركتها في مرحلة أولى.
عناصر بقسد بدير الزور،4 سبتمبر2023(دليل سليمان/فرانس برس)
تقارير عربية