ملخص
“الحنين الجارف” عبارة خطرة جداً وحاضرة جداً في سيكولوجية المثقف العربي، وهي من أكثر العبارات استعمالاً في الخطاب الثقافي العربي، فأن يجرفك الحنين معناه أن يجرجرك بعيداً من الواقع، أن يسحبك نحو الماضي، أن يفرغك من العقل، وأخطر من كل ذلك حين تقوم الـ”نوستالجيا” بعملية ترحيل جثة زمن مضى لتجعل منه بديلاً عن الحاضر أو تجعله حلماً للمستقبل.
هل المثقفون العرب كائنات “نوستالجية”؟
بالمفرد والجمع وبالقبيلة أيضاً، يسحب المثقفون العرب خلفهم وفيهم جثة تاريخ تغمره بحار من الدماء ومحيطات من الدموع، تاريخ مليء بالمقابر الجماعية لأسلافهم من الأصوات المجتهدة والمبدعة التي جرت تصفيتها أو تهجيرها أو محاربتها أو تكميمها أو تكفيرها من قبل سلطات ثيوقراطية أو قبلية أو قومية متسلطة، ومع كل ذلك وفي كل ذلك، يعيش المثقف العربي الكاتب والفنان والمفكر “نوستالجيا” غريبة حيال هذا الماضي، فيتعامل معه بحنين جارف من دون رقيب.
ما في ذلك شك، ففي تاريخ العرب الثقافي والفكري وعلى مدى 15 قرناً، كما في تواريخ الشعوب الأخرى، محطات منيرة ومشرفة وعامرة ثقافياً وإبداعياً وعلمياً تشكل إضافة نوعية إلى صفحات سجل تاريخ البشرية في معركتها ضد الجهل والأمية والظلم والتخلف، لكن استحضارها من قبل المثقف العربي الراهن تتم بـ”نوستالجيا” فائضة وغاضبة وعمياء لإخفاء هزيمة تجري حوله وفيه وعلى المباشر.
الـ”نوستالجيا المرضية” هي ربط مثقف الزمن الحالي روحياً ومصيرياً بالماضي بواسطة حبل سري لا يقطع ولا ينقطع.
والالتفات إلى الماضي ليس عيباً، بل ضرورة معرفية وتاريخية، لكن الغرق فيه والاستنجاد به على طريقة (وا معتصماه)!! هو العطب الكبير الذي يعوق العيش في الحاضر بطريقة سليمة وإيجابية.
وعلاقة المثقف العربي بالماضي، ماضيه بالأساس، علاقة إشكالية ومعقدة، تتميز بالتقديس وغياب النقد ورفض المراجعات والخوف من المحو.
والمحو ظاهرة إيجابية لأنها تسمح بتنقية الأعشاب الضارة في حقل من زرع.
علاقة المثقف العربي بماضيه علاقة مرتبكة، تبدأ دائماً من نقطة الصفر، كل جيل جديد من المثقفين، وهو يواجه زمنه بكل ما فيه من خصوصيات ومشتركات مع الآخر، يبدأ قراءته للماضي من جديد، من العدم، وكأن لم يسبقه السابقون، وكأن لم يحسم بعض السابقين من المثقفين القول في بعض القضايا التي يجب أن تطوى كيف تفتح الطريق أمام صفحة جديدة بأسئلة جديدة، والبداية من الصفر أو من العدم تجعل الأجيال المتلاحقة تطرح الإشكاليات نفسها في غياب كامل لعملية المحو التي تسمح بالتأسيس لعملية الانتقال الجادة إلى مرحلة لاحقة.
والمثقفون العرب يضيعون وقتاً كبيراً ويصرفون كلاماً كثيراً ويكتبون نصوصاً كثيرة، بل مجلدات ضخمة وسمينة، في ماضٍ يظل محترماً وإيجابياً حين يحتفظ بموقعه الذي مضى.
وعلاقة المثقف العربي بماضيه المعقد تمرّ دائماً، وفي غالب الأحيان، من خلال قُمع الدين، أي لا يقرأ الماضي مهما كانت الإشكاليات المطروحة فيه إلا من خلال مصفاة الدين، والإسلام بصورة خاصة، وكأن العرب لم يعرفوا إلا ديانة واحدة، وكأن المسيحيين العرب، مثلاً، لم يشكلوا قوة ثقافية وعقائدية وسياسية واقتصادية ولغوية وازنة في تاريخ العرب.
وبناء عليه، كلما كان هناك اجتهاد في قراءة الماضي، يتهم القارئ بالمس بالدين والمس بالمقدس وأنه يعمل لمصلحة أجندات وراءها جهات أجنبية.
يحتاج المثقف العربي إلى شجاعة فكرية وجرأة منهجية في التعامل مع الماضي، ويحتاج أيضاً إلى حرية سياسية وإعلامية وفكرية ومؤسساتية في قراءته وتقليبه لمكر الماضي.
ويعتقد المثقفون العرب بأن ماضيهم صنع وتشكل بعيداً من “مواضي” الشعوب الأخرى أو بمعزل عنها، مما يجعل الفكر عند العرب جهوياً ومغلق الأفق وينتج أحكاماً تعميمية وشمولية على شاكلة أنظمتها السياسية، وهذا الفصل بين الماضي العربي و”مواضي” الشعوب الأخرى يجعل المثقفين العرب يسقطون في أحكام المبالغة والتعميم، لذا فخطابهم مليء بصيغ المبالغة والتفضيل، أعظم شاعر وأشهر فارس وأكبر بلد وأجمل لغة… وقِس على ذلك.
وجذور مرض الـ”نوستالجيا” الذي ينخر أهل الفكر والثقافة والسياسة والفن سببها هذه العلاقة العمياء وغير النقدية مع ماضيهم القريب والبعيد.
وعلى المستوى الثقافي، أنتجت تقاليد ثقافة مرض الـ”نوستالجيا” بنية جمالية مهتزة تعتقد بأن العرب هم أمة الشعر دون سواهم “الشعر ديوان العرب”، مما انجرّت عنه ولادة حال من القطيعة الإبستيمولوجية ما بين الشعرية العربية والشعريات الأخرى، اليونانية والهندية والفارسية والأمازيغية والأوروبية والأميركية وغيرها، وتمخضت عن هذه القطيعة- الحدود حال من الشعور بالاكتفاء الذاتي المرضي، فقفل الباب أمام تلاقح تجربتهم مع تجارب الآخرين الذين يعيشون معهم في الزمن ذاته وعلى الكوكب نفسه.
وتورّث الـ”نوستالجيا” الكسل الفكري وتكرسه وتفرخ الـ”فوبيا” من ثقافة الآخر وتثمرها في الأجيال الصاعدة.
مرض الـ”نوستالجيا” قتل اللغة العربية الجميلة، ولأن المثقفين العرب المعاصرين بصورة عامة على قطيعة باللغات الأجنبية، فهم يؤمنون إيماناً أعمى بأن لغتهم هي الأجمل والأشمل والأمثل والأكمل، ومن حق المثقفين العرب الافتخار بلغتهم، بل من الواجب عليهم ذلك، إلا أنهم يطلقون أحكاماً جزافاً على قيمة لغات الأقوام الأخرى، من دون علمهم العلمي بها، وفي اختزال فكري بئيس يصلون إلى نتائج جاهزة خلاصتها بأن لغات الآخرين أقل من لغتهم. وهم بهذه الرؤية الـ”نوستالجية” المغلقة يمارسون اغتيال لغتهم والمشي في جنازتها يوماً بعد آخر، ويغلقون الباب أمامها فيعزلونها عن كل تطور وتطوير علمي قائم على التوليد والنحت والاقتباس والتوطين والتراسل والاستضافة.
“نوستالجيا” علمية، كلما شعر المثقفون العرب المعاصرون بتأخر حالهم أمام تقدم العالم الذي من حولهم، نبشوا قبوراً في التراث واستعرضوا قائمة من أسماء العلماء والفلاسفة والأطباء الذين، من دون شك، أسهموا في التأسيس للفكر الإنساني، ولأن هذه الاستعادة قائمة على رؤية “نوستالجية” فإنهم ينسون أو يتناسون أن غالبية الأسماء الواردة في القائمة التي يرفعونها لمواجهة حال الضعف والتخلف والتقهقر كانت في زمنها مطاردة ومنبوذة وجرى تكفيرها من أمثال ابن سينا وجابر بن حيان والكندي وابن الهيثم والرازي والبيروني وابن الراوندي والجاحظ وابن المقفع والحلاج وابن رشد والفارابي والمعري وابن طفيل وابن خلدون وغيرهم.
“نوستالجيا” سياسية، حين يشعر المثقف العربي بالضعف وبمرارة الهزيمة السياسية والعسكرية، تجرفه “نوستالجيا” الفروسية فترمي به إلى الماضي ليستعيد وجوهاً سياسية وعسكرية من هذا الماضي التي عرفت باستعمال القوة والجبروت والبطش، بطش شعوبها أولاً، ويفتخر بها مع أنها كانت في غالبيتها وجوهاً مستبدة وظالمة، ويستحضر ذلك من أجل تقديم صورة عن “القوة”. ولنا في التاريخ نماذج كثيرة لا يزال العرب يفتخرون بها ولكن حين نعود لسيرتها نجدها كان لها سلوك مرعب.
وأمام هزائم الراهن المتوالية، لا يزال هناك حنين جارف يربط المثقف العربي بالوهم الساكن في الماضي، الماضي بمفهوم عائم الذي يجعل منه قشة نجاة أو لوح خلاص، وهو في الحقيقة هاوية انتحار.
“الحنين الجارف” عبارة خطرة جداً وحاضرة جداً في سيكولوجية المثقف العربي، وهي من أكثر العبارات استعمالاً في الخطاب الثقافي العربي، فأن يجرفك الحنين معناه أن يجرجرك بعيداً من الواقع، أن يسحبك نحو الماضي، أن يفرغك من العقل، وأخطر من كل ذلك حين تقوم الـ”نوستالجيا” (الحنين الجارف) وبكثير من المتعة والافتخار، بعملية ترحيل جثة زمن مضى لتجعل منه بديلاً عن الحاضر أو تجعله حلماً للمستقبل.