ترجمة: عارف حمزة (1)
قبل ستين عامًا، بدأ بيتر هاندكه (2) مسيرته الأدبية، ولم يكن قد بلغ الثالثة والعشرين من عمره بعد، وقال عن تلك البداية في هذا الحوار: “كان ذلك أمرًا هائلًا”. أما اليوم، فيجد نفسه، في حانته المعتادة، الأكبر سنًا بين مرتاديها من كبار السن.
أهرامات من الكتب
تستغرق الرحلة من باريس إلى بلدة “شافيل” (الفرنسية)، حيث يقيم بيتر هاندكه منذ عام 1990، نصف ساعة على متن قطار الضواحي. شارع بيته مزدحم وقبيح إلى حد ما. أو بالأحرى، أصبح قبيحًا بفعل الأبنية الجديدة التي تفتقر إلى أي خيال. أما منزل هاندكه فهو مخفيّ ومنعزل عن الشارع؛ على المرء أن يسير في زقاق صغير وضيق ومنخفض السقف، إلى أن ينفتح الزقاق فجأة على بوابةِ مدخل، وهناك، في قلب حديقةٍ مضيئة، محاطة بأشجار الكستناء، ينتصب البيت. هناك درجٌ يقود إلى باب الدخول، وعند عتبته يظهر الآن ربّ المنزل. هاندكه يبدو أقصر قليلًا من أن يملأ حجم هذا البيت، الذي ليس كبيرًا في الواقع. ربما لأنه، مع التقدّم في العمر، أصبح أصغر حجمًا، أو أن البيت هو الذي كَبُر بشكلٍ ما.
يُبدي هاندكه سعادته بالزيارة. يقول إن الناس لم يعودوا يأتون كثيرًا، ويبدو أنه لا يشعر بالأسف حيال هذا الأمر. ربما لم يُصبح ناسكًا بالمعنى الحرفي، لكنه يبدو مثل نوع من المتوحدين، ذلك النوع الذي يعيش في متحف أحلامه الخاصة.
خلف الباب مباشرة، حيث يؤدي الدرج إلى المطبخ وغرفة المعيشة، تتناثر الكتب والأحذية على كل درجة تقريبا، مكوّنة أكوامًا، مثل أهرامات، تشهد على استعمال طويل ومُرهَق لها. وفي غرفة الجلوس تتراكم على كل سطح، وعلى كل طاولة، وكل كرسي، أهرامات صغيرة من الكتب. كتبٌ لهاندكه بلغات شتى، لكن أيضًا كتبٌ لبول فاليري ورينيه شار. ليست هناك مكتبة منظمة، بل أبراجٌ من الكتب تتمايل بخطورة في كل زاوية. وعلى رفّ جانبي يمكن للعين أن تلمح عددًا من دفاتره الصغيرة، ذات الأغلفة الملوّنة على نحو يثير الدهشة. دفاتر صغيرة بما يكفي لتناسب جيب البنطال، لكنّ مظهرها لا يبدو مهمًا له. لا شيء فيها أنيقًا أو مصقولًا.
يجمع هاندكه، هذه الأيام، الأشنات. رتّبها على أرضية غرفة المعيشة، لتشكل رقعة خضراء باهتة، كما لو أنها تنبت من مشهد طبيعي داخل لوحة مستندة بإهمال إلى الحائط. قال إن اللوحة أصلية، من رسم كاميّ كورو (3)، وإن هذا الأخير كان يسكن غير بعيد عن شافيل، خلف التلّ المجاور تمامًا.
في المطبخ، تتناثر أوعية مملوءة بالأشنات. يغمس ظهر يده فيها ويقول بأنها تخفف آلام النقرس.
البيت بأكمله يبدو كغرفة عجائب مليئة بالأشياء المُلتقطة: على طاولة الطعام، قصاصة صحافية صغيرة جدًا، تحوي استنساخًا للوحة “الحمَل الإلهي” للرسّام فرانسيسكو دي زورباران (4)، يظهر فيها حملٌ مستلقٍ، وأطرافه الأمامية والخلفية موثقة.
في درَج السلم المؤدي إلى الطابق الثاني، تنتصب عصيّ طويلة في كل زاوية. يُخيّل للمرء أنه داخل بيت طفلٍ يعود من كل نزهة بشيء ما، يظنّ أنه هكذا فقط يستطيع إنقاذ نفسه من الفناء.
يقودني هاندكه إلى غرفة الرسم الخاصة به، حيث يستطيع النظر منها إلى الزقاق. إنها تبدو كصومعة راهب بالفعل. ثم يُرافقني في النزول، عبر درج ضيّق، إلى غرفة الحديقة، محذرًا: “لا تتعثّر”. هناك يقرأ الأوديسة بالإغريقية. الكتاب ممدود على الطاولة، مفتوح، كأنه ما زال يقرأه حتى قبل لحظة. يطلب مني أن أجلس، “حتى ترى كيف أقرأ الكتاب والحديقة أمامي، في وقت واحد”.
لأجل إجراء حوارنا، قدنا السيارة لمسافة قصيرة إلى فرساي، حيث حجز هاندكه طاولة في مطعم صغير. وقبل أن نغادر البيت، يناولني ثلاث حبات كستناء مجففة من حديقة المنزل، كان قد قشّرها بنفسه. يقول لي: “يمكنك أن تطبخها”.
لا يوجد سبب خاص لهذا اللقاء، باستثناء واحد، فاجأه هو شخصيًا أكثر من غيره:
رومان: بيتر هاندكه، تهانينا القلبية. تحتفل هذا العام بمرور ستين عامًا على خدمتك في الأدب. هل هو سبب جيّد للاحتفال؟
هاندكه: ليس لي علاقة بهذا الأمر. أرجوك، لا تجعل منه شيئًا مهمًا.
رومان: كنتَ في الثالثة والعشرين من عمرك، وتدرس الحقوق في جامعة غراتس، حين قبلت دار “زوركامب”، في صيف عام 1965، مخطوطة عملكَ الأول “الدبابير” لنشره. تخليت عن الدراسة على الفور، ومنذ ذلك الحين تفرّغتَ للكتابة. ما الذي فكّرت فيه آنذاك؟
هاندكه: لم أكن قد بلغت الثالثة والعشرين تمامًا! دائمًا ما أقول: كان ذلك في عامي الثالث والعشرين. وأقولها حتى اليوم: أنا أقف الآن في عامي الثالث والثمانين. وهكذا يُكتب أيضًا على شواهد القبور.
رومان: ألم يُرعبك أن تصبح كاتبًا، وتضع كل شيء على المحك، مُغامرًا بكل شيء، وأنت لم تكن وقتها حتى في الثالثة والعشرين من عمرك؟
هاندكه: في ذلك الوقت كان الأمر هائلًا، أما اليوم فهو شيء عادي. حتى في دار زوركامب كان ذلك حدثًا غير مسبوق. ما حدث كان نتيجة سلسلة من اللحظات الكريمة. كنتُ أعمل حينها، كطالب، في الإذاعة، وهناك أبدى أحدهم اهتمامًا بما أكتب. وبفضل سلسلة من الظروف السعيدة، وصل المخطوط إلى زوركامب، وربما فكّر (كترل زيغفريد) أونزِيلد (الناشر) حينها أن على المحرر الشاب (لدى الدار) أن يكتشف من حين لآخر كاتبًا شابًا. هكذا وصلت إلى زوركامب. لكنني كنت شخصًا آخر آنذاك.
رومان: هل تقصد أن الأمر كان، برمّته، مجرد سوء فهم؟
هاندكه: نعم، لم يكن له أي علاقة بي في الحقيقة. في “فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ” كُتبت مراجعة إيجابية عن الكتاب، وحتى في “نويه تسورشر تسايتونغ” نُشرت مراجعة نقدية دقيقة بقلم فيرنر فيبر. وهكذا استمر الأمر. كنتُ أرى في ذلك شيئًا رائعًا، لكنني لم أكن أملك أدنى فكرة عمّا ينتظرني.
رومان: لكن ألم يكن الهدف في ذلك الوقت قد تحدد مسبقًا؛ في أن تصبح كاتبًا؟
هاندكه: كما يقول جوزيف فينكلر(5): “أنا لستُ كاتبًا، بل شخص يكتب من وقت لآخر”. لا ينبغي استخدام هذا كاسمٍ جامد. الكلمة تصلح فقط لإقرار الضريبة. إنه ترفٌ متصنّع… ولا شيء أكثر من ذلك.
رومان: قولك إنك تكتب “من وقت لآخر” هو أقل من الحقيقة بكثير. فمنذ أن تعلمتَ الكتابة، لم تتوقف عنها قط. تكتب يوميًا في دفاترك الصغيرة، منذ عقود، آلاف الصفحات.
هاندكه: منذ البدايات الأولى، تقودني تلك النظرة الأولى للشباب. وما زالت تقودني حتى اليوم. وحين لا أعود أعرف الطريق، سأجلس على حافة الغابة، وأصغي إلى الريح.
رومان: دافع الشباب ذاك، أو الدافع القسري للكتابة، والذي رافقك طوال حياتك. كيف وأين بدأ الأمر، بأن لا تكتب؟ بل أن تشعر بأن عليك ألا تكتب؟
هاندكه: كنتُ أريدُ أن أكتبَ نفسي خارج عالم لم يكن عالمي.
من العتمة إلى العتمة
ثم يُخرج بيتر هاندكه واحدًا من دفاتره الصغيرة من جيب بنطاله. يقول إنه كان في السينما أوّل أمس. يبحث عن ملاحظة كتبها، وكأنه يريد أن يشرح بها ما يقصده بعبارة “أن أكتب نفسي خارج عالمٍ ليس عالمي”. الدفتر مكتوب بحروف متقاربة بقلم حبر، وقد تجعّدت صفحاته من كثرة الاستخدام. يقلب الأوراق ذهابًا وإيابًا، حتى يعثر على المقطع. كان قد حضر فيلم “شعر الجزرة” لـ (المخرج الفرنسي) جوليان دوفيفيه (1896 – 1967)، من إنتاج عام 1932.
يقول إنه يذهب إلى السينما كثيرًا. يسافر إلى المدينة خصيصًا ليحضر عرضًا مسائيًا متأخرًا. وحين يخرج من قاعة العرض، كما في هذا الوقت من الربيع، يكون الظلام قد حلّ في الخارج. “أنتقل من عتمة إلى أخرى، من عتمة السينما إلى عتمة المساء”. ويضيف: “أحبّ ذلك كثيرًا”. ثم يقول، شارحًا، وربما معتذرًا بعض الشيء: “حين أغادر البيت بعد الظهر، لا أريد أن أعود إليه قبل أن يُخيّم الظلام”. كأن هاندكه لا يذهب إلى السينما ليرى، بل ليختفي في العتمة التي يعرفها جيدًا.
رومان: حدثني عن الفيلم.
هاندكه: كل الفيلم يدور حول طفل يُحاول أن يُنهي حياته. كان ذلك أمرًا فظيعًا. ومع ذلك، يكون له بعض الحظ، إذ يُنقَذ على يد أبٍ أبله بعض الشيء. وفي تلك اللحظة، تذكّرتُ فجأة شيئًا كنت قد نسيته تمامًا، طَوال كل تلك السنوات والعقود؛ حين كنتُ في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة، كتبتُ، بخط اليد، نوعًا من الرواية، كانت تدور حول طفل يريد أن ينتحر.
لا يُمكنني أن أُدرك كيف نسيته تمامًا. لم تكن لدي أيّ ذكرى عنه، لكن مع الفيلم، عاد كل شيء. عاد من عمقٍ شديد الغور.
“يمكن للمرء أن يقول الآن إننا نعيش آخر أيام البشرية، وبعدها ستأتي الأيام الأخيرة الأخيرة للبشرية. وكل خمسين سنة تأتي الأيام الأخيرة الأخيرة الأخيرة”
رومان: هل كان الطفل هو أنت؟
هاندكه: لا، لم يكن الطفل أنا. لكن الفكرة، على الأرجح، تعود إلى أنني كنتُ متأثرًا للغاية بجثث الأطفال. لا أعرف من أين جاء ذلك. وأودّ حقًا اليوم أن أقرأ ذلك المخطوط، لكن ليست لديّ أي فكرة عمّا فعلت به. لقد فُقد، أو ضاع تمامًا… أو أُتلف. لا أعرف.
رومان: قد تكون نسيتَ المحتوى، لكنك على يقين أنك كتبت رواية في ذلك الوقت. أليس كذلك؟
هاندكه: نعم، أرى المخطوط أمامي بوضوح. وفي الحقيقة، كنتُ أراه طوال الوقت، كان بسمك إصبعين تقريبًا، لكنني لم أُكمل كتابة الرواية.
رومان: هل لديك صورة بصرية للمخطوطة في ذهنك؟
هاندكه: أنا أتذكّر حتى الخطّ الذي كتبت به. كنت أكتب بالحبر الأزرق؛ على الأرجح بقلم حبر جاف، إن كان موجودًا آنذاك، في أواخر خمسينيات القرن الماضي. وأتذكّر أيضًا كيف كنتُ أُثير رعبَ عائلتي كلّها بسببه. كنتُ أصرخ في إخوتي وأُسكتهم بعنف؛ لأنني كنت أكتب هناك، في غرفتي تحت السقف.
رومان: وهل كانت والدتك تعلم، في ذلك الوقت، أنك تطمح إلى أن تصبح كاتبًا؟
هاندكه: كانت والدتي فخورة جدًا بذلك. وقد نصحتني، في سنّ مبكرة، بما يجب أن أقرأ. قالت لي بأن كافكا كان يُعيقها في القراءة، لذلك منعتني من كافكا. قالت إنه لا يناسب سني. أما دوستويفسكي وتولستوي فكانا مناسبين لي في نظرها. قالت لي: هذا ما عرفتهُ من ذهابي إلى الدوائر الحكومية!. لكنها قالت كل ذلك بلطفٍ شديد.
رومان: لكنّك لم تلتزم بذلك، وقرأت كافكا في النهاية، أليس كذلك؟
هاندكه: نعم، كنت قارئًا متحمسًا لكافكا. لكن لم تكن تلك نظرة الشباب الأولى بعد، بل النظرة المتأثرة بالمدرسة والجامعة مشفوعةً بتجربة المال والوحدة. كان الأمر مختلفًا تمامًا.
رومان: وهل كانت للرواية المفقودة علاقة بما وصفتَه سابقًا بـ”الكتابة للخروج من عالمك”؟
هاندكه: لم تتضمّن الرواية كلمة واحدة عن الوحدة. لم أكن أستطيع أن أكتب عن وحدتي حينها. كنتُ أشعر بخوفٍ كبير… ولم أتعلّم أن أكتب جُملًا من هذا النوع إلا لاحقًا. في عام 1981، في القصيدة الدرامية “عبر القرى”، حين كتبتُ: “السلام الأبديّ ممكن”. وإلى اليوم تدمعُ عيناي كلما فكّرت أنني كتبتُ هذه الجملة، وأنها، بالفعل تُصيب شيئًا في القلب. هذا هراءٌ تام. ورغم ذلك هو هكذا: السلام الأبديّ ممكن.
بيتر هاندكه (Getty)
رومان: كيف يصل شاب في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمره إلى كتابة رواية عن طفل يريد الانتحار؟ لا بد أن لهذا صدى ما في داخله، أليس كذلك؟
هاندكه: لقد سألت نفسي هذا السؤال أيضًا، لكن ما عرضته في تلك الرواية لم يكن قدري الشخصي ولا قصتي الخاصة. من المؤسف أنك لست عالم آثار، كنت ستتمكن عندها من القيام بأعمال تنقيب والعثور على المخطوطة.
رومان: لقد نامت ذكرى تلك الرواية في داخلك سبعين عامًا. ثم رأيت الفيلم، فعادت الذاكرة الخاصة بها، كأنها كانت تنتظر لحظة إيقاظها. هل أعاد لك الفيلم أيضًا ذكريات أدق عن الرواية؟
هاندكه: لا أذكر سوى أنها تفتّتت في مرحلة ما إلى اللاشيء. لم تأتني القصة بشكل حقيقي وواضح. لا أظن أن السبب كان انتحار الطفل، ونعم، احتجت إلى الفيلم لكي أتذكر. ولكن الآن أحتاج إلى بعض النبيذ.
الحزانى
يتحدث بيتر هاندكه بصوت خافت، يتخلله الصمت الطويل، باحثًا ومتحسسًا كلماته. أكثر من مرة يمازحني متذمرًا من أن كأسه فارغ وبأنني لا أعتني به إطلاقًا. نأكل ونشرب ونتحدث. أحيانًا تلمع في عينيه لمحة شقاوة شبابية، لا يسخر من الآخرين، بل يسخر من نفسه فقط. ويبدو أحيانًا متأملًا حزينًا بعض الشيء، وغالبًا ما يفكر مطولًا قبل أن يجيب، لكنه في كل لحظة يتجسد في صورة اللطف بعينه. عندما بدا النادل متوترًا قليلًا لأننا نتحدث كثيرًا – رغم أننا نصمت بقدر ما نتحدث – وربما نأكل ببطء شديد على ذوقه، اعتذر هاندكه عن الإطالة. فيجيبه النادل: “Pas de soucis” – لا تقلقوا. يكرر هاندكه الكلمة بتأمل: “Pas de soucis”. ويقول إنها أصبحت العبارة الأقرب إلى قلبه في فرنسا.
رومان: الطفل في الفيلم أيقظ فيك لقاءً مجددًا مع ذاتك الشابة. تقول إنك لست ذلك الطفل، لا الطفل في الرواية المفقودة، ولا الطفل في الفيلم، ومع ذلك لا بد من وجود صلة عاطفية.
هاندكه: لقد كنتُ، وأنا شاب، دائم التوق إلى الحزن. إلى الكآبة. كنت أغبط أولئك الأشخاص من حولي الذين كانوا يشعرون بمسحة من الكآبة. كنت أتساءل: لماذا لست حزينًا مثل هذا أو ذاك؟ وبتقريع داخلي كنت أقول لنفسي: أنت أشبه بشخص خفيف الرأس، لا تأخذ الأمور على محمل الجد. لم أكن أرى الأشخاص المرِحين من حولي، بل الحزانى هم من كانوا يُثيرون اهتمامي. عندما كانت والدتي تغني، وكانت تغني كثيرًا وبحب، فهي كانت شخصًا مرحًا بطبعها، كنت دائمًا أفكر أو حتى، في مرات عديدة، أقول لها: “توقفي عن الغناء”.
رومان: هل شعرتَ لاحقًا أحيانًا بالحزن العميق أو بالاكتئاب؟
هاندكه: لقد وجدتُ نفسي أحيانًا في مواقفٍ اعتقدتُ فيها أنني لن أخرج منها حيًّا. لكنني واصلت المسير. سقطتُ أرضًا، ثم نهضت ومضيتُ قدمًا.
رومان: وما الذي كان سبب هذا السقوط؟
هاندكه: كان بسبب العمل وبسبب الكتابة. بسبب اللغة والإيقاع، حين كانت الأمور تتحوّل فجأة إلى مجرد وصف فقط. كان ذلك قادرًا على أن يدفعني إلى اليأس.
“لقد كنتُ، وأنا شاب، دائم التوق إلى الحزن. إلى الكآبة. كنت أغبط أولئك الأشخاص من حولي الذين كانوا يشعرون بمسحة من الكآبة. كنت أتساءل: لماذا لست حزينًا مثل هذا أو ذاك؟”
رومان: هل تعيش أحيانًا لحظات من الكآبة الآن؟
هاندكه: إنه شعور أقرب إلى شعور بالحزن الكوني، لكنني لا أرغب في الاستغراق فيه. الآن أعلم أنني أقف في قلب الحياة، وعندما يأتي هذا الحزن الكوني، أشعر وكأنني داخل فيلم.
رومان: هل لهذا الحزن الكوني علاقة بك أم بحال العالم ككل؟
هاندكه: إنه العالم، أيًّا كان معنى “العالم”.
رومان: وهل له علاقة أيضًا بالتقدّم في السن؟
هاندكه: لا، لا أعتقد ذلك.
رومان: هل أصبحت أكثر سعادة مع التقدّم في العمر؟
هاندكه: لا أظن ذلك. اطرحْ هذا السؤال على نفسك.
رومان: في الواقع، أشعر أنني أزداد سعادة مع مرور الزمن، لكنني أخاف من اللحظة التي قد ينقلب فيها كل شيء. هناك الكثير من الشقاء الذي يهدّدنا.
هاندكه: أنت محق تمامًا في أن تخاف من ذلك. لا أريد أن أبدو ككاسندرا (نذير الشؤم)، لكن كل شيء يصبح أصعب فأصعب مع التقدّم في السن.
رومان: هل توجد سكينة ناتجة عن التقدّم في العمر؟
هاندكه: توجد لحظات أكون فيها بشوشًا ومُحبًّا للناس. هل ما زالت هذه الكلمة موجودة؟
رومان: بالطبع.
هاندكه: أحيانًا لا أستطيع التعبير بالألمانية جيدًا، وبالفرنسية أقلّ بكثير، “بشوش أو سهل المعشر أو ودود” كلمة جميلة جدًا. إن كنتُ قد تغيرتُ بفعل العمر، فقد أصبحتُ أكثر بشاشة، لكن أقلّ افتتانًا بالطبيعة. لكنني، في الواقع، أحتاج كلا الأمرين. في الوقت الحالي أميل إلى البشاشة. أما “العودة إلى الطبيعة” على طريقة روسو فقد انتهت بالنسبة لي، منذ أن توقفتُ عن الذهاب إلى الغابات. بل إن الأمر أصبح معكوسًا الآن؛ فالطبيعة تأتي إلينا، ولكن على نطاق ضيق، غير أن الضيق في الطبيعة لا يعني الصِغَر، ففي الطبيعة، الصغير هو الكبير. وربما ينطبق ذلك أيضًا على الإنسان.
رومان: تقول إن الطبيعة تأتي إلينا، لكنك تجلبها إلى منزلك.
هاندكه: يا إلهي، فقط لا تُحوّل الأمر إلى “طبيعية مفرطة”.
رومان: أنت تجمع الأشنات، وهي بالنسبة لك نبتة علاجية، تستخدمها لتخفيف آلام التهاب المفاصل. الأشنات تمثل الطبيعة في أقسى صورها، الشكل البدائي للطبيعة المرئية.
هاندكه: هذا موضوع شيّق، لم أتطرق إليه بعد.
رومان: في السابق، كنتَ تسير كثيرًا وطويلًا في الغابات. هل ضللتَ الطريق أحيانًا هناك؟ وهل تضل الطريق في الحياة أو في الكتابة؟
هاندكه: أعتقد أن مَن يضلّ الطريق، فذلك حسنٌ بالنسبة له.
رومان: بمعنى أنها عقوبة؟
هاندكه: ربما تكون عقوبة، وربما أيضًا نعمة.
رومان: لأنها الطريقة لاكتشاف شيء جديد؟
هاندكه: هذا أمر واضح، ولذلك ربما ينبغي تركه مفتوحًا.
رومان: نشرت مؤخرًا بعضًا من ملاحظاتك في الكتاب النحيف “ثلج الأمس، ثلج الغد”، وينتهي بجملة لافتة: “وقبل ذلك، أو حتى بعده، كان المرء يراه، حتى ولو كان طيفًا، وهو يتعثر مرارًا عبر السهوب، لكن لا أحد يستطيع أن يحدد متى كان لا يزال يسير، ومتى لم يعد يسير”.
هذه الجملة مقتبسة من أَدالبيرت شتيفتر (6)، ولكن هل تنطبق عليك أنت أيضًا؟ هل ترى نفسك وأنت تتعثر عبر السهوب؟ وقريبًا لن تمشي بعد الآن؟
هاندكه: في الوقت الحاضر، نعم. هذه الجملة مكتوبة في الكتاب، وأعتقد أنني لم أكن لأكتبها بهذه الطريقة قبل وقت قصير. ولكن أليست هذه هي حال الجميع؟ في الحانة القريبة من محطة القطار في شافيل، أصبحت منذ زمن الأكبر سنًا. أحيانًا يتوقف أحدهم عن الحضور فجأة، وهذا بالنسبة لي أكثر غموضًا من الموت نفسه. حينها أفكر: ربما هو الآن في “الهادس”، كما في الأوديسة، والليل الذي يحيط بالمرء. ثم، فجأة، يظهر من جديد، وبرفقته صديقة شابة.
رومان: هل تفكر بالموت؟
هاندكه: نعم، بالطبع.
رومان: هل ترتبط بذلك مشاعر حزن لأن الحياة تقترب من نهايتها؟ أم أنك تفكر بالموت بخوف؟
هاندكه: إنه بمثابة امتحان، هل سأتمكن من اجتيازه؟ أسأل نفسي: هل سأنتهي مثل “يَدَرمان” لهوفمانشتال (7)، الذي يتوسل الموت ليمنحه يومًا واحدًا إضافيًّا، أو على الأقل ليلة أخيرة، ثم ساعة أخيرة في النهاية، وكل ذلك بلا جدوى؟ هل يصبح الإنسان هكذا؟ هل يحدث ذلك فعلًا؟ هناك جملة جميلة جدًا: “مباركة الزمن الفاني” (ليمنحه الله الراحة الأبديّة). من يقدر على ذلك! إنها جملة غامضة للغاية، تشبه الترقب. لم يعد هناك مثال أعلى في الموت. يبدو لي الأمر كتحدٍّ. وحدهم السياسيون لا يفكرون في موتهم. ما الموت على أية حال! لم يكن الأمر هكذا دائمًا.
رومان: هل تقلقك حال العالم؟ عالم تسوده أيضًا غفلة عن الكينونة، تتجلى بصورة متناقضة في إنكار الموت؟
هاندكه: أنا أقرأ يوميًا صحيفة “لو باريزيان”، وهي صحيفة رديئة؛ تقارير الحرب في أوكرانيا والسياسة تذكّرني باستمرار بـ”أيام البشرية الأخيرة” لكارل كراوس (8). يمكن للمرء أن يقول الآن إننا نعيش آخر أيام البشرية، وبعدها ستأتي الأيام الأخيرة الأخيرة للبشرية. وكل خمسين سنة تأتي الأيام الأخيرة الأخيرة الأخيرة. سيواصل أحدهم طباعة الصحف. لكن كارل كراوس رأى كل شيء بوضوح منذ زمن: هذا التزاوج والتحالف بين النمسا وبروسيا وروسيا. ملايين الشباب الذين ماتوا آنذاك، كان ذلك بالفعل كان نهاية للبشرية. لم يُتركوا ليموتوا فحسب، بل جُعلوا يموتون.
رومان: هل ترى العالم اليوم في مكان مماثل؟
هاندكه: بالنسبة لي، العالم شيء آخر. أنا أعيش من أجل عالم آخر. ليس عالمًا طوباويًا، بل من أجل العالم القائم. العالم الحقيقي، الموجود. ما تفعله السياسة اليوم هو عالم مضاد للوجود، شكل من أشكال تدمير العالم. وهذا لا ينطبق على الروس فقط. أنا على يقين – رغم أنني أكره أن أقول ذلك – من أن السلام كان ممكنًا في أوروبا، وأن التوصل إلى تسوية في أوكرانيا كان ممكنًا قبل زمن طويل من اندلاع الحرب. أنا متأكد من أن الأوروبيين شجعوا زيلينسكي على خوض الحرب: “امضِ قُدُمًا، نحن ندعمك”. ولأجل ماذا؟ زيلينسكي يضحّي بشعبه، والجميع قد تعب. الشعب يتألم بشدة. يمكن لتلك الأمم أن تذهب إلى الجحيم. أنا أكره الأمم، لدرجة أنه يجب إلغاء الأمم المتحدة، لم يعد لها شيء لتقوله. في كلمة “أمة” لم يتبقَّ أي جاذبية، لم يتبق سوى العنف. لو قالت (دولة) ليختنشتاين: “نحن أمة”، فسأؤيدها فورًا. أو غراوبوندن (كانتون في سويسرا). اعذرني، أبدو متململًا.
رومان: لا يبدو لي أن “متململًا” هو الكلمة المناسبة، بل تبدو كأنك يائس من حال العالم.
هاندكه: نعم، يأس، هذا هو التعبير المناسب. أشعر وكأننا نعيش ببطارية مشحونة بنسبة 10% فقط. هذا هو مدى تدهور حال العالم. وفي الأساس ما عاد ذلك يخصّني بعد الآن، ليس فيما أفعله أو لا أفعله أو ما تخبئه لي الحياة بعد. ومع ذلك، لا أستطيع أن أشيح بنظري، نعم، إنه يأس.
هوامش:
1 – نُشر هذا الحوار باللغة الألمانية في صحيفة “نوي تسورشر تسايتونج” بتاريخ 8 نيسان/ أبريل 2025، وقد أجرى الحوار الصحافي والناقد الأدبي السويسري رومان بوخيلي (مواليد 1960)، والذي يعمل، إضافة لنشره مقالات ومراجعات نقدية وأدبية، ومنذ عام 1996 كمحرر في موسوعة الأدب الألماني.
2 – بيتر هاندكه (1942): كاتب ومترجم نمساوي يعتبر أحد أبرز الأصوات الأدبيّة في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، عُرف مبكرًا بأسلوبه اللغويّ النقيّ والمبطّن بالفلسفة، نال العديد من الجوائز الأدبية عن رواياته ومسرحياته وترجماته ويوميّاته، وكان أهمها جائزة نوبل للأدب في عام 2019. ترجمت أعماله إلى الكثير من اللغات العالمية، ومنها العربية.
3 – (جان بابتيست) كاميّ كورو (1796 – 1875): رسام ونحّات فرنسي.
4 – فرانسيسكو دي زورباران (1598 – 1664): رسام إسباني اشتهر بلوحاته الدينية الكنسيّة.
5 – جوزيف فينكلر (1953): كاتب نمساوي.
6 – أدالبيرت شتيفتر (1805 – 1868): كاتب ورسام وتربوي نمساوي.
7 – مسرحية “يدرمان” أو “كل شخص” أو “الجميع”: مسرحية كتبها المسرحي النمساوي هوجو فون هوفمانشتال (1874 – 1929)، وعرضت لأول مرة في عام 1911، وما زالت تعرض، منذ 104 أعوام، في سالزبورغ النمساوية. ولها عنوان فرعي: لعبة موت الرجل الغني.
8 – كارل كراوس (1874 – 1936): شاعر ومسرحي وكاتب مقالات وناقد نمساوي، له الكثير من الإصدارات التي ترجمت إلى الكثير من اللغات العالمية.
المترجم: عارف حمزة