دفعت “قوة الخوف” من فشل الإدارة السورية الجديدة واندلاع الفوضى والحرب الأهلية إلى الإسراع في رفع العقوبات
ملخص
لن يحدث تدفق استثمارات على بلد يحتاج إلى نحو 500 مليار دولار لكي يعود لما كان عليه قبل عام 2011 من دون نظام قضائي فاعل وضمانات قوية لحقوق الإنسان والحريات الاجتماعية وحرية تحويل الأموال.
في كتاب جيروم دريفون “من الجهاد إلى السياسة” شيء من اليقين بالنسبة إلى قدرة “هيئة تحرير الشام” الجهادية السلفية على التحول إلى حركة سياسية من دون التخلي عن البندقية. لكن الأسئلة المثارة هذه الأيام والتي قد يمر وقت طويل قبل الحصول على أجوبة موثوقة عنها، هي عن مسار التحول الذي مارسه “أبو محمد الجولاني”. هل بدأ في السجن الذي أدارته القوات الأميركية في بغداد أم في مرحلة ما بعد “جبهة النصرة” والقطع مع قيادة “القاعدة”؟، وهل كان للسفير الأميركي السابق روبرت فورد دور فعلي في التحول خلال لقاءاته مع “الجولاني” في إدلب أم أن ما أسهم في التحول البطيء مسلسل لقاءات وحوارات وترتيبات قام بها مع “أمير إدلب” وزير الخارجية التركي الحالي هاكان فيدان الذي كان رئيساً للاستخبارات، والبروفيسور إبراهيم قالين رئيس الاستخبارات الحالي الذي كان مستشاراً للرئيس رجب طيب أردوغان؟
مهما يكُن، فإن الرجل انتظر حتى الوصول إلى دمشق مع سقوط نظام بشار الأسد لاستعادة اسمه الفعلي أحمد الشرع. وما حدث ويحدث على الأرض خارج خطاب الشرع يطرح أسئلة عن حقيقة التحول لدى قادة وقواعد في فصائل جهادية سلفية انضمت إلى وزارة الدفاع وارتكب بعضها مجازر في حق الأقليات، ومارس بعضها الآخر التضييق على الحريات الاجتماعية في المطاعم والمقاهي والملاهي وثياب النساء.
وليس الدعم الأميركي والسعودي والقطري والإماراتي والتركي، بصرف النظر عن التصورات والتفاصيل، سوى رهان على فرصة مفتوحة ومواجهة خطر يلوح في الأفق. فما يلتقي عليه الأميركيون والعرب والأتراك والأوروبيون هو الاعتماد على ما يريد ويستطيع الرئيس الشرع تقديمه، وموجزه في ثلاثة أمور. أولها إبقاء إيران خارج سوريا وأي نفوذ فيها، وإغلاق الممر السوري لتهريب الأسلحة الإيرانية إلى “حزب الله” في لبنان، إذ ما لا تقصفه إسرائيل من الصواريخ تتولى أجهزة الأمن السورية ضبطه ومصادرته. وثانيها الحفاظ على الأمن وتحقيق العدالة الانتقالية وضرورة الانفتاح على تنوع المجتمع السوري والبحث عن أصحاب المؤهلات بدلاً من أصحاب الولاءات من دون خبرة ولا كفايات. وثالثها الانتقال من “اقتصاد الشلة” في ثياب “اقتصاد اشتراكي” مزيف إلى الاقتصاد الليبرالي والانفتاح على العرب والغرب بعد عقود من تقليد موسكو وطهران والوقوع في كابوس حصار اقتصادي وعقوبات، مما جعل 90 في المئة من السوريين عند خط الفقر وتحته.
أما الذي تريده إدارة الرئيس دونالد ترمب، فإنه ترتيب علاقات بين سوريا وإسرائيل. وأما الذي يدفع إلى الإسراع في رفع العقوبات وبدء الدعم، فإنه “قوة الخوف” من فشل الإدارة السورية الجديدة واندلاع “الفوضى والحرب الأهلية” خلال أسابيع، كما قال وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو أمام الكونغرس دفاعاً عن رفع العقوبات. لكن الباقي على الإدارة السورية الجديدة. فلا تدفق استثمارات على بلد يحتاج إلى نحو 500 مليار دولار لكي يعود لما كان عليه قبل عام 2011 من دون نظام قضائي فاعل وضمانات قوية لحقوق الإنسان والحريات الاجتماعية وحرية تحويل الأموال. ولا رهانات على تنمية اقتصادية من دون قوانين توضح نوع النظام، هل هو ليبرالي أم نيوليبرالي؟ وما هي ضمانات التشاركية والخصخصة ومدى التخلي عن القطاع العام لمصلحة القطاع الخاص السوري والعربي والدولي؟
التتريك سياسة قديمة حديثة تثير هواجس لدى السوريين
مفهوم أنه لدى الإدارة السورية الجديدة خيارات سياسية واقتصادية واجتماعية محددة من نوع تجربة الحكومة في إدلب. لكن هذه الإدارة محكومة بالذهاب إلى خيارات أخرى لم تكُن تؤمن بها ولا خبرة لديها في تسييرها. ولا مهرب من الانفتاح على مواهب من خارج إطار النظرية الخطرة التي عنوانها “من يحرر يقرر”، ذلك أن القرارات المعلنة تحت ضغط الخارج والرأي العام السوري لا تزال مجرد عناوين من دون فاعلية لأية لجنة أو هيئة، من العدالة الانتقالية إلى البحث عن المفقودين والكشف عن المقابر الجماعية، ومن التحقيق في مجازر الساحل إلى الوقف الفعلي للفصائل التي تتصرف على مزاجها كأن السلاح هو القانون، وكأن كل من ليس من الأكثرية هو “كافر” يجب قتله. والأساس هو إعادة الاعتبار إلى الرجال والنساء والشبان والشابات الذين بدأوا الثورة السلمية الجامعة في الشارع، بالتالي إعادة الاعتبار للثوار وشعار”الشعب السوري واحد”، وسط المفاخرة بالثورة والتركيز على الفصل الأخير فيها. فالثورة هي التي دفع السوريون ثمنها اعتقالاً وقتلاً ودماراً ونزوح نصف الشعب عن مدنه وبلداته وقراه وبيوته، والثوار ليسوا فقط الذين نفذوا الضربة الأخيرة لإسقاط نظام انهار على مراحل من دون أن يدافع عنه جيش من مئات الألوف لا يزيد راتب العسكري فيه على 10 دولارات شهرياً.
وليس أهم من الثورة سوى بناء الدولة، فالثورة الدائمة التي كان يصر عليها تروتسكي تعرقل قيام الدولة وتفتح طريق الصراعات والحرب الدائمة. وأخطر وضع في أي بلد فازت ثورته هو أن يصبح في حال هجينة، لا هو نظام، ولا هو دولة، ولا هو بقي ثورة.
حتى ستالين كان يحذر من “دوار النجاح”.