Skip to content

السفينة

alsafina.net

Primary Menu
  • الرئيسية
  • الأخبار
  • افتتاحية
  • حوارات
  • أدب وفن
  • مقالات رأي
  • منوعات
  • دراسات وبحوث
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • الأرشيف
  • Home
  • حوار جدلية مع الروائي مازن عرفة حول روايته الجديدة (ترانيم التخوم) مازن عرفة…المصدر: جدلية
  • حوارات

حوار جدلية مع الروائي مازن عرفة حول روايته الجديدة (ترانيم التخوم) مازن عرفة…المصدر: جدلية

khalil المحرر يونيو 5, 2025

 

[كاتب وباحث سوريّ (مواليد العام 1955) مقيم في ألمانيا. حائز إجازة في الآداب، قسم اللغة الفرنسيّة من جامعة دمشق، ودكتوراه في العلوم الإنسانيّة، قسم المكتبات، من جامعة ماري كوري (لوبلين، بولندا). بالإضافة إلى روايته «وصايا الغبار» (2011)، صدرت له «الغرانيق» (2017) عن دار نوفل، كما له مجموعة من المؤلَّفات من ضمنها: «سحر الكتاب وفتنة الصورة» و«تراجيديا الثقافة العربيّة»].

 

جدلية (ج): كيف ولدت فكرة رواية “ترانيم التخوم”؟ ما هي منابعها وروافدها، ومراحل تطوّرها؟

مازن عرفة (م. ع.): الرواية هي حلقة جديدة في سلسلة مشروعي الروائي عن “الحكاية السورية”، الذي أعمل عليه منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، وقد أخذ يتطور ويتبلور مع الزمن في محورين إثنين متشابكين. ابتدأ المحور الأول مع رواية “وصايا الغبار” (دار التكوين ـ دمشق، 2011)، ومروراً بـ”الغرانيق” (دار هاشيت ـ بيروت، 2017)، و”سرير على الجبهة” (دار هاشيت ـ بيروت، 2019) وليس انتهاء بـ”داريا الحكاية” (ميسلون للثقافة والترجمة والنشر ـ باريس، 2023). أما المحور الثاني فقد ابتدأ بـ “الغابة السوداء” (رامينا للنشر ـ لندن،2023)، ومستمر فيه بروايتي الجديدة هذه “ترانيم التخوم”. يُركز المحور الأول على “حكاية السوري” في سورية نفسها كـ”منفى داخلي”، في ظل قساوة الاستبداد العسكري والديني، ومحاولاته التمرد ضدهما. أما الثاني فيتابعها في “بلاد المنافي”، حيث تم تهجير السوري قسرياً، ضمن مشاريع التغيير الديمغرافي التي تنال منطقتنا. والتشابك يرتكز بشكل أساسي على فكرة أن “المنفى” يعيش فينا وحولنا، أينما تواجدنا، ما دامنا لا نشعر بأننا في أرضنا، ونعيش فيها بإنسانيتنا وكرامتنا.

يسعى مشروعي الروائي إلى محاولة الحفاظ على “حكايتنا السورية”، روائياً وثقافياً وأنثروبولوجياً، في أصالتها الإنسانية المتجذرة في بيئتها، ومن أجل استمرارها بحداثة مستقبلية. بهذا أحاول إيجاد المعنى لوجودنا الإنساني والحضاري، بالغنى الحياتي والتفاصيل اليومية لتعددية المكونات الثقافية في بيئتنا. ما يدفعني إلى هذا المشروع هو خطر التهديد الذي يهدف إلى تشويه أصالة “الحكاية السورية”، بل ومحاولات تدمير مكوناتها الثقافية والأنثربولوجية والبيئية، بتعدديتها مادياً وروحياً، وبالتالي إعادة توثيقها روائياً بطرق إبداعية، تستند إلى الفانتازيا بشكل أساسي، محاولاً نقلها من المحلية إلى الكونية.

يتمثل التهديد الأول لـ”الحكاية السورية” برمزية “البوط العسكري”، والثاني برمزية “السيف الإسلامي”. وإذ يستمد الأول استبداده من بقايا “عبادة الفرد الستالينية” و”العسكرة”، المتجذرة والمتجددة باستمرار في مجتمعاتنا، والثاني من “التخريفات الوحشية الصحراوية”، بميثولوجياتها الدينية الغيبية، فإن الإثنين يشتركان بأصولهما معاً في عدة بنى متجذرة في بيئتنا، ويتبنيانها معاً، لا فرق بينهما:

ـ “الاستبداد الشرقي”.

ـ “عنف الترييف المناطقي”.

ـ “عبادة الفرد”، المؤله دينياً.

ـ “عقلية البداوة والغنيمة والسبية”، و”التعفيش” بشكلها الحديث.

ـ “عقلية التفوق الديني/ الطائفي وتمايزه” بالاستناد إلى ميثولوجيات دينية وعرقية وأصولية.

ـ الدعوة اليومية للعنف عبر “العسكرة المؤسساتية والدينية”.

ـ “احتقار الفرد ودونيته” في التعامل معه، بعيداً عن أي شكل ديمقراطي، وفي ظروف انعدام الحرية.

ـ “التدمير المادي والمعنوي” للغنى الثقافي والأنثروبولوجي والإنساني التعددي للمكونات المجتمعية، المتأصلة فيه تاريخياً.

والمشكلة في هذين الخطرين أنهما لا يسعيان فقط إلى تدمير البنية المادية والثقافية للعمران القائم، بل وإلى “التغيير الديموغرافي القسري” باستقدام عناصر خارجية هجينة، سكانياً وبنى مادية (سواء باسم العسكرة الطائفية، أو قبيلة الصحراء الوهابية، أو التشييع). وهو ما يؤدي إلى تدمير روح التسامح والانسجام للتعددية السائدة تاريخياً في منطقتنا.

أما عن منابع “الحكاية السورية” وروافدها في رواياتي جميعها، فهي تفاصيل الحياة اليومية التي أعيشها بشكل مباشر، أو أعرفها عبر المرويات التوثيقية. أعبر عنها دائماً براوي “ضمير المتكلم الأنا الفردي/ الجمعي”، المندمجين معاً في الوقت نفسه، حتى بتعددية الشخصيات في الرواية الواحدة. يدفعني إلى هذا ليس فقط أن “ضمير المتكلم” هو الأقدر على التعبير عن مكنونات النفس البشرية ومشاعرها العميقة، بل و”الفرد” نفسه في بيئتنا هو نتاج التراكمات الاجتماعية الجمعية نفسها، خاصة العنفية منها، بنتائجها المدمرة للحياة الإنسانية، فيبدو مُمثِلاً بطريقة أو بأخرى لرؤى جمعية.

لكن سردية الروايات جميعها تتجاوز الوقائع المباشرة ووثائقيتها إلى نوع من المخيال الفانتازي في إعادة بنائها وتطويرها، مستنداً بشكل أساسي إلى “واقعية سحرية محلية”، تغوص في عوالم أحلام اليقظة والكوابيس والتنقل بين “عوالم متعددة”، يجمع تفاصيلها نوع من المونتاج السينمائي الحُلمي.

في “ترانيم التخوم” يُرمى بطل الرواية (الذي يمثلني بطريقة ما)، المُهجر من بيئته الشرقية الدافئة الحميمية، والمقتلع منها عنفياً، في بيئة غربية مغايرة، باردة عاطفياً وإنسانياً، فيشعر بالضياع الوجودي فيها. لكن ضياعه يزداد تحت ثقل الشعور والصدمة بانتقاله من مجتمع غيبي منغلق، متخلف علمياً وتقنياً، إلى مجتمع حضاري متقدم ومنفتح، لكن الفرد فيه يفقد ذاتيته بتحوله إلى جزء من آلية إنتاجية ضخمة، يعمل الجميع في أطرها بجنون، ويستهلكون بجنون، خاصة عوالم الصورة المعاصرة المعولمة.

تنحل، في النتيجة، البلاد التي قدم منها البطل شيئاً فشيئاً إلى نوع من الذكريات الضبابية المبهمة الغامضة، كحنين مفتقد، لكن الاستبداد والحروب دمرت أي أرضية مادية لها (فيما لو تنسى له العودة، فلن يجد شيئاً سوى الخراب والدمار، أي العدم). لكن في ظل عطالته الإنتاجية في المجتمع الجديد، وعدم قدرته إلى الاندماج فيه، ينسحق ويذوي، ليشعر شيئاً فشيئاً أنه مشلول الإرادة، كما لو أنه يعيش في “محاكاة إلكترونية” حتمية، لا يستطيع الفرار منها. ومن ثم يدرك أنه يتحول فيها حقاً إلى صورة صغيرة في عالم صورها الهائلة، دون وجود إمكانية أي شكل ما من المقاومة أو التمرد.

من هنا انطلقت فكرة الرواية.

(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسة، ما هو العالم الذي يأخذنا إليه نص رواية “ترانيم التخوم”؟

(م. ع.): مع إن سردية الأحداث في رواياتي تبدو بسيطة سهلة، مندمجة في تفاصيل الحياة اليومية، إلا أنها تستند في كل واحدة منها على رؤية فلسفية محددة، في محاولة للبحث عن إجابات عن معنى حياتنا عبر “الحكاية”، انطلاقاً من المحلي إلى الكوني، في إطار الأسئلة الوجودية الكبرى (من أين؟ وكيف؟ ولماذا؟ وإلى أين؟). بالطبع، لا الأديان بغيبياتها ولا الفلسفات بمناهجها الاستقرائية استطاعت تقديم إجابات مقنعة، وإن كان العلم وتجريبيته يقاربان معرفة الوجود بشكل أفضل دون مجال للمقارنة. على الرغم من ذلك، لا بد من التساؤل دائماً عن “المعنى”، خاصة على أرضية الاكتشافات العلمية الجديدة المستمرة، في محاولة تأطير الأحداث التي نعيشها بمعنى إنساني وجودي بإجابات ما أفضل، وإن كانت استيهامية، إنما تجعلنا نتقبل حياتنا وننسجم معها. وهو ما أسعى إليه في رواياتي.

تتحدث “ترانيم التخوم” عن حياة مُهجّر حرب “سوري”، يعيش على حواف التخوم الهلامية اللامرئية المترجرجة بين عالم واقعي بارد قاس، يفتقد دفء العلاقات الإنسانية، وعالم محاكاة افتراضية قسرية، قائم في بنيته على استيهامات الصور الإلكترونية. بهذه التخوم المتراقصة يتداخل العالمان حوله متشابكين، بحيث يصعب عليه الفصل بينهما، وبالتالي معرفة موقعه فيهما، فيفقد بالنتيجة الإحساس بالواقع، بل وحتى الإحساس بذاتيته ووجوده. وبمقدار ما تنغمر حياته اليومية أكثر في استيهامات صور المحاكاة الإلكترونية، ينفصل بشكل أعمق عن العالم الواقعي، ليغرق ضائعاً في متاهة “عود أبدي نيتشوي”، يتكرر فيها زمنه الحاضر بالأحداث نفسها، ويرافقها بالنتيجة السأم والإحباط وتبلد المشاع. تتحول حياته عندئذٍ إلى سلسلة من الكوابيس الكافكاوية المُدمرة، التي لا يعرف إن كان يعيشها حلماً أم واقعاً.

تستند فكرة “العود الأبدي” لدى نيتشه على دائرية الزمن الحاضر المستمر دائماً، وليس على التتابع الزمني الحدثي السببي، بماضٍ وحاضر ومستقبل. يغدو الزمن النيتشوي حاضراً أبدياً، بحدث (أو أحداث محددة)، يتكرر بشكل لانهائي في دائرة مغلقة، حيث اللحظة الأبدية المعاشة بالرتابة نفسها هي البداية والنهاية، هي الأصل والهدف معاً. بالتالي، لا يعود هناك معنى لتقسيمات الزمن؛ لا ليل ونهار، ولا صباح وظهر ومساء، ولا حتى تتالي أيام أو فصول أو سنوات، إنما مجرد حدث يتكرر بالرتابة نفسها، في إطار حاضر أبدي. بذلك يعيش الإنسان حتمية لا يعيها، وقد غدا متبلد الأحاسيس والمشاعر، يفتقد معنى وجوده، وإمكانية تحديد هدف له. يبدو الزمن هنا إلهاً مطلقاً متوحشاً، من الصعب تحديه وكسره، من أجل الانفلات من أسره. لكن عبثية الوجود هذه تتفاقم، عندما تندمج أحداث “العود الأبدي” في سيرورات محاكاة إلكترونية (كونية) مصممة سلفاً، كي يعيشها الفرد بتكرارها ورتابتها دون أي تفكير أو مشاعر. عبر هذا الاندماج، يمكن فهم سيرورة الأحداث في الرواية.

يصل بطل الرواية إلى المنفى القسري، دون أي مورد مالي يحمله من بلاده، لا يمتلك سوى ملابسه ودماره الروحي والنفسي. وبما أنه متقدم في العمر، فلا يحق له الحصول على دورات لغة مجانية، الممنوحة فقط للمؤهلين للدخول في سوق العمل، ضمن عملية إدماجهم في المجتمع الجديد. لكن بما أنه وصل كلاجئ حرب إلى دولة حضارية، تحترم حقوق الإنسان، فيتم منحه سكناً بسيطاً من غرفة وحيدة، ومعونة شهرية في حدها الأدنى، بالكاد تؤمن له احتياجات الطعام، فهو لم يكن بالأصل دافع ضرائب من عمل ما في هذه الدولة، كي ينال راتباً تقاعدياً.

بعكس الحياة في بلاده المنكوبة، تضمن دولة المنفى لهذا المهجر الحرية والكرامة، في ظل دساتير وقوانين إنسانية تحميه. لكنه يعيش وحيداً في عزلة اجتماعية خانقة، مفتقداً الحياة الإنسانية الحميمية والاجتماعية التي كان يعرفها في بلده المشرقي. يصدمه هنا المجتمع بحياة أفراده المكرسة لعمل طويل قاس، من أجل الحصول على مردود مالي عالي، يتناسب مع متطلبات الحياة الصعبة. في حين تقتصر راحتهم على عطلة نهاية الأسبوع وعطلة سنوية قصيرة، يقضونها وحيدين (غالباً ما تكون الأسرة مفككة والعلاقات الإنسانية الحميمية وقتية ومتبدلة باستمرار). المتعة الأساسية في حياتهم هي متعة التسوق والاستهلاك اليومية، التي لا تقتصر فقط في عصر العولمة الاقتصادية على المنتجات المادية، وإنما أيضاً وأساساً على المنتجات الرمزية الرقمية من عوالم الصور الإلكترونية، التي يتم عرضها وبيعها عبر أدوات التواصل الاجتماعي والمنصات الدعائية، ويصل استهلاكها إلى حد الإدمان.

يجد المهجر ملاذه في وسائط الاتصال الاجتماعي، يستيقظ يومياً في وقت متأخر، ليبدأ نهاره في السرير بتصفح هاتفه المحمول؛ “الفيس بوك”، و”الماسنجر”، و”الواتس آب”، و”البريد الإلكتروني”. ثم ينهض ويمارس بعض الحركات الرياضية المتكاسلة، وهو يشاهد أخبار “اليوتيوب” على شاشة كبيرة معلقة على الجدار. صحيح هو وحيد في الواقع الفعلي، لكن لديه في العالم الافتراضي عدد هائل من الأصدقاء، الذين يتواصل معهم في إطاره، إنما لا يعرف إن كانوا شخصيات حقيقية أم مجرد منتجات إلكترونية وهمية، فمعظمهم دون صور شخصية تميزهم.

في أثناء تصفح المواقع الإلكترونية، يغمره فيض هائل من المعلومات الدعائية المشتتة والمبعثرة، تتركز بمعظمها على الدعوة إلى التسوق والشراء، مع إمكانية إيصال المنتجات إلى المنزل مباشرة وسريعاً. وهي لا تقتصر فقط على أطعمة وملابس وأجهزة، بل وأيضاً عروض جنسية، مع تأمين وصول المنتج حسب الطلب (امرأة أو أكثر، أو حتى رجل لمن هو مثلي) إلى منزله مباشرة، وبأسعار محددة حسب مدة الاستخدام، المحسوبة بالساعات.

يتم قضاء النصف الثاني من النهار في النزهة اليومية في الحي قرب المنزل. يشاهد في الشارع أناساً عديدين، لكن بعكس عالمه الشرقي، لا يستطيع التوصل مع أحد منهم، فكل منهم منشغل بنفسه وبعالمه الخاص. وهرباً من الملل ولتمرير الوقت يتحول من المراقبة إلى عد كل ما هو متحرك حوله؛ الناس، السيارات، الحيوانات على ضفة النهر. وينهي نزهته في مركز التسوق، دون أن يشتري شيئاً، فليس لديه وفرة في النقود، كي يمارس هذه الرفاهية.

بما أن النزهة تتكرر كل يوم بالمشاهد وبالأحداث الرتيبة نفسها، دون أي احتكاك إنساني، يتحول كل شيء حوله إلى عالم سطحي لا يمكن اختراقه، ومن ثم إلى مجموعة من الصور الثابتة والمتحركة. وعندما يصل إلى منزله، يكتشف أنه مبني كله مع أثاثه من الصور، بما فيه طعامه. يشعر في النهاية أنه من الممكن أن يكون هو نفسه صورة، فلا يجرؤ على النوم خوفاً من انطفائه. لذا، يقضي ليله أمام شاشة تلفاز ضخمة معلقة على الجدار، مفتوحة على منصات سينمائية، ومواقع تسلية عديدة، فيغوص في عوالمها الوردية. وبما أن عوالم الشاشة أغنى وأجمل، تحمل له الاكتشاف والحميمية الإلكترونية (منتجعات سياحية، فنادق فخمة، شواطئ عراة، حفلات مع نساء حميميات)، يقرر إلغاء النزهة اليومية، والسفر في عوالم الشاشة، والانتقال للعيش فيها. يختفي عندئذٍ الزمن من عالمه؛ الليل والنهار، الأيام والأسابيع والأشهر، ويغرق في عوالم الصورة بكل حسيتها الحميمية، بـ”عود أبدي” نيتشوي. وتنمحي بالتالي ذكريات البلاد التي قدم منها، ثم يتحول هو نفسه إلى صورة في المحاكاة.

(ج): كتابُك الأخير رواية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًا بذاته تأثير فيما تريد قوله، وما هي طبيعة هذا التأثير؟

(م. ع.): منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، أنهيت دراسة الدكتوراه في بولندا، باختصاص علم المكتبات وعلم الكتاب، وأنجزت مجلداً مرجعياً في هذا المجال بعنوان “سحر الكتاب وفتنة الصورة؛ من الثقافة النصية إلى سلطة اللامرئي” (دمشق 2007). ركزت فيه على أن الكتاب الورقي سينتهي في مستقبل قريب، أمام تسارع تطورات عوالم الميديا التي تسيطر على حياة المجتمعات المعاصرة بأكملها، وأنه سيأفل كما انتهى دور المخطوط المكتوب باليد أمام ثورة الطباعة. وعلى الرغم من الحديث أن التقنيات الإلكترونية تساعد حالياً على نشر الكتاب الورقي وازدهاره، فإن هذا النجاح وقتي، بل حتى إن النشر الإلكتروني الحالي ذاته سيصبح قديماً أمام ثورات تقنية قادمة، من بينها استحضار المعلومات وانتقالها هولوغرامياً.

من الناحية العملية فإن معلومات الكتب التخصصية في مختلف المجالات العلمية والاقتصادية أخذت تفقد جدتها سريعاً. والتسارع هنا مذهل حقاً ويحدث يومياً باكتشافات متتالية، فيما قد تصبح معلومات السنة الماضية خاطئة أمام الجديدة الحالية. لم يعد يستطيع الكتاب الورقي ملاحقة الجديد العلمي والمعرفي، فوسائط الاتصال الاجتماعي الإلكترونية تقدم المعلومات المكتشفة البارحة. وعلى الرغم من أهمية التحليل المنهجي الذي تقدمه نصوص الكتاب الورقي، فإنه لم يعد يصمد أمام الوسائط الإلكترونية الحديثة بأشكالها السمعية ـ البصرية. لهذا يفقد أهميته أكثر فأكثر مع الزمن، وربما يختفي بالكامل بشكل مفاجئ.

على عكس الكتب التخصصية، تصمد الرواية وتزدهر منذ القرن التاسع عشر، فليست وظيفتها تقديم المعلومات الجديدة، وإنما سبر أعماق النفس البشرية ومحاولة إيجاد معنى للوجود الإنساني. وهذه الرؤى السردية لا تموت، بل تتراكم وتتجدد بتنوع التجارب الإنسانية. بل وأخذت الرواية تستوعب أشكالاً تعبيرية مختلفة (نصوص شعرية، مسرحية، علمية…). وهذا ما يفسر بعضاً من صمود الرواية كشكل إبداعي، وإن أصبحت تنحو إلى الأحجام الصغيرة بسبب افتقاد وقت القراءة أمام ضغوطات العصر. يحدث هذا على حساب الشعر الذي يفقد شعبيته، ويتحول إلى نصوص نخبوية. لذلك بعد كتابين فكريين (“سحر الكتاب وفتنة الصورة”، و”تراجيديا الثقافة العربية”)، قررت أن أتجه للرواية بالكامل، التي تسمح لي ليس فقط بالتعبير عن رؤيتي للمشاعر الإنسانية ومعاناتها، بل وطرح أفكار عن التساؤلات الوجودية (من أين؟ وكيف؟ ولماذا؟ وإلى أين؟). وإن كنت أنطلق من “الحكاية السورية” في بعدها الإنساني المحلي، فإن هدفي النهائي هو الوصول بها إلى كونية إنسانية شاملة بتعبيراتها الإنسانية.

ألجأ إلى الرواية الآن، الأكثر تعبيراً وقدرة على الصمود والانتشار من بين الأنواع الكتابية الأخرى، والتي ما تزال طباعتها تحافظ على جماليات الغلاف، ومتعة لمس الورق وتقليب الصفحات…. لكن الِأجيال المستقبلية القادمة لن تقرأ رواية ورقية، بل ستنتقل إلى أشكال إلكترونية مغايرة، حتى عن الأشكال السائدة الآن، وعلى رأسها الرواية الهولوغرامية بمؤثراتها السمعية ـ البصرية. سيصبح القارئ نفسه شخصية في رواية سمعية ـ بصرية، ويتحكم بسردية الأحداث وتوجيهها عبر احتماليات اختياراته.

وبسبب تشرد المثقفين السوريين في المنافي، والأوضاع المضطربة التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط، فإن القليل من يفكر الآن بشراء كتب وتجميعها. أنا، على سبيل المثال، فقدت مكتبة شخصية ضخمة، عربية وفرنسية وبولونية، في سورية، جمعتها منذ طفولتي. وآخر الأخبار أن الأهل والأصدقاء أحرقوها في الشتاءات القارسة وتدفؤوا عليها، وخاصة أنها كانت تحوي على مجلدات ضخمة، وذلك في غياب أدنى مقومات الحياة في ظل الأنظمة القمعية المتتالية في سورية، ومثلها الكثير من المكتبات. بالمقابل بدأت أجد أن النص الإلكتروني هو أسهل للقراءة وللحفظ والنسخ والنقل، ويشاركني بذلك الكثير من المثقفين القراء.

(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟

(م. ع.): التحديات ليست في الكتابة، التحديات هي في طبيعة الحياة غير المستقرة التي نعيشها، والوحشية التي تحاصرنا، وتجعلنا نكتب باضطراب. ومجابهة هذه التحديات بالنسبة لي تتم بالكتابة. أكتب دائماً بضمير المتكلم ـ الأنا، أكتب عشوائياً ما أشاهده، وما أعانيه، أكتب ذكرياتي وأحلامي، أكتب كثيراً من النصوص، وأكتشف أني أكتب عدة روايات معاً. ثم أجد طريقة لاستخلاص رواية ما منها عندما تكتمل واحدة منها. على سبيل المثال، كتبت “الغابة السوداء” و”داريا الحكاية” معاً، ثم اضطررت لفصل الأقسام المتداخلة في روايتين، حتى وجدت ناشرين لهما. وحدث هذا بين “الغرانيق” و”سرير على الجبهة”… وحدث أخيراً بين “ترانيم التخوم” والرواية القادمة. وعندما كتبت الرواية الأولى “وصايا الغبار” بدأت الفصول عشوائياً دون أي ترتيب منطقي، ثم انتظمت لوحدها. وبما أنني أكتب بتقنية أحلام اليقظة والكوابيس والهلوسات والرؤى الداخلية، ثم أقوم بجمعها بمونتاج سينمائي، تظهر الرواية في النهاية بطريقة غير تقليدية، صادرة عن سارد الأحداث ضمير المتكلم ـ الأنا (الذي هو “فردي” و”جمعي” في الآن ذاته).ولذا يمكن التعرف في أحيان كثيرة على نفس الأفكار والمقاطع والجمل، في مواقع عديدة من رواياتي.

لكن التحديات الأكبر هي في النشر… ومع ذلك أجد في النهاية ناشراً مميزاً، وإن كان ذلك بصعوبة.

(ج): هل هناك نصوص كانت لها تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟

(م. ع.): جاءتني فكرة “العود الأبدي” لنيتشه من متابعة المسلسل الألماني الأشهر عالمياً والأصعب على الفهم “دارك”، الذي يتحدث عن التنقل بين العوالم الكونية المتعددة، مما دفعني إلى قراءة نصوص إلكترونية عن نيتشه والمحاكاة الكونية. لكن المرجع الأساسي لروايتي كان سلسلة طويلة من الأفلام العلمية الوثائقية وأفلام الخيال العلمي الروائية (موضة عصرنا السينمائية الآن)، المتوافرة خاصة على “نتفليكس” واليوتيوب، أشاهدها يومياً ومازلت؛ عن “النظرية النسبية” والفيزياء الكوانتية”، ومتفرعاتها من “الواقع الافتراضي” و”المحاكاة الكونية”، “العوالم المتعددة”، و”الأكوان المتوازية”، “ونظرية الأوتار الفائقة”، و”الثقوب السوداء”… وهو ما يمكن التقاطه بوضوح في روايتي.

شاهدت بعض الأفلام عن “مجتمع الميم” على منصة “نتفليكس، لكن الاحتكاك المباشر مع أفراد من هذه البيئة أو من أفراد الجمعيات المدافعة عن حقوقهم كان الأهم (وهو بعض ما يشغل الغرب حالياً ضمن مفاهيم العلاقات السائلة، حسب تعريف الفيلسوف زيجمونت باومان)، مثلها مثل الاحتكاك مع أفراد الكنائس المسيحية ـ اليهودية التي تنشط في أوساط المهجرين، ومع أصدقائي من المجموعة الأدبية الألمانية في بلدتي، والتي أنتمي إليها، ومجموعات من الشبان الألمان والمهاجرين السوريين. وبالمناسبة فإن شخصية الشاب الذي غرق في مركب مهربين مقابل السواحل التركية نجا بأعجوبة هو ابني (ومعهما ابنتي ووالدتهما)، الذي لم أعلم بقصتهم إلا بعد لقائي بهم في ألمانيا بعد سبع سنين من الغياب، بسبب أحداث “الثورة السورية”.

إضافة إلى ذلك، عادة ألجأ عند استيقاظي من النوم إلى تسجيل ما أتذكره من “أحلامي / كوابيسي”، وهي تترك أثراً كبيراً في رواياتي. والفصل الأخير من “ترانيم التخوم” هو سلسلة من هذه “الأحلام / الكوابيس”، التي كانت تراودني وأنا أفكر بفصول الرواية، وأنا نائم… والحقيقة إن ترانيم التخوم هي ترانيم ضياعي على حافتي عالمين أعيشهما؛ الغربة الروحية ـ النفسية التي أعيشها في ألمانيا، والكوابيس التي ترافقني هنا (بغض النظر عن مشاعر الأمان والاحترام الإنساني والحرية التي تقدمهم لي دولة حضارية، مثل أي مواطن ألماني فيها، ولم تقدمه لي بلدي لي أبداً) وبين الغرق بوسائط الاتصال الاجتماعي، التي يؤمنها هاتف محمول صغير، وشاشة منصات سينمائية، في عالم العزلة الغربية.

“أنا وحيد عملياً، ولكن لدي المئات من الأصدقاء الافتراضيين الذين لا أعرفهم سوى على الفيس بوك والواتس آب، وربما هم غير موجودين نهائياً سوى كاستيهامات إلكترونية”.

(ج): ما هو مشروعك القادم؟

(م. ع.): ستصدر في هذا العام روايتي السابعة بعنوان “نزوة الظلال والاحتمالات”، وهي تتحدث عن ديكتاتور ديني/عسكري، عابر للأزمنة والأمكنة، والأفكار والرؤى، يجد أصوله في أساطير الصحراء العربية القديمة، ومكتوبة بطريقة فانتازيا استيهامية خيالية. وهي ذروة أعمالي بعد “ترانيم التخوم”.

مقاطع من الرواية

ـ “أحضر الاجتماعات الشهرية للجمعية، وأنا أشعر بغربة شديدة، إذ بالكاد أعرف اللغة، كي أفهم ما يحدث حولي. تزداد الغربة بنوعية بعض شرائح المجتمع الألماني الموجودين فيها؛ مثليين، سحاقيات، لاجنسيين (لم أكن أعرف بمثل هذا التصنيف الأخير سابقًا)، ومتشددين مسيحيين على نحو مرضيّ (أستغرب وجودهم في مجتمع أوروبي متقدم)، وعنصريين ضد المهاجرين، وزوجين يهوديين، متعصبين لإسرائيل، ونساء وحيدات تكتفين بالحياة مع كلابهن، بعيدًا من علاقات إنسانية مع الجنس الآخر (تحضر كلابهن الاجتماعات معنا)، ومنزويين انعزاليين، كأنهم فقدوا القدرة على الكلام مع أحد. لكن يوجد أيضًا أعضاء متشبعون بالانفتاح على الثقافات الأخرى، وقبول الأجنبي بينهم”.

ـ “في البداية، كان سحر “غرائبية شرقيتي” تشدهم. تتبخر هذه النظرة “الاستشراقية”، المستقاة من القرن التاسع عشر، مباشرة بعد اللقاء الأول، فنحن نعيش في عالم “القرية الإلكترونية”. هم يعرفون العربي الآن، عبر المحطات التلفزيونية الفضائية، والوسائط الإلكترونية الأخرى، والأهم عبر موجات الهجرة المستمرة إلى بلادهم. لكن تصورهم عن بلادي يبقى فيه خليط من “أفكار استشراقية” مسبقة، متوارثة عبر الأجيال، مع رؤى معاصرة عن “استبداد دكتاتوريات”، و”تعصب إسلامي”، و”استعلاء ذكوري””.

ـ”منذ زمن بعيد، سألني طفلي الصغير، ذو الأعوام الأربعة، وهو يتأمل السماء “إذا كان الله موجودًا في السماء، فلماذا لا يقع على الأرض؟”. سألني هذا السؤال بعفوية وبساطة سؤاله نفسها، عندما كنا نسير في الشارع ظهرًا، وصوت المغنية “فيروز” يصدح من مذياع أحد الحوانيت “لماذا تغني الآن فيروز، والوقت ليس صباحًا؟””.

ـ”لا أتذكر من حوادث نهاري إلا مجرد صور مجسمة. والصور نفسها تتكرر كل يوم، إنما بلقطات زوايا مختلفة قليلًا؛ صور شوارع، أبنية، متاجر، نهر، جسور، ممارّ منتزهات، أشجار، وصور أناس، وحيوانات، وسيارات. تُشّكل الصور بمجموعها فضاء هولوغراميًا، تغلق حدوده البنايات والسماء، بمقدار مدى نظري. منذ الخطوة الأولى لخروجي من باب البيت، أغدو داخل هذا الفضاء، وأجول فيه. أنا الكائن الحي الوحيد فيه، والباقي صور؛ مجرد انعكاس تلاعب أضواء وظلال، تتداخل وتتشابك، فتنتج خيالات؛ استيهامات صور. لا أتحدث مع أحد، إذ كيف يمكن تبادل الحديث مع صور؟ حتى مشترياتي من الطعام في نهاية النزهة هي صور.

عندما أنتهي من نزهتي في فضاء الصور، أرجع إلى البيت. يفاجئني أنه هو أيضًا تركيبات من الصور المجسمة. كيف لم أنتبه لذلك، عند الخروج منه! صورة الشاشة الإلكترونية الضخمة، بحجم الغرفة الوحيدة فيه، تبث أيضًا صورًا ملونة، مع إيقاعات موسيقية ساحرة. صورها أجمل من صور الخارج، بألقها وانفتاحها اللامحدود على فضاءات جديدة؛ بحار، وجبال، وغابات، بنباتاتها وحيواناتها، ومدن جديدة، بمتاجر تسوق، ومطاعم، مكتظة بصور الناس، يتحدثون بمختلف اللغات. بكل بساطة، أستطيع اختراق هذه الفضاءات، والتجول فيها بسهولة. أتناول الطعام في مطعم، أركب دراجة في نزهة، أعانق امرأة حلوة. ما عليّ إلا الجلوس على صورة الأريكة أمام الشاشة، فأجد نفسي متجولًا داخل الصور، من دون بذل أي جهدٍ جسدي. أفكر، لماذا ينبغي الخروج إلى النزهة قرب النهر، ما دمت أستطيع التجول هنا في الداخل، ما دام الداخل والخارج هما من الصور، مع سحر متألق مميز للداخل؟

في النهاية، بدأت أشك في أني، أنا نفسي، صورة، إذ ليس من المعقول أن العالم حولي كله صور ما عداي”.

ـ”غريب، تبدو الأمور حولي أكثر من طبيعية، كأن كل شيء فيها مخطط مسبقًا، ويسير بدقة مذهلة، وفق مسارات محددة. كما في “عود بدئي” نيتشوي، كنت قد قرأت عنه، عندما كنت شابًا، قبل أن أتحول إلى صورة الآن. يبدو هذا من تكرار الأمور اليومي، بالرتابة والإيقاع نفسهما، في زمان ومكان لا يتغيران؛ حتمية غريبة. تزداد الغرابة، عندما أشعر أنه حتى لا مجال للمصادفة فيها، إلا بحدود مدروسة…. تصدمني فكرة أني أعيش في محاكاة؛ أعيش فيها كما في متاهة، من دون بداية ونهاية، تتكرر باستمرار، وخياراتي فيها محدودة”.

ـ”حاولت مناقشتك عقلانيًا لجذبك إلى نور يسوع، فتجرأت عليّ، وبدأت تطرح عليّ سلسلة غبية من الأسئلة، طالبًا مني الإجابة عنها على نحوٍ مقنع، كي تؤمن. كيف يمكن إقناعك، وأنت تلقي مثل هذه الأسئلة:

“لماذا خلقنا الإله؟ من أجل أن يتسلى بنا؟”، “لماذا يجب أن نعبده؟ هل نحن عبيد عنده؟ ماذا يستفيد من ذلك؟ هل هو مريض بمشاعر النرجسية وجنون العظمة، مثل دكتاتور شمولي؟”.

“لماذا من يعبده، ينال بعد الموت “النعيم” أو “جنة إباحية”، ومن لا يعبده يذهب إلى “الجحيم”، كي يتلذذ بتعذيبه؟ هل لديك دليل أننا سنعيش من جديد بعد الموت؟”.

“لماذا تحدث الحروب والكوارث الطبيعية باستمرار، ومعها يموت ملايين الضحايا الأبرياء؟ هل يستمتع الإله بالدم النازف من الضحايا، أم أنه نائم، لا يستمع إلى أنينهم؟”.

بل تصدمني بالكامل، وأنت تسخر من الإله، قائلًا “مثل هذا الإله “مريض نفسيًا”، وبحاجة إلى معالجة نفسية عند فرويد ويونغ”.

ـ “أصوم هنا في رمضان أحيانًا، لا أعرف لماذا، ربما كطقس تقليدي، وبالأحرى من أجل والدتي، التي لا تحب الذي لا يصوم. أرسل لها على الهاتف المحمول صورة سجادة الصلاة، ومائدة الإفطار. لكن حتى يمر وقت الصيام سريعًا، وبانتظار وقت الإفطار، أشاهد فيلمًا إباحيًا، وأمارس الاستمناء، في أثناء ذلك. أصوم لإرضاء الآخرين، على الأغلب خوفًا منهم، وعلى رأسهم والدتي. الصيام هو التدين، والبورنو هو البيولوجيا، ودائمًا تنتصر البيولوجيا على التدين”.

ـ “تعدو الثيران المبرقعة نحوي، محطمة كل شيء في دروبها؛ المنازل الريفية، والبساتين والحقول والكروم. أنهض مذعورًا، وأركض هاربًا منها. لكن الثيران تلاحقني بسرعة أكبر، وضجيج أعلى. أركض وأركض، وهي تلاحقني من دون توقف. أغدو مراهقًا، وأنا أركض. أغدو شابًا، رجلًا، وأنا أركض، ولا تتوقف عن اللحاق بي. أقرر الاتجاه إلى الغرب، نحو الجبال، علّي أجد ملجًا هناك. لكنها لا تتوقف. أجتاز الجبال، وأمضي باتجاه البحر. غريب ما زالت تُصرّ على ملاحقتي، وتحاصرني عند الشاطئ. لم يعد أمامي من منجى، إلا أن أخوض في مياه البحر، أو تمزقني إربًا بقرونها الحادة، وتدوس أشلائي بحوافرها القاسية.

أقرر أن أخوض البحر. أسير، متخبطًا في المياه، أثير مويجات المياه حولي عاليًا، كما في نهر ضحل، ولا أغرق. أتوقف، فقد أغرق إذا أوغلت أكثر، فهذا بحر من دون حدود. لكن الثيران لا تكف عن ملاحقتي، تنزلق ورائي في المياه. غريب، تتحول الثيران إلى أسماك قرش ضخمة، بحراشف مموهة مبرقعة مثل لباس الجنود. تفتح فكوكها، فتبرز منها أسنان حادة كالمناشير، وتأخذ بالانسياب نحوي. أركض في المياه، تسبح ورائي مثل سهام منطلقة بسرعة. أضيع في متاهة بحر غريب، لا أميز الاتجاهات فيه، وليس لي إلا أن أركض هاربًا.

تلوح لي فجأة في البعيد حدودٌ معتمة، ليس لي إلا أن أركض في اتجاهها. أصل، أصطدم بجدار غير مرئي. لكن أستطيع أن أمد يدي، قدمي، بعضًا من جسدي عبره. أطل برأسي، فأشعر بالذعر مما أراه؛ فضاء شديد العتمة، فارغ، من دون نهاية وتخوم. في الخلف، تصل إليّ أسماك القرش، وتكاد أن تقضمني. ليس لي إلا أن أقفز في هذا الفضاء اللعين… أقفز، أسقط، وأنهار في هوة مريعة، معتمة، لا تنتهي. أهوي، وصراخي المختنق يلاحقني…”.

المصدر: جدلية

الرابط: https://www.jadaliyya.com/Details/46695

 

مازن عرفة
كاتب سوري مقيم في ألمانيا، من مواليد قطنا بريف دمشق 1955، يحمل إجازة في الآداب-قسم اللغة الفرنسية من جامعة دمشق 1983، دكتوراه في العلوم الإنسانية تخصص علم المكتبات والمعلومات من جامعة ماري كوري سكودوفسكا في مدينة لوبلين-بولونيا 1990. من مؤلفاته: العالم العربي في الكتابات البولونية في القرن التاسع عشر (باللغة البولونية)، لوبلين 1994؛ سحر الكتاب وفتنة الصورة: من الثقافة النصية إلى سلطة اللامرئي، سوريا، دمشق، دار التكوين، 2007؛ وصايا الغبار (رواية)، سوريا، دمشق، دار التكوين، 2011؛ تراجيديا الثقافة العربية، سوريا، دمشق، 2014؛ الغرانيق (رواية)، مؤسسة نوفل، بيروت، 2017؛ سرير على الجبهة (رواية)، مؤسسة نوفل، بيروت، 2019؛ الغابة السوداء (رواية)، دار نشر رامينا، لندن، 2023، داريا الحكاية (رواية)، ميسلون للثقافة والترجمة والنشر، 2023.

تحميل المقال

حوار جدلية مع الروائي مازن عرفة حول روايته الجديدة (ترانيم التخوم)
مازن عرفة
يونيو 4, 2025
إبداعات ونقد أدبي
مشاركة:

 

Continue Reading

Previous: حزب الشعب الديمقراطي السوري…. في إجابات شاملة وصريحة.. الأمين الأول لحزب الشعب الديمقراطي السوري السيّد غياث عيون السود لـ نينار برس: إعادة اللُحمة الوطنية وترميمها أولوية قصوى بين أبناء الشعب السوري الواحد…المصدر : نينار برس
Next: “معتقلون ومغيبون” في دمشق… أداة لمقاومة النسيان وحفظ الذاكرة سردية الاعتقال هوية مشتركة الحسناء عدره…..المصدر: المجلة

قصص ذات الصلة

  • حوارات

حزب الشعب الديمقراطي السوري…. في إجابات شاملة وصريحة.. الأمين الأول لحزب الشعب الديمقراطي السوري السيّد غياث عيون السود لـ نينار برس: إعادة اللُحمة الوطنية وترميمها أولوية قصوى بين أبناء الشعب السوري الواحد…المصدر : نينار برس

khalil المحرر يونيو 5, 2025
  • حوارات

رئيس حزب الشعب الجمهوري التركي لرووداو: هناك حاجة لدستور جديد راوين سترك المصدر: رووداو دیجیتال

khalil المحرر يونيو 4, 2025
  • حوارات

دبلوماسي أميركي: يجب ألا تكون سوريا دولة إسلامية ومن الحكمة بقاء قوات أميركية فيها……… المصدر : رووداو ديجيتال

khalil المحرر أبريل 30, 2025

Recent Posts

  • دمشق تتابع بدقة عملية ضبط نشاط التنظيمات الفلسطينية…دمشق المصدر : بندر الشريدة …. الشرق الاوسط
  • هل من تنسيق لبنانيّ – أميركيّ بمواجهة التّصعيد الإسرائيليّ؟ ملاك عقيل…..المصدر: أساس ميديا
  • بعد طُوفان غزّة: “الحلم” بالهجرة الطوعية؟ هشام عليوان……..المصدر: أساس ميديا
  • عراقجي في بيروت يعتمد أسلوب “تاجر السجّاد”؟ وليد شُقَير……..المصدر: أساس ميديا
  • حكاية رئيسين: “الصيّاد” يجمع الحريري وعبيد (1/3) المصدر: أساس ميديا

Recent Comments

لا توجد تعليقات للعرض.

Archives

  • يونيو 2025
  • مايو 2025
  • أبريل 2025
  • مارس 2025
  • فبراير 2025
  • يناير 2025
  • ديسمبر 2024
  • نوفمبر 2024
  • أكتوبر 2024
  • سبتمبر 2024
  • أغسطس 2024
  • يوليو 2024
  • يونيو 2024
  • مايو 2024
  • أبريل 2024
  • مارس 2024
  • فبراير 2024
  • يناير 2024
  • ديسمبر 2023
  • نوفمبر 2023
  • أكتوبر 2023

Categories

  • أدب وفن
  • افتتاحية
  • الأخبار
  • المجتمع المدني
  • الملف الكوردي
  • حوارات
  • دراسات وبحوث
  • مقالات رأي
  • منوعات

أحدث المقالات

  • دمشق تتابع بدقة عملية ضبط نشاط التنظيمات الفلسطينية…دمشق المصدر : بندر الشريدة …. الشرق الاوسط
  • هل من تنسيق لبنانيّ – أميركيّ بمواجهة التّصعيد الإسرائيليّ؟ ملاك عقيل…..المصدر: أساس ميديا
  • بعد طُوفان غزّة: “الحلم” بالهجرة الطوعية؟ هشام عليوان……..المصدر: أساس ميديا
  • عراقجي في بيروت يعتمد أسلوب “تاجر السجّاد”؟ وليد شُقَير……..المصدر: أساس ميديا
  • حكاية رئيسين: “الصيّاد” يجمع الحريري وعبيد (1/3) المصدر: أساس ميديا

تصنيفات

أدب وفن افتتاحية الأخبار المجتمع المدني الملف الكوردي حوارات دراسات وبحوث مقالات رأي منوعات

منشورات سابقة

  • الأخبار

دمشق تتابع بدقة عملية ضبط نشاط التنظيمات الفلسطينية…دمشق المصدر : بندر الشريدة …. الشرق الاوسط

khalil المحرر يونيو 6, 2025
  • مقالات رأي

هل من تنسيق لبنانيّ – أميركيّ بمواجهة التّصعيد الإسرائيليّ؟ ملاك عقيل…..المصدر: أساس ميديا

khalil المحرر يونيو 6, 2025
  • مقالات رأي

بعد طُوفان غزّة: “الحلم” بالهجرة الطوعية؟ هشام عليوان……..المصدر: أساس ميديا

khalil المحرر يونيو 6, 2025
  • مقالات رأي

عراقجي في بيروت يعتمد أسلوب “تاجر السجّاد”؟ وليد شُقَير……..المصدر: أساس ميديا

khalil المحرر يونيو 6, 2025

اتصل بنا

  • Facebook
  • Instagram
  • Twitter
  • Youtube
  • Pinterest
  • Linkedin
  • الأرشيف
Copyright © All rights reserved. | MoreNews by AF themes.