صار واضحاً أن “الأمانة العامة للشؤون السياسية” تتولّى دور جهاز الدولة الحزبي في سورية الجديدة. كانت الخطوة الأولى لها، بعد الإعلان عنها في مارس/ آذار الماضي، تسلم مقار حزب البعث الذي جرى حله رسمياً. ومنذ ذلك الحين، أخذ الرأي العام السوري يتعرّف، تدريجياً، إلى التشكيل السياسي الجديد الذي بدا مرتجلاً وغامضاً، كونه لم يكشف عن برنامجه وأهدافه ودوره ونظامه الداخلي، كما لم يفتح باب الانتساب إليه، أو يعقد اجتماعاً جماهيرياً واحداً في أي محافظة.
أثار الاستغراب قرار تشكيلها من وزير الخارجية، أسعد الشيباني، لأن عملها يختصّ بالشأن الداخلي. لكن الغموض سرعان ما تبدّد حينما تبيّن أنها استمرارية للهيئة السياسية التابعة لهيئة تحرير الشام التي كان يتولى مسؤوليّتها في إدلب. ولم يتخل عن هذه المهمة حين تعيينه وزيراً، قبل أن تجرى تسمية أي شخص آخر في موقع رسمي في الدولة، ما يدلّ على مكانة موقعه التراتبي والدور المرسوم له، إلى جانب رئيس الدولة أحمد الشرع، والذي بات يرافقه في أغلب نشاطاته الداخلية والخارجية.
لو أن اختصاص “الأمانة” اقتصر على هيئة تحرير الشام، لما أثارت الأسئلة من حولها، لكن اهتمامها بعمل الحكومة، وظهور إشارات قوية على تحولها إلى حزب، سببا إثارة الجدل. لا أحد يعارض أن يكون لـ”الهيئة” حزبها، بل من المحبذ أن تتحوّل إلى حركة سياسية، وتخلع عنها البدلة العسكرية. وبقدر ما تقدّم من تطمينات للعالم الخارجي عن مغادرة ماضيها الجهادي، يحتاج السوريون لأن تفتح الباب واسعاً أمام حياة سياسية على أسس قانونية تسمح بإنشاء أحزاب، وفق ما هو متعارف عليه. وأول شرط لذلك ألا تمنح “الهيئة” نفسها امتيازات سياسية تحت مبرّر “من يحرّر يقرّر”، وهي بذلك تعيد تكرار تجربة حزب البعث، الذي ضمّن الدستور مادة تسميه قائداً للدولة والمجتمع، وهي المادة الثامنة سيئة الصيت التي ساهمت في تفجير ثورة عام 2011.
عدم تكرار تجربة حزب البعث أمر في غاية الأهمية، والاستفادة من دروسها ضروري جداً، لأن “البعث” بدأ حزباً جماهيرياً حاز شعبية واسعة بفضل الشعارات التي رفعها والأهداف التي نادى بها. ولكنه مارس عكسها، ثم سرعان ما دخل في نفق الصراعات داخله، ومن ثم انخرط في دورة عنفٍ بين أطرافه دمّرت البلد، ومنعته من بناء نفسه على الصعد كافة.
تحول “البعث” من حزب جماهيري إلى جهاز أمني قمعي وذراع ضاربة للديكتاتورية التي بناها حافظ الأسد، وبذلك أقصى المجتمع من السياسة، وحارب الأحزاب المعارضة التي ناضلت من أجل الحرية والكرامة، وضحّت من أجل وطن لكل أبنائه، وديمقراطية تقوم على انتخابات تعدّدية، وصحافة مستقلة، وحرية أحزاب، ورغم أنها تعاني اليوم من تراجع كبير وانعدام وزن، فإن ذلك لا يعني التسليم بسياسة الأمر الواقع، لأن الحركة السياسية لن تلبث أن تعاود نشاطها، كيلا ترجع سورية مملكة للصمت، كما كان عليه الوضع خلال حكم الأسدين، الأب والابن.
قوانين المرحلة الانتقالية يجب أن تسري على الجميع، لا أن تستثني “الهيئة”، وتسمح لها ببناء جهازها الحزبي بالاعتماد على موارد الدولة، من خلال الاستيلاء على مقار حزب البعث وأملاكه، التي يجب أن تنتقل إلى الملكية العامة. وحتى تستقيم الحياة السياسية، لا بد من وضع قانون للأحزاب، وكفّ يد “الأمانة” وعدم تدخّلها في شؤون (وعمل) النقابات والاتحادات الشعبية، التي عيّنت لجان لتسييرها، وتركتها تمارس عملها على نحو مستقل من خلال عقد المؤتمرات الخاصة بها لانتخاب مجالس لتسييرها وادارتها على نحو مستقل عن سلطة الدولة.