منذ انطلاقة الثورات العربية في عام 2011، أفلحت الحركات الاحتجاجية في زعزعة واجهات الأنظمة السلطوية، وكشفت هشاشةَ البنى المؤسّسية الرسمية وبؤسيها، التنظيمي والفكري. فرغم سنواتٍ طويلةٍ من تسييس التعليم، وتوظيف المؤسّسات الدينية، وتكميم المجال الأكاديمي، لم تنجح هذه الأدوات في احتواء الحراك الشعبي أو منعه من التفجّر. لكن ما لم يكن مرئياً هو بقاء نواة صلبة من السلطة تمثّلت في ما تُعرف بـ”الدولة العميقة”، وهي شبكة متداخلة من المصالح تشمل الأجهزة الأمنية والقضاء والبيروقراطية، ونخباً اقتصادية. وقد أظهرت هذه الشبكة مرونةً عاليةً، واستطاعت الصمود، بل والمبادرة، لاحقاً، لإعادة تشكيل المشهد وفقاً لمصالحها. فرغم مرور أكثر من عقد على ما اعتُبر زلزالاً سياسياً غير مسبوق في العالم العربي، يتضح أن الدولة العميقة لم تكتفِ بالبقاء في مواقعها الدفاعية، بل انتقلت تدريجياً إلى شنّ هجوم مضاد. يتجلّى هذا التحوّل من خلال توظيف أدوات القانون، وتطويع الخطاب العام، وتقييد فرص العدالة الانتقالية، واحتواء النُّخب السياسية والمجتمعية، فضلاً عن إعادة هندسة مفهوم “الاستقرار”، ليُقدَّم أولويةً تتجاوز الحرية والتعدّدية.
لا تتّصف الدولة العميقة في السياق العربي بالسرّية الكاملة كما هو شائع عالمياً؛ بل غالباً ما تكون متغلغلةً في مؤسّسات الدولة الظاهرة، وتستند في بقائها إلى تحالفات زبائنية مع نخب اقتصادية وطائفية، وأحياناً إلى دعم إقليمي ودولي. وفي العديد من الحالات، تُعيد هذه الدولة إنتاج ذاتها من خلال المؤسّسات الثورية أو الانتقالية، ما لم تُواجه بمشروع حقيقي مضادّ.
من تونس إلى مصر، ومن السودان إلى سورية، شعرت شبكات النفوذ العميق للمرة الأولى بتهديد وجودي. ففي تونس، اخترقت الثورة بعض مفاصل الدولة العميقة، ما جعل التغيير الجزئي للسلطة أمراً ممكناً. أمّا في مصر، فقد واجهت هذه الدولة حالةً من الارتباك عقب سقوط حسني مبارك، لكنّها سرعان ما استعادت زمام المبادرة عبر المؤسّسة العسكرية. وفي سورية، بدت الدولة العميقة في البداية محاصَرةً بتراجع نفوذ النظام في مناطق واسعة، لكنّها ما لبثت أن أعادت ترتيب أوراقها عبر خلق كيانات موازية واختراق الهياكل المحلّية الجديدة.
لم تكن الثورة مجرّد انتفاضة جماهيرية، بل امتداداً لصراع داخلي بين أجهزة الدولة
تشابهت هذه الدول، رغم اختلافاتها، في مراحل التفاعل مع الثورات؛ امتصاص الصدمة، الانسحاب التكتيكي، تقديم تنازلات شكلية، ثمّ الانتقال إلى الهجوم واستعادة السيطرة. وقد جرى ذلك من خلال عسكرة الإدارة والمجتمع، وتوسيع صلاحيات الأجهزة الأمنية، وربط مفاهيم الأمن القومي بهيبة النظام، وشيطنة الثورة بوصفها فوضى أو مؤامرة. ولم يكن من النادر أن تُستخدم الجماعات الراديكالية أداةً لإفشال التغيير وتقويض مساراته، عبر تبرير القمع بذريعة مكافحة الإرهاب.
لقد أثبتت التجارب العربية أن الدولة العميقة ليست كياناً جامداً، بل بنية ديناميكية قادرة على التكيّف مع المتغيّرات السياسية، وتفكيك القوى الصاعدة وإعادة تشكيلها وفق ما يخدم استمرار النفوذ. في تونس، رغم إطاحة زين العابدين بن علي، ظلّت الدولة العميقة ممثّلةً في الجهاز البيروقراطي والأمني فاعلةً في التأثير في الحياة السياسية. ورغم التقدّم السياسي مثل صياغة دستور جديد وإجراء انتخابات حرّة، فإن العودة إلى الحكم الفردي وتجميد البرلمان عام 2021 دلّت على إخفاق عملية تفكيك بنى السلطة القديمة، خاصّة في ظلّ غياب تنمية اقتصادية حقيقية.
ليست قاعدةً أن يكون سقوط رأس النظام، بدايةً للحظة القطيعة مع البنية السلطوية القديمة
في مصر، لم تكن الثورة مجرّد انتفاضة جماهيرية، بل امتداداً لصراع داخلي بين أجهزة الدولة. ومع سقوط النظام في 2011، تفكّكت السلطة المركزية، لكنّ المؤسّسة الأمنية سرعان ما أعادت تموضعها. بحلول 2013، تمكنت من السيطرة الكاملة على الحياة السياسية، وعملت في إعادة هندسة الدستور والإعلام والقانون، وعزّزت دور المؤسّسة العسكرية في الاقتصاد، ما جعل عملية التفكيك أكثر صعوبة. أمّا في السودان، فقد شكّل انقلاب 2021 ذروة ارتداد الدولة العميقة بعد إطاحة عمر البشير. لم يكن من السهل تفكيك منظومة بُنيت على مدى ثلاثين عاماً من الحكم الاستبدادي، خاصّة في ظلّ هشاشة الحاضنة الشعبية للثورة والانقسامات السياسية. ورغم تشكيل مجلس السيادة بمشاركة مدنية وعسكرية، بقيت الكلمة الفصل بيد العسكر، إلى أن وقع الانقلاب العسكري في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، ما أعاد البلاد إلى نقطة البداية.
وفي سورية، استغل النظام الحرب لإعادة بناء تحالفاته الأمنية والاقتصادية، وأطلق يد الأجهزة الأمنية لإنتاج “مصالحة” مشوّهة كانت في جوهرها إعادة فرض السيطرة بالقوة. كما لجأ إلى إطلاق سراح متشدّدين لإضعاف المعارضة وشرعنة القمع، وتحوّل حزب البعث من فاعل سياسي إلى غطاء هامشي لنظام يقوم على العائلة والأجهزة الأمنية. ومع استمرار غياب العدالة الانتقالية، وتفاقم الأزمات المعيشية، تظلّ مخاطر عودة الدولة العميقة قائمةً، خاصّةً مع غياب مشروع بديل متكامل.
وحالياً، لا تزال فرصة إعادة بناء الدولة العميقة موجودة، إذ ليست قاعدةً أن يكون سقوط رأس النظام، بدايةً للحظة القطيعة مع البنية السلطوية القديمة، بل عدة عوامل بنيوية تقود إلى الاعتقاد بإمكانية إعادة بناء الدولة العميقة الأمنية لنفسها من أهمها؛ المؤسّسات العسكرية والأمنية؛ غياب المشروع الوطني الجامعي يُخيف القواعد الاجتماعية من احتمالية عودة بناء علاقات على أسس ولاءات زبائنية – أمنية؛ الفقر والحاجة والخوف وغياب الاستقرار الأمني… ستقود لاستعادة الذهنية السورية التي كانت قائمةً على استعادة صور المنظومة الأمنية المعرفية – النفسية التي رسّختها الأجهزة الأمنية عقوداً. ووفقاً لتوصيف إيرك فروم، فإن الدولة العميقة “تحوّل القمع حاجةً داخليةً للفرد الخاضع”، وذلك كلّه سيلعب دوراً في تسهيل إعادة التكيف مع نمط جديد من الاستبداد، ربّما يكون أخف وطأةً من سابقه، وسيبقى بوجه أمني غير واضح.
العدالة الانتقالية والتحوّل السياسي المطلوبان يحتاجان إلى استقلال القضاء شرطاً أساساً لتحقيق العدالة والانتقال إلى بناء عقد اجتماعي جديد
وأبرز فرص تفكيك الدولة الأمنية العميقة، ومنع إعادة إحيائها مُجدّداً هي: تفكيك الفصائل المسلّحة مع إنشاء جهاز أمني وطني بديل بمشاركة جميع المكوّنات، كي لا تدخل سورية فراغاً أمنياً، وضرورة مراعاة الترابط بين برنامج إعادة الإدماج ونزع السلاح، وبرنامج إصلاح القطاع الأمني، على أن تتم تلك الخطوات تحت رقابة مدنية وقضائية مستقلّة، تضمن الشفافية وترفض أيّ احتكار طائفي للمؤسّسات الأمنية، مع ضرورة نقاش دور الضباط المنشقّين بدلاً من تهميشهم؛ إصلاح القضاء واستقلاليته، فالعدالة الانتقالية والتحوّل السياسي المطلوبان يحتاجان إلى استقلال القضاء شرطاً أساساً لتحقيق العدالة والانتقال إلى بناء عقد اجتماعي جديد يُقصي الاستبداد ويؤسّس للمساءلة؛ دعم اللامركزية والمجتمع المدني ركيزتَين أساسيتَين في إعادة توزيع السلطة وتعزيز الحوكمة التشاركية، وهو الضامن لتعزيز الوحدة الوطنية، ومنع استعادة النُّخب السلطوية سلطتها. يُساهم ذلك في بناء نظام سياسي ديمقراطي مستدام، ويمنع عودة الدولة الأمنية العميقة.
أخيراً، علّمتنا التجربة العربية أن إسقاط رأس النظام لا يعني إسقاط الدولة العميقة. فهذه الأخيرة قد تعيد إنتاج نفسها من داخل مؤسّسات التغيير نفسها، إذا تُركت بلا مشروع بديل حقيقي. ولذلك، فإن التحدّي لا يكمن في تغيير السلطة فقط ، بل في تفكيك شبكات النفوذ وبناء مؤسّسات ذات شرعية مجتمعية ومناعة ضدّ الاختراق. قد تسقط الأنظمة، ولكن ما لم تُكسر أدوات الدولة العميقة، سيظلّ التغيير حلماً يدور في حلقة مفرغة.
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News