ملخص
يكشف فشل لقاء بوتين وزيلينسكي عام 2019 ضمن محادثات “صيغة نورماندي” عن عمق الخلافات بين الطرفين، وهي خلافات لا تزال تعرقل مفاوضات السلام الراهنة على رغم تغيّر الوسطاء وتبدّل السياقات، مما يشير إلى أن التوصل إلى اتفاق فعلي لا يزال بعيد المنال.
التقى وفدا أوكرانيا وروسيا في الثاني من يونيو (حزيران) الجاري للمرة الثانية في إسطنبول في غضون شهر واحد. وغاب زعيما البلدين مرة أخرى.
قبل انعقاد الاجتماع الأول في منتصف مايو (أيار) الماضي، ولبرهة عابرة كان هناك احتمال واهٍ للغاية بإمكان حضور الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأوكراني فولوديمير زيلينسكي، ليجلسا في الغرفة نفسها لإجراء محادثات ثنائية وجهاً لوجه.
بيد أن هذا لم يحدث، ولم تتوقع حصوله سوى قلة قليلة. حينها رفض بوتين عرض زيلينسكي بإجراء محادثات وجهاً لوجه في إسطنبول.
بوتين يطالب باستسلام أوكرانيا أم بمحادثات سلام معها؟
على رغم عدم حصول أي لقاء بين الزعيمين في قمم إسطنبول، فقد سبق لهما أن تقابلا.
في باريس عام 2019، اجتمع الرجلان معاً في إطار ما كان يعرف بمحادثات “صيغة نورماندي”. وبصفتي باحثة في العلاقات الدولية، فقد أجريت مقابلات مع أشخاص شاركوا في تلك الاجتماعات. وبعد مرور نحو خمسة أعوام، يُمكن للطريقة التي تعثرت بها المداولات ثم فشلت أن تشتمل على دروس حول التحديات التي يواجهها الوسطاء المحتملون اليوم.
آمال أولية
بدأت محادثات “صيغة نورماندي” على هامش فعاليات يونيو 2014، إحياءً للذكرى الـ70 لإنزال نورماندي.
كان الهدف هو محاولة حل الصراع الدائر بين القوات الأوكرانية والجماعات الانفصالية الموالية لروسيا في منطقة دونباس الواقعة في شرق البلاد. وكان هذا الصراع قد شهد تصعيداً في وقت غير بعيد [عن بدء تلك المحادثات]، مع سيطرة الانفصاليين الموالين لروسيا على بلدات رئيسة في دونيتسك ولوهانسك في أعقاب الضم غير القانوني لشبه جزيرة القرم من قِبل روسيا في فبراير (شباط) 2014.
استمرت المحادثات بشكل دوري حتى عام 2022، عندما شنت روسيا غزوها الشامل لأوكرانيا. وحتى ذلك الحين، كان معظم النقاش محصوراً في إطارين، هما اتفاقا مينسك لعامي 2014 و2015، اللذان حددا شروط وقف إطلاق النار بين كييف والجماعات المتمردة المسلحة الموالية لموسكو، وشروط إجراء انتخابات في دونيتسك ولوهانسك.
وبحلول موعد الاجتماع السادس في ديسمبر (كانون الأول) 2019، وهو اللقاء الوحيد الذي تقابل فيه زيلينسكي وبوتين شخصياً، كان البعض لا يزال يأمل في أن يكوّن اتفاقا مينسك إطاراً للسلام.
قيد المناقشة
لم يكن قد مضى على تولي زيلينسكي رئاسة بلاده سوى بضعة أشهر عندما وصل إلى باريس بطاقة متجددة ورغبة في تحقيق السلام. وقد ركّزت حملته الانتخابية على وعد بإنهاء الاضطرابات في منطقة دونباس، التي كانت مستمرة أعواماً. وأدى الدور المتزايد لروسيا في الصراع، من خلال إمداد المتمردين بالمال ودعمهم بجنود روس متطوّعين، إلى تعقيد القتال وتصعيده، في وقت كان فيه كثير من الأوكرانيين قد سئموا من تبعات النزوح الداخلي الذي خلّفه هذا الوضع.
وبحسب كل الروايات التي تناولت الأمر، فقد ذهب زيلينسكي إلى باريس معتقداً أنه قادر على إبرام صفقة مع بوتين.
قال زيلينسكي قبل أيام فقط من لقائه بوتين “أريد العودة بنتائج ملموسة”. وحتى ذلك الوقت، كان التواصل الوحيد للرئيس الأوكراني مع بوتين هو عبر الهاتف. وأوضح زيلينسكي “أريد أن أراه شخصياً، وأودّ أن أعود من نورماندي بإدراك أن الجميع يريد حقاً إنهاء تدريجاً هذه الحرب المأسوية”، مضيفاً “لا يمكنني أن أتيقّن من ذلك إلا على طاولة الحوار”.
كان أحد أبرز هموم بوتين قبل إجراء المحادثات هو رفع العقوبات الغربية التي فُرضت على بلاده رداً على ضمّ شبه جزيرة القرم. غير أن الرئيس الروسي أراد أيضاً إبقاء جار روسيا الأصغر تحت نفوذه.
لقد نالت أوكرانيا استقلالها في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991. إلا أن روسيا بدأت في الأعوام الأولى من القرن الجديد، تمارس نفوذاً متزايداً على سياسات جارتها. وانتهى هذا النفوذ في عام 2014، عندما أطاحت ثورة شعبية بالرئيس الأوكراني الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش، الأمر الذي مهد لتشكيل حكومة موالية للغرب.
وجد بوتين في الرئيس دونالد ترمب قائداً أميركياً أقرب إلى تفكيره من الأوروبيين (أ ف ب/غيتي)
وجد بوتين في الرئيس دونالد ترمب قائداً أميركياً أقرب إلى تفكيره من الأوروبيين (أ ف ب/غيتي)
ولقد أرادت روسيا أكثر من أي شيء آخر، أن توقف هذا التحول وتبعد أوكرانيا عن الاتحاد الأوروبي وحلف “الناتو”.
ومثلت هاتان الرغبتان، أي رغبة أوكرانيا في إنهاء الحرب في دونباس، ورغبة روسيا في الحدّ من تدخل الغرب في أوكرانيا، معايير محادثات نورماندي.
وبدا لبعض الوقت، أن هناك زخماً يدفع باتجاه إيجاد حل وسط. رأى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن محادثات باريس عام 2019 كسرت جموداً دام أعواماً، كما أعادت إطلاق عملية السلام. فيما كان تقييم بوتين أن عملية السلام “تسير في الاتجاه الصحيح”. أما زيلينسكي، فكان له رأي أقل حماساً، [إذ قال] “دعونا نعتبر أن ثمة تعادلاً الآن”.
كل يغني على ليلاه
مع ذلك، فقد انتهى اجتماع بوتين وزيلينسكي عام 2019 بالفشل. واسترجاعاً، نجد أن كلاً من الجانبين كان في وادٍ وكانا يتحدثان من دون التوصل إلى اتفاق في شأن كيفية ترتيب البنود الرئيسة من خطة السلام.
لقد أراد زيلينسكي تطبيق الأحكام الأمنية لاتفاقات مينسك، بما في ذلك وقف إطلاق نار دائم وتأمين حدود أوكرانيا مع روسيا، وذلك قبل الشروع في تنظيم انتخابات إقليمية في شأن منح تلك المناطق حكماً ذاتياً. لكن بوتين أصرّ على إعطاء الأولوية للانتخابات.
كذلك فإن رفض بوتين الاعتراف بأن روسيا كانت طرفاً في النزاع أدى إلى عرقلة نجاح محادثات نورماندي. فهو صوّر صراع دونباس على أنه حرب أهلية بين الحكومة الأوكرانية والمتمردين. وتمثل دور روسيا في هذا السياق ببساطة في دفع المتمردين إلى الجلوس حول طاولة المفاوضات، وهو رأي قوبل بالتشكيك من جانب أوكرانيا والغرب.
ونتيجة لذلك، تعثرت محادثات نورماندي. ثم في فبراير 2022، شنت روسيا غزوها الشامل لأوكرانيا.
كيف يمكن المضي إلى الأمام؟
تُمثل المفاوضات الحديثة بين أوكرانيا وروسيا، التي بدأت في إسطنبول في مايو 2025، أول محاولة حقيقية لجمع وفود رفيعة المستوى من كلا الجانبين مع بعضها بعضاً منذ عام 2019.
ولا يزال هناك كثير من التحديات ذاتها قائمة. فالمناقشات لا تزال تدور حول قضايا الأمن، ووضع دونيتسك ولوهانسك، وتبادل الأسرى، وهذه النقطة الأخيرة هي الوحيدة التي يبدو أن هناك أرضية مشتركة بشأنها، سواء عام 2019 أو الآن.
بيد أن هناك اختلافات كبيرة، ليس أقلها الحرب المباشرة الفعلية التي تتواصل منذ ثلاثة أعوام. لم يعد بإمكان روسيا إنكار كونها طرفاً في الصراع، حتى ولو وصفت موسكو الحرب بأنها عملية عسكرية خاصة “لاجتثاث النازية” ونزع سلاح أوكرانيا.
وقد غيّرت الحرب على امتداد ثلاثة أعوام طريقة التعاطي مع قضيتي القرم ودونباس.
في محادثات نورماندي، لم يُطرَح مطلقاً موضوع الاعتراف بسيطرة روسيا على أي أرض أوكرانية. لكن الجهود الأميركية الأخيرة للتفاوض على السلام شملت اعترافاً “قانونياً” من جانب الولايات المتحدة بسيطرة روسيا على القرم، إلى جانب “اعتراف فعلي” باحتلال روسيا معظم أراضي مقاطعة لوهانسك، والأجزاء المحتلة من دونيتسك وخيرسون وزابوريجيا.
وهناك فرق رئيس آخر بين عملية التفاوض آنذاك والآن يتمثل في هوية الوسيط.
فقد قاد مفاوضات نورماندي زعماء أوروبيون، أي المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والرئيس الفرنسي ماكرون. وعلى امتداد العملية بأكملها، لم يشارك في محادثات نورماندي كمفاوضين فعليين سوى ألمانيا وفرنسا وأوكرانيا وروسيا.
واليوم، تتولى الولايات المتحدة زمام المبادرة.
وهذا يناسب بوتين. فقد كانت إحدى المشكلات الدائمة التي واجهها الرئيس الروسي في محادثات نورماندي هي أن ألمانيا وفرنسا لم تكونا بمثابة وسيطين محايدين قط.
وجد بوتين في الرئيس دونالد ترمب قائداً أميركياً بدا، أول الأمر في الأقل، حريصاً على الإمساك بالدفة بدلاً من أوروبا. لكن، كما كانت الحال مع الأوروبيين المشاركين في محادثات النورماندي، يواجه ترمب أيضاً عقبات مماثلة تعيق إحراز أي تقدم ذي معنى.
لم تتمخض مفاوضات إسطنبول في الـ16 من مايو 2025 عن أي نتائج كبرى تمناها كثر. ولم يجر الاتفاق على الاقتراح الخاص بوقف إطلاق النار لمدة 30 يوماً، بل وافق الطرفان على إبرام صفقة لتبادل أسرى. وانتهت المباحثات التالية في الثاني من يونيو بعد ساعة واحدة فقط من بدئها، وفقاً لما أفاد به مسؤولون أتراك. ومرة أخرى، كانت إحدى النقاط التي اتفق عليها هي تبادل الأسرى.
حتى محادثات السلام في باريس لم تثمر سوى عن تبادل للأسرى – من دون تحقيق أي نتائج تُذكر تتجاوز ذلك. ويبدو أن إقناع زعيمي أوكرانيا وروسيا بالتوصل إلى اتفاق أكثر طموحاً لا يزال أمراً بعيد المنال، تماماً كما كانت عليه الحال عندما التقى بوتين وزيلينسكي عام 2019.
آنا باتا أستاذة مشاركة في دراسات الأمن الدولي بجامعة القوات الجوية الأميركية.
لقد أُعيد نشر هذه المقالة من موقع “كونفيرسيشن” The Conversation بموجب ترخيص المشاع الإبداعي. اقرأ المقال الأصلي هنا