غير مرة انسحب مقتدى الصدر من العملية السياسية العراقية وعاد إليها من غير أن يقدم أسباباً لعودته. أما انسحاباته فقد حدثت لأسباب جلها يتعلق بالفساد. فساد النظام الطائفي الذي هو جزء منه، وفساد تياره الذي استولى على عدد من الوزارات وعاث بواردتها المالية فساداً، وأحياناً كان يغيب متحججاً بدراسة العلوم الدينية. وهو أمر مشكوك فيه، ذلك لأن المؤسسة الدينية في النجف لم تعترف به مرجعاً، وقد يكمن السبب في أنه ذهب إلى قم للقيام بتلك الدراسة وهو أمر غير مؤكد. ما يهم هنا أن الصدر كان يوقت انسحاباته بالتوافق مع حاجة النظام إلى شيء من الاستقرار بعد أن تكون حاجته إلى الفوضى قد انتهت.
كان يتم استبعاد مقتدى الصدر في كل مرحلة نقاهة بعد أزمة يمر بها النظام. أما حين نجح في قطف ثمار احتجاجات 2019 من خلال فوزه في انتخابات 2021 فإنه أهدى الأصوات التي نالها إلى خصومه وانسحب من العملية السياسية، وهو ما حرم تياره من المساهمة في حفلة النهب التي يحييها نظام محاصصة. ولكن الصدر نفسه وقد صار يتربع على رأس إمبراطورية مالية كان على ثقة بأن الشعارات التي يرفعها باسم ما يُسمى بالشهيدين الصدريين “محمد باقر الصدر ومحمد صادق الصدر” لا تزال تمارس تأثيرها على فقراء الشيعة. لذلك فإنه مطمئن إلى أن طريق عودته إلى الحياة السياسية ستظل سالكة دائماً.
زعيم الفوضى التي تتشبّه بالحريّة
كان مقتدى الصدر أحد صمامات الأمان المهمة للنظام السياسي الطائفي. ولا أبالغ إذا قلت إنه كان إلى وقت قريب صمام الأمان الأكثر أهمية. من خلاله تمت السيطرة على أكثر من سبعة ملايين من الفقراء الذين لا يرون من التحول الذي شهده العراق بعد الغزو الأميركي إلا صورة ظهورهم على الساحة السياسية قوة تفرض شروطها على الآخرين، لكن بما لا يجديهم نفعاً، وذلك لأن مقتدى الصدر قد احتكر قوتهم المفترضة لمصلحة تياره السياسي. لقد استمد الصدر منهم قوته ولم يقدم لهم شيئاً ذا قيمة على مستوى تحسين أوضاعهم المعيشية تحسيناً لافتاً. ولأنهم يميلون إلى الفوضى ويمقتون سيطرة الدولة البوليسية، فقد كانت دعوات الصدر المستمرة إلى التظاهر ومهاجمة المنطقة الخضراء، وهي منطقة الحكم، مناسبة للتنفيس عن مشاعرهم التي قمعها النظام السابق. وفي كل ما رأيناه من مظاهر الاحتجاجات التي قادها الصدر وتخللها العنف الدموي أحياناً، ظلت الأمور تحت السيطرة. أما حين ينزلق الوضع إلى درجة الخطر فإن الصدر سرعان ما يُصدر أوامره بلملمة الحشود والعودة إلى البيوت كما لو أن شيئاً ما لم يقع.
لقد حدث غير مرة أن سقط من بين (الصدريين) قتلى بنيران غير محددة المصدر من غير أن يتبع ذلك إجراء أي نوع من التحقيق. من وجهة نظر الطبقة السياسية، أن أتباع الصدر هم مجموعة من الرعاع الهمج الذين صدقوا عن جهل بأن زعيمهم يقودهم إلى التحرر من عبء النظام، في وعد منه بالحرية التي تشير في أبرز معانيها إلى الفوضى.
عدوّ الأميركيّين الذي دمّر المقاومة العراقيّة
لم يكن مقتدى الصدر جزءاً من التركيبة السياسية التي جاء بها الأميركيون جاهزة لتكون نواة للنظام الجديد الذي خُطط له أن يحل محل النظام الذي تم إسقاطه عن طريق القوة. غير أنه سرعان ما تحول إلى رقم صعب، اضطر الأميركيون إلى مواجهته عسكرياً عام 2004 في معركة النجف، بعدما شعروا بالخطر الذي يمثله جيش المهدي، وهو الميليشيا التي أُعلن تأسيسها في الأشهر الأولى من الاحتلال ولم تكن مصادر تمويلها واضحة، غير أن ما جرى في ما بعد يؤكد أن إيران وقفت وراءها لتصنع منها وسيلة لإزعاج الأميركيين ودفعهم إلى طي صفحتهم في العراق. وكان اللافت أن تلك الميليشيا التي سعت إلى إزعاج الأميركان لم تعلن في أي وقت من أوقات صدامها أنها قوة تنتمي إلى حركة المقاومة الوطنية. والدليل إلى ذلك أنها برزت في الحرب الأهلية التي دارت رُحاها بين عامي 2006 و2008 باعتبارها قوة طائفية تسعى إلى حماية النظام الطائفي وفرضه خياراً سياسياً وحيداً. بعد كل المجازر التي ارتكبها جيش المهدي في تلك الحرب، اعترف الأميركيون بضرورة أن يكون للصدر مكان بين الزعامات الشيعية، رغم أن تلك الزعامات كانت لا تراه مؤهلاً لذلك، بل إنها كانت تنظر إليه باستخفاف انطلاقاً من موقف المؤسسة الدينية في النجف منه، وهو ما استمدته من موقفها من أبيه. غير أن مساهمة الصدر في تدمير الجزء الأكبر من المقاومة الوطنية في خضم الحرب الأهلية، دفع بالأميركيين إلى أن يزجّوا به في العملية السياسية كونه الطرف الأكثر مساهمة في تجنيب قواتهم مزيداً من الخسائر.
الرّجل الذي انتهى زمنه
مثلَ مقتدى الصدر يومها نوعاً من الحل، تتوازن من خلاله العملية السياسية. كان واضحاً للأميركيين أن إيران قد كسبت جولة مهمة في سباقها على العراق، وبما أنهم كانوا يخططون لترك العراق لمشكلاته ومغادرته، فقد رأوا في مقتدى الصدر طرفاً مناسباً لمعادلة يكون نوري المالكي طرفها الآخر. عدوّان يمكنهما أن يتذابحا كما حدث مرات عديدة، غير أنهما في النتيجة لن يختلفا في ضرورة حماية النظام الطائفي من الانهيار.
وما يؤكد تلك الفكرة أن الصدر حين تمكن من هزيمة الأحزاب الموالية لإيران في انتخابات عام 2021، وصار في مواجهة الشعارات التي رفعها، وفي مقدمتها إنهاء النظام الطائفي، تخلى عن انتصاره وخان ناخبيه حين سلّم أصواتهم إلى أعدائهم. في تلك اللحظة لم تهتز ثقة مناصريه به فحسب، بل أدرك خصومه أيضاً أن الرجل حفر قبره بيديه كما يُقال، وأن ساعة رحيله عن المشهد السياسي في العراق قد حانت، وأنه لن يتمكن من التهديد بتظاهرات مليونية كما كان يحدث من قبل. لقد انتهى زمنه.