يبدو مقال الصديق أحمد مولود الطيّار، “عن عودة جورج صبرة… ردّاً على معن البياري” (“العربي الجديد”، 15/6/2025)، ظاهرياً مراجعةً نقديةً لموقف سياسي. لكن في جوهره، هو إدانة أخلاقوية تتجاوز السياسة وتحاكم النيّات لا الوقائع.
في مقال البياري، “جورج صبرة في دمشق” (“العربي الجديد”، 9/6/2025)، تقييم إيجابي، ونظرة توضّح مبدئيّة صبرة، وثباته على موقفه من إسقاط النظام، ويؤكّد على أن الرجل سياسي محنّك، لم يكن لانتمائه التكويني أو الأيديولوجي تأثير أو تخوّف في تعامله مع الإسلاميين، الذين استطاعوا أخيراً أن يسقطوا نظام الأسد. بينما يتضح أنّ نصّ الطيار ليس تحليلاً سياسياً حقيقياً، بل خطاباً أخلاقوياً يستند إلى معايير طهرانية مثالية. هذه المعايير يصعب تطبيقها، حتى في أكثر الثورات انضباطاً، فكيف بثورةٍ شعبيةٍ انفجرت في وجه واحد من أكثر الأنظمة قمعاً في العالم؟
ليس المطلوب أن نُبيّض الأخطاء، بل أن نُراجعها بوعي سياسي لا بإدانة أخلاقوية. المطلوب أن نقرأ التاريخ من داخله، لا من فوقه
قراءة المشهد السوري، خصوصاً الأدوار التي لعبتها القوى الديمقراطية، مثل حزب الشعب الديمقراطي و”إعلان دمشق”… من خلال المجلس الوطني السوري والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وكلّها ممثّلة بجورج صبرة، تحتاج أدوات تحليلية أكثر تعقيداً من مجرّد إدانة، وإلى عدسةٍ سياسيةٍ لا دوغمائية. يبدأ مقال الطيار بتحميل جورج صبرة مسؤولية “شرعنة جبهة النصرة”، ويستنتج منها دوراً في وصول أحمد الشرع إلى الحكم. هذه مغالطة واضحة من نوع “الشخصنة” (ad hominem) و”السبب الزائف” (false cause). فتصريح سياسي واحد، في لحظة ميدانية معقّدة، لا يمكن أن يُحمَّل أكثر ممّا يحتمل، ولا يمكن ربطه آلياً بمآلاتٍ بعيدة، خصوصاً في ظلّ تغيّر موازين القوى الداخلية والإقليمية والدولية. ولا يمكن اختزال مسار الثورة في جملة ولا في رجل ولا حتى في حزب، فالرجل قال في أكثر من مكان (وكان كاتب هذه السطور ممّن أجروا مقابلات معه، وسألته عن التصريح، فأجاب تكراراً) إنه كان متحدّثاً باسم هيئة، وهذا رأي تلك الهيئة، ولكنّه تلقّى السهام وحده، رغم أن هناك تصريحاً شبيهاً جدّاً من الراحل ميشيل كيلو.
ولا يقيّم المقال قراراً سياسياً في ضوء نتائجه، بل يُدين موقفاً براغماتياً مرحلياً، وكأنه موقف عقائدي دائم. وهذا يُمثّل “مغالطة التعميم المتسرّع”؛ افتراض أن أيّ تحالف ميداني مع طرف مسلّح يعني تبنّيَ مشروعه السياسي كاملاً، فما جرى في الواقع أن الحزب، ومعه قوى ديمقراطية عديدة، اتخذ موقفاً مبدئياً عنوانه “إسقاط النظام أولاً”، على أن تبدأ بعد ذلك المعركة السياسية لبناء الدولة بأدوات السياسة والكباش السياسي، لا تحت صوت المدافع والطائرات وجدران المعتقلات. وهذا ما عبّر عنه حزب الشعب بوضوح، مراراً في أدبياته ومداخلات قادته. وما لا يلتفت إليه كاتب المقال أن حزب الشعب الديمقراطي السوري ليس طارئاً في الحياة السياسية، ولا ابن اللحظة الثورية، بل هو ابن مسارٍ طويل من النضال في مواجهة الاستبداد، من داخل الشيوعية وخارجها. حين انشق رياض الترك عن خالد بكداش، كان يؤسّس رؤيةً ديمقراطيةً يساريةً مستقلّةً، لا تتبع موسكو، ولا تستنسخ تجارب “الطغاة الثوريين”. وفي الثمانينيّات، دفع الحزب ثمناً باهظاً لموقفه الذي دافع عن حقّ الإسلاميين، الذين كانوا ضحيّة عنف النظام آنذاك، في الوجود والعمل السياسي، من دون أن يتماهى مع مشروعهم. تلك المواقف لم تكن استسلاماً للتيّار الإسلامي، بل دفاعاً عن فكرة التعدّد.
وفي إعلان دمشق، الذي شارك جورج صبرة في صياغته، ثبّتت حقيقة أساسية، أن الهُويَّة العربية الإسلامية جزء من تكوين السوريين، ولكنّها لا تُلغي التعدّد، ولا تلغي المشروع المدني. هذه رؤية لا يمكن لمن يتبنّى الديمقراطية حقّاً أن يتجاوزها. وحين اندلعت الثورة، دعم الحزب كلّ من يقف ضدّ النظام، ويعرف كلّ أعضاء الحزب ومناصريه أن الحزب أصدر رسائل عديدة داخلية تدعو المحازبين إلى الوقوف مع الشعب لا قيادة الشعب، وكلمة رياض الترك الشهيرة “إنها ثورة الشباب ونحن معهم لا أمامهم”، انطلاقاً من إدراك بسيط، أنه لا إمكانية لبناء مشروع ديمقراطي في ظلّ النظام القائم. لكنّه، في الوقت نفسه، لم يقدّم يوماً دعماً سياسياً أو أيديولوجياً لأيّ فصيل لا يؤمن بالتعدّدية. إن القبول بالمشاركة الميدانية شيء، والسكوت عن المشاريع الإقصائية شيء آخر. بل كان الحزب من أوائل القوى التي طالبت بتفكيك البُنى العسكرية بعد إسقاط النظام والعودة إلى السياسة وسيلةً وحيدةً للصراع.
شارك جورج صبرة في صياغة إعلان دمشق، ثبّتت حقيقة أساسية، أن الهُويَّة العربية الإسلامية جزء من تكوين السوريين، ولكنّها لا تُلغي التعدّد
من هنا، ليس المطلوب أن نُبيّض الأخطاء، بل أن نُراجعها بوعي سياسي لا بإدانة أخلاقوية. المطلوب أن نقرأ التاريخ من داخله، لا من فوقه، أن نفهم كيف تُبنى التحالفات، وكيف يُدار التناقض، لا أن نحاكم ثورةً بأثر رجعي وفق نتائج لم يكن لأحد أن يتنبأ بها كاملةً. في المحصلة، ليس مقال أحمد مولود الطيّار نصّاً سياسياً، بل تعبيراً عن موقف أيديولوجي مغلق، يُعيد قراءة الثورة من بوابة “الانحراف”، لا بوابة التعقيد. هو نصّ يطالب الثورة بأن تكون طاهرةً منذ لحظتها الأولى، نقيّة من التناقضات، بلا تردّدات أو خيارات صعبة. وهذا ببساطة ليس من السياسة في شيء.
وأختم بمقولة الروائي السوري فادي عزام: “الثورة السورية هي ثورة، سواء تأسلمت أو (تعلمنت). هي كاشف أخلاقي وإنساني وثقافي لكلّ البديهيات القديمة. هي ثورة ضدّ التبرير والقبول الكاذب لواحد من أكثر الأنظمة الشمولية تفسّخاً وعنفاً. كلّ من هو منخرط في جوهرها لا يخشى منها، ولا يخشى عليها، كلّ من هو جالس على حافتها سيصيبه الرعب منها. أصلاً، الرعب واحدٌ من أهم سمات الثورات. الثورة السورية هي من أعمق ما قامت به جماعة بشرية في منطقة جغرافية على امتداد العالم، توقيفها مستحيل، ببساطة لأنها نضجت بفعل الزمن، ولا أحد يستطيع إيقاف الزمن. وأنا العبد الفقير لله وحرية الإنسان سأبقى معها.. حتى لو التهمتني، حتى لو كنت من ضحاياها، حتى لو دفعت الثمن غالياً جدّاً لا يقل عن حياتي. سأبقى منحازاً لها ما دمت قادراً على التنفس”.