تحلّ الذكرى السنوية لوفاة الكاتب التونسي ألبير ميمي كل يوم 22 أيار/ مايو من كل عام. ولد يوم 15 كانون الأول/ ديسمبر 1920 في تونس، وتوفي في 22 أيار/ مايو 2020 في باريس. وُلد في عاصمة بلد صغير وتوفي في عاصمة قال عنها بودلير، في منتصف القرن التاسع عشر، إنها صغيرة وهذا سرّ اتساعها. ألف كثيرًا في الأدب والسياسة والفكر، لكنه اشتهر بثلاثة كتب هي: “صورة المستعمِر وصورة المستعمَر” (1957)، “العنصرية” (1982) و”اليهودي والآخر” (1995).
لكن ما الدوافع التي كانت وراء تأكيد هذا الكاتب المتعدد الثقافات (تونسية- يهودية- فرنسية)، على التأليف المتكرّر في موضوعات بعينها: العنصرية، الاستعمار، تحرّر المستَعمر من قيود المستعمِر، وهل الكنديون الفرنسيون فعلًا مستَعمَرون؟ إن الأجوبة المفصّلة عن هذه الأسئلة الشائكة تكمن في تلك الكتب، وفي سيرته نفسها. لقد ولد ألبير ميمي في “الحارة”، الحي اليهودي في تونس، لأب يهودي إيطالي وأم أمية. عندما احتل الألمان تونس، تم حبسه في معسكر عمل قسري قبل اللجوء إلى الجزائر. بعد الحرب، قام بالتدريس وقام بحملات من أجل استقلال تونس، ولكن، رفضته الدولة الجديدة كيهودي، واستقر في باريس حيث أصبحت لديه مكانة ناجحة في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا. لكن سيرته الذاتية-الروائية “تمثال الملح” (1953)، التي قدّم لها ألبير كامي، تضيء أكثر على مثل هذه الأسئلة الوجودية الكبرى. لنرَ أولًا ما قاله عنه ألبير كامي: “ها هو كاتب فرنسي من تونس، ليس فرنسيًا ولا تونسيًا، فهو بالكاد يهودي، لأنه بمعنى ما لا يريد أن يكون يهوديًا. الموضوع الغريب للكتاب (تمثال الملح)، الذي يتم تقديمه الآن للجمهور، هو بالضبط استحالة أن يكون يهودي تونسي من الثقافة الفرنسية أي شيء محدد”. لنلاحظ كيف وضع كامي أصبعه على الجرح الظاهر/ الخفي في كيان كاتب هو ألبير ميمي. ألا يذكرنا ذلك بـ “سيرة المكان” لإدوارد سعيد وبوضعه الوجودي المماثل لصاحب “تمثال الملح”؟
إن ما وقف عنده كامي وهو يقدم هذا الكاتب التونسي، الذي كان حينئذ غير معروف، هو بالضبط جوهر الكتابة والتفكير لديه. إن هذا التمزق الذي بدأ بسيطًا سرعان ما سيتسع ويكبر مع سنوات النضج والانتماء الحقيقي إلى التاريخ. لقد بدأ التمزق لغويًا، ثم تجسد باعتباره هوية ممزقة، قبل أن يتحول إلى غزو دؤوب للغة الفرنسية، التي ظل يقاومها. من هذا النضال اللساني، ولد سحر إتقان الكلمات: “لم أتمكن أبدًا من التخلص من هذه التعويذة السحرية للغة” (تمثال الملح).
“العنصرية هي تثمين الاختلافات الحقيقية أو الخيالية المعمّمة والنهائية لصالح المتهِم وعلى حساب ضحيته لتبرير امتيازاته أو عدوانه” – ألبير ميمي”
تخيل أ. ميمي أن له قرابة مع جان-جاك روسو أو ألفريد دي فينييه، الذي كان مفتونًا بكتبه، وسيذهب إلى نهاية افتتانه بفرنسا، قبل أن يفهم، عند ظهور حكومة فيشي، أنه لن يكون فرنسيًا أبدًا: “لقد رفضتُ الشرق والغرب رفضني”.
خلال الحرب العالمية الثانية، غزا الألمان تونس وأُرسل ألبير ميمي إلى معسكر للعمل القسري. هنا سيتفرع مصيره، يغادر ميمي إلى الجزائر العاصمة في نهاية الأعمال العدائية (الراوي في “تمثال الملح” سيهرب إلى أميركا الجنوبية)، حيث سيدرّس الفلسفة، قبل مغادرته إلى جامعة السوربون في باريس.
إن “تمثال الملح” هي سيرة ذاتية (أو تخييل ذاتي) هو قاعدة انطلاق حقيقية وصادقة للتفكير عند أ. ميمي. يكتب: “سأجد دائمًا ألكسندر مردخاي، ألكسندر بينيلوش، مواطن في بلد مستعمَر، يهودي في عالم معاد للسامية، أفريقي في عالم تنتصر فيه أوروبا”. هذه هي الملاحظة المريرة للراوي في نهاية “تمثال الملح”. إنه ينذر بالعمل النظري الذي انخرط فيه ألبير ميمي لاحقًا. تزوج من امرأة فرنسية في عام 1946، وانتقل معها إلى تونس حيث أدار مختبرًا لعلم النفس الاجتماعي، ودرس الفلسفة، وأدار الصفحات الثقافية لصحيفة.
إن مظاهر مقاومة الاستعمار تظهر جلية في وجوده الحقيقي قبل أن تظهر على الأوراق في كتبه. لقد انخرط في حملة من أجل استقلال تونس في عام 1956، ولكن مثل العديد من اليهود المشاركين في حركة إنهاء الاستعمار، تم رفضه مرة أخرى من قبل بلد مسلم. فغادر إلى باريس حيث أصبح أستاذًا لعلم النفس الاجتماعي في مدرسة “المدرسة التطبيقية العليا”.
وباحثًا مشاركًا في “المركز الوطني للبحث العلمي”. في عام 1957، في خضم الحرب الجزائرية، نشر “صورة المستعمر” و”صورة المستعمرين”، مع مقدمة لجان بول سارتر، تصف علاقة التبعية بين وجهي العملة الواحدة. أكسبه هذا الكتاب عداوة السلطات الفرنسية، التي أجّلت منحه الجنسية الفرنسية. في هذه السنة خرج ألبير ميمي بالتعريف الأول للعنصرية، الذي نشرته “الموسوعة العالمية”: “العنصرية هي تثمين الاختلافات الحقيقية أو الخيالية المعمّمة والنهائية لصالح المتهِم وعلى حساب ضحيته لتبرير امتيازاته أو عدوانه”.
لقد أثرى تفكيره حول العنصرية بمفهوم قوي، والذي لا يزال مرجعًا حتى اليوم: مفهوم رُهاب الغير. إنه يميل إلى تفسير حقيقة أن كل مظهر من مظاهر العنصرية فريد من نوعه، بالنسبة إلى ميمي، حتى لو كانت الآليات شائعة، وبالتالي يجب على كل فئة عنصرية “تنظيم الدفاع عن وجودها على وجه التحديد”. يعرف أ. ميمي، أنه يهودي لكنه لا يعترف بنفسه داخل اليهودية كدين. صاغ مفهوم اليهودية المستخدم على نطاق واسع: “بعد أن قررت إجراء جرد لنفسي كيهودي، سرعان ما احتجت إلى كلمة تعبّر، مع استبعاد المعاني الأخرى، عن حقيقة كوني يهوديًا. أدركت بدهشة وإحراج أنه لم يكن هناك شيء. ستكون اليهودية حصريًا الطريقة التي يمكن لليهودي أن يكون فيها يهوديًا، ذاتيًا وموضوعيًا”. ولا تمرّ دراساته دون أن تذكرنا بوضوح بوظيفة العنصرية: “العنصرية لها وظيفة واحدة: هي في الأساس تحدّد الهيمنة وتضفي عليها الشرعية” (صفحة 106). إن هيمنة مجموعة من قبل مجموعة أخرى هي في طبيعة العلاقات الإنسانية. لكن هذه الهيمنة لا تقتصر على الاختلافات العرقية. فالمرء إما أن يهيمن عليه أو يهيمن عليه انتماؤه الطبقي أو القومي أو الديني أو الجنسي أو اللغوي أو العرقي. كما يمكن للمرء أيضًا أن يكون كلاهما في نفس الوقت، على سبيل المثال يُهيمَن عليه كبروليتاري ومهيمِنًا كذكر. هذه الازدواجية تسمح للجميع بتحمل حالة القهر.
لأكثر من نصف قرن، وبلا كلل، لم يتوقف ألبير ميمي أبدًا عن تأكيد نفسه ككاتب فرنسي عظيم، ولكن أيضًا ككاتب شمال أفريقي، ما عرّفه ألبير كامي في مقدمته لـ”تمثال الملح”، بأنه “وعي حديث ودرامي وذكي وموحد بدون أوهام. وقد سمح هذا الوعي له بالبقاء على ما هو عليه وفي الوقت نفسه الانتباه إلى تناقضات الآخرين”.
شارك هذا المقال