ونحن نتابع أخبار الصراع المسلح في المنطقة الذي بدأ بالهجمات التي شنّتها إسرائيل على الأراضي الإيرانية نرى حرب الروايات التي تعادل في شراستها حرب الجبهات، فكل طرف يروي سير المعركة بطريقته، ويفسّر نتائجها بما يخدم رؤاه. وبعيداً عمّا يقوله الطرفان، فإن واقع التحليل الاستراتيجي بحاجة للخروج من ثنائية تكرار ما يقوله طرفا الحرب أو القراءة الرغبوية لما يتمنى المعلّق أن تؤول له الأحداث.
إنَّ الضربة الأولى التي وجهتها إسرائيل لإيران في 13 يونيو (حزيران) الجاري قطعت الطريق على المفاوضات التي كان من المفترض أن تتم بين إيران والولايات المتحدة حول البرنامج النووي الإيراني. كان الهدف المعلن من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تدمير البرنامج النووي أو على الأقل تعطيله، ثم تعالت التوقعات لتصل إلى تبديل نظام الحكم في طهران وفسح المجال لنظام جديد ينظر بودٍ لإسرائيل.
لم يكن التفوق الجوي لإسرائيل مفاجئاً للمراقبين، ولم يكن الفارق الكبير في حجم الخسائر البشرية والمادية مفاجئاً هو الآخر. فعدد الضحايا في الجانب الإيراني يفوق عشرة أضعاف ضحايا الجانب الإسرائيلي، وكذلك حجم الدمار المُشاهد. لكن المقارنة بهذا المقياس غير دقيقة بالنظر إلى وضع الجانبين.
تمتلك إسرائيل التطور التكنولوجي والسلاح الجوي المتطور جداً والسلاح النووي، وهذا ما يجعلها أقوى قوة عسكرية في المنطقة، ويضع جيشها ضمن أقوى جيوش العالم مقارنة بالمساحة التي تقوم عليها الدولة وتعداد سكانها. بالمقابل، تمتلك إيران ثقلاً ديمغرافياً مهماً من حيث المساحة وعدد السكان وتاريخ الوجود في المنطقة، إضافة إلى ترسانتها الصاروخية وأذرعها الإقليمية ضمن قوى اللادولة والتي تتوزع في العراق، سوريا، لبنان، اليمن. هذه الحقائق هي سبب تأخير المواجهة المباشرة حتى الآن، فالطرفان يعلمان أنهما غير قادرين على الإجهاز على بعضهما، ويدركان كذلك أن المواجهة ستكون مريرة وغير محسومة النتائج.
ومع دخول الولايات المتحدة على الخط بقصفها ثلاثة مواقع داخل إيران في 22 يونيو، تتغير السردية التي قدمتها تل أبيب لتشكك في الانتصار المزعوم. فلو كانت إسرائيل قادرة على إيران وحدها، فلماذا تحتاج تدخلاً أميركياً مباشراً؟ هذا التدخل الذي يزعم الإيرانيون أنه لم يتمكن من شلّ برنامجهم النووي قوّى سردية حكومة طهران عند الشعب الإيراني بأنهم -بالفعل- يواجهون الولايات المتحدة التي ينعتونها بـ«الشيطان الأكبر» وليس مجرد مواجهة مع إسرائيل.
على المستوى الإقليمي، كان للموقف الخليجي بقيادة السعودية دورٌ كبير في تجنيب المنطقة الدخول في هذه الحرب، فمنذ اليوم الأول أدانت الرياض الهجمات الإسرائيلية على إيران ببيان صريح رفضت فيه «الاعتداء على السيادة» في إيران. هذا الموقف كان بمثابة رسالة واضحة للإيرانيين بأنَّ احترام السيادة موقفٌ مبدئي لا نقاش فيه. وقد أثمر هذا الموقف بعد القصف الأميركي المباشر لإيران، فالاستهداف الإيراني للوجود العسكري الأميركي في المنطقة جاء متأخراً جداً في اليوم الثاني عشر للحرب، وقد أنذرت طهران واشنطن بأنها ستستهدف قاعدة العديد في قطر.
مع إعلان ترمب لوقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل، يبدو أن الإيرانيين ينظرون لليوم التالي بعد الحرب، ويهمهم عدم خسارة العلاقات الإيجابية مع السعودية وبقية دول مجلس التعاون، والتي تعلم طهران بأنَّها بحاجة لها في هذا الوقت. هذا الموقف الإيراني نتيجة نجاح الدبلوماسية السعودية، والتي يجب ألا يتم إغفالها.
في حال التزمت الأطراف وقفَ إطلاق النار الذي أعلنه ترمب فجر الثلاثاء، فإن الحرب تكون قد توقفت وفق القاعدة المستمدة من المثل العربي «لا يموت الذئب، ولا يفنى الغنم». بمعنى أن استمرار النزاع الصريح بين تل أبيب وطهران يضمن لواشنطن عدم تمرّد حليفها عليها، ويضمن عدم تطور عدوها الأبرز. وبالنسبة إلى دول المنطقة، يضمن لهم عدم تفرّد إسرائيل بكونها القوة الوحيدة في المنطقة، فعدم الوصول إلى انتصار مطلق يعني بقاء التعددية القطبية وعدم وجود شرطي للمنطقة لا ينازعه أحد.