ليس المنطق السليم والقوانين الدولية والذوق العام وخير البشرية وحدهم ضحايا عصر دونالد ترامب، بل الصحافة أيضاً. تنام على حربٍ يفجّرها الرجل، وتصحو عليه وهو ينصّب نفسه خصماً وحكماً. يعلن الحرب على إيران لإتمام ما بدأته إسرائيل، ثم ببرهة يشكر مسؤوليها ويسمّي نفسه وسيطاً بينهم وبين نظرائهم في تل أبيب. يقول أي شيء، يثرثر أمراً ونقيضه، يندر أن تجد كلمة سياسية مفيدة في عنجهيته وغطرسته وغروره وقلة احترامه لمخاطبه، فلا يترك لمهنة المتاعب إلّا اللهاث وراء خبر يتغيّر في كل دقيقة، حسب تغريداته المتقلّبة والمملّة وتصريحاته وبهلوانياته المكرّرة حيناً والمتحوّلة أحياناً، والتي تكلّف العالم دماً وخسائر اقتصادية وبيئية وبأقل تقدير أعصاباً مهترئة ولعناً لهذه العيشة في هذا الزمن الرديء. ظروف كهذه تجعل التحليل في زمن ترامب شبه مستحيل، هو الذي يكره قراءة التقارير وتقدير المواقف السياسية والأمنية والاستخبارية، ويطلب من مساعديه اختصار ما يودّون إبلاغه شفهياً بكلام شعبوي مقتضب وبأجوبة من صنف نعم ولا، بلا شرح ولا إحاطة أو معلومات أو تنبيه من محاذير وتداعيات.
أمّا وقد سارع إلى سرقة جهود الآخرين كعادته، وادّعى تمكّنه من إبرام اتفاق لوقف الحرب بين إيران وإسرائيل ليل الاثنين ــ فجر الثلاثاء، بينما ما رشح يفيد بأن جلّ الجهد بذله المسؤولون القطريون في مفاوضاتٍ مكثفةٍ واتصالات ماراثونية سبقت إطلاق الحرس الثوري الإيراني عشرة صواريخ باتجاه قاعدة العديد في قطر وتلته، فإنّ الأهم يصبح لا التحليل، بل رصد الأحداث لحظة بلحظة لتبيان مصير القتال ومدى تنفيذ الاتفاق من عدمه، لأن التحليل غالباً ما يكون بلا طائل في عصر ترامب. وإن صمد وقف إطلاق النار إلى حين قراءة هذا المقال، وإن تحقق الأمل بألّا يكون مؤقتاً وأن تنتهي الحرب وكل حرب، أمكن التوقّف عند ملاحظة مركزية واحدة عنوانها كليشيه ولكن تكراره مسموح به: أسوأ اتفاق أفضل من أنبل حرب. وبما أنه حتى كتابة هذه السطور ظل مضمون الاتفاق غامضاً، ولا نعرف سوى تفاصيله الإجرائية المتعلقة بموعد توقف الطرفَين عن إطلاق الصواريخ أو المقاتلات الحربية، فإنه بجميع الأحوال يذكّرنا بكم أن النظام الإيراني من الصنف غير الانتحاري، وإلى أي قدر هو براغماتي ويضع بقاءه فوق أي اعتبار آخر. السلوك الانتحاري تركه حكّام طهران لأتباعهم وحلفائهم في المنطقة العربية، في اليمن ولبنان والعراق وفلسطين، بينما عندهم، في مركز ما كانوا يتوهّمون أنه إمبراطورية رأى العالم درجة الخرق والضعف في قلبها وكبدها، أدركوا ربما أن التراجع في منتصف الطريق هو القرار الوحيد الذي من شأنه أن ينقذهم من الخسارة المطلقة، خسارة أنفسهم، أي نظامهم، وخسارة هائلة لشعب من 90 مليون شخص وبلد كبير وعريق واقتصاد وإرث وتاريخ، فالاختلال الهائل في موازين القوى بين أميركا وإسرائيل من جهة، وإيران وأتباعها وحلفائها، أبطل مفعول قواعد الردّ المتعارف عليها والمنطقية على الهجوم الإسرائيلي ــ الأميركي، وجعل مرويات طهران عن إرغام واشنطن وتل أبيب على الندم إلى يوم الدين، والبكاء دماً، والوعد بتدفيع الثمن وردّ الصاع صاعَين وأهازيج النار بالنار، بلا صلاحية ولا نتيجة سوى إلحاق مزيد من الخسائر لإيران؛ لنظامها السياسي ولشعبها ولمقدّراتها وثرواتها ومنشآتها وبناها التحتية. كيفَ لا، وقد أظهرت حرب الأيام الـ12 (إنْ صمد وقف إطلاق النار) أن الاختلال الفاضح في موازين القوى العسكرية والتكنولوجية بين إسرائيل وأميركا في ظهرها من جهة، والمعسكر الإيراني من جهة ثانية، بدرجة التفاوت نفسها في السرعة بين سيارة فورمولا واحد وحصان.
أما احتفال المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، أمس الثلاثاء، بالنصر التاريخي الذي “سيسدّ كل الطرق أمام تكرار مثل هذه الاعتداءات العدوانية”، وبأن إسرائيل أُجبِرَت على قبول الهزيمة، فوحده يكفي للتذكير بحجم الخسارة المتحقّقة في إيران. وكأنّ الاتفاق المبرم يتألف من بند واحد: إيران تنتصر بالتصريحات، والطرف الآخر بتحقيق الأهداف.