–
أثارت وسائل إعلام إيرانية وإقليمية أخيراً تفاعلاً واسعاً عقب الهجوم الإسرائيلي على إيران، الموسوم إسرائيلياً بـ”الأسد الناهض”، والرد الإيراني عليه الذي حمل اسم “الوعد الصادق 3″، موجةً واسعةً من التغطية بشأن مزاعم تعاون عسكري باكستاني إيراني، بعد أن نُقلت تصريحات عن القيادي في الحرس الثوري، محسن رضائي، زعم فيها إن باكستان أبلغت طهران بأنها ستردّ نووياً على إسرائيل في حال استخدمت الأخيرة السلاح النووي ضد إيران1. وقد وجدت هذه التصريحات صدىً واسعاً في الإعلام العربي، ولا سيّما في وسائل إعلام محسوبة على محور المقاومة، التي بالغت في تأويلها، واعتبرتها تحوّلاً استراتيجياً في موقف إسلام أباد. لكن الخارجية الباكستانية سارعت إلى نفي هذه المزاعم، مؤكّدةً أن هذه الأقوال لا تعبّر عن موقف رسمي، وأن باكستان لم تتعهّد بأيّ التزامات نووية أو عسكرية ضدّ إسرائيل، وهو ما دفع محلّلين إلى وصف هذه الضجّة بأنها تضخيم إعلامي لا يعكس واقع العلاقات الباكستانية الإيرانية، بل يُستخدم أداةً للردع الرمزي، أكثر منه إعلان تحالف عسكري فعلي.
جاء الموقف الرسمي لباكستان تجاه هذه التصريحات سريعاً وواضحاً، فقد رفضت الحكومة الباكستانية، عبر بياناتٍ رسمية من وزارة خارجيتها وتصريحات كبار المسؤولين، أيّ ارتباط بالادّعاءات المتعلّقة بتعهّد نووي أو دعم عسكري موسّع لإيران، مشدّدة على أن هذه الأقوال “لا تعكس سياسة البلاد الرسمية” و”لم تصدر عن أيّ جهة مخوّلة بالقرار”2، كما أكّد وزير الدفاع، خواجة محمد آصف، عبر حسابه في “إكس” أن القدرات النووية الباكستانية موجّهة فقط إلى الدفاع عن أرضها وشعبها، وليس لهدف تصعيد سياسي أو عسكري خارجي3. بالإضافة إلى ذلك، نقلت وكالات أنباء مثل أسوشييتد برس ورويترز، عن مسؤولين باكستانيين طلبوا عدم كشف هُويَّاتهم نفيهم القاطع لتوريد صواريخ باليستية أو أيّ دعم عسكري مباشر لإيران ضدّ إسرائيل. بهذا التأكيد الرسمي، تعيد باكستان تأكيد التزامها بسياسة الردع القومي المحدّد داخل حدودها، مع الحفاظ على علاقات متوازنة في المنطقة، من دون الدخول في تحالفات نووية أو عسكرية مباشرة4.
بعد الثورة الإسلامية في إيران انهار الإطار الأيديولوجي والسياسي الذي جمع البلدَين تحت المظلّة الغربية
تُعدّ قراءة العلاقات بين إيران وباكستان بموضوعية ضرورةً ملحّة في ظلّ تصاعد الخطاب الإعلامي المتحيّز والمُضخّم، ولا سيّما في الأوساط الإقليمية والعربية، فالإشارات المتكرّرة إلى تحالفات عسكرية، أو دعم نوويّ مزعوم، من دون استنادٍ إلى مصادر رسمية أو توثيق دقيق، تساهم في صناعة بروباغاندا تُضلّل الرأي العام، وتُعقّد الفهم السياسي لواقع الأمور. ولا يعني وضع الأمور في نصابها تبرئة طرف أو إدانة آخر، بل يقتضي تفكيك سياق العلاقات المعقّدة الممتدّة تاريخياً، وتحليل محدّداتها الجيوسياسية، الأمنية والمذهبية، بعيداً من التأويلات الرغائبية أو الأجندات الدعائية. والفهم المتوازن هو ما يسمح بتقدير المصالح الواقعية والتقاط لحظات التحوّل، ولا سيّما حين تتحرّك الدول بين الشراكة والتنافس في ساحة إقليمية متقلّبة كالتي تجمع بين طهران وإسلام أباد، خصوصاً أن البلدَين يتشاركان حدوداً برّيةً تمتدّ أكثر من 900 كيلومتر، وتشهد مناطقها تداخلاً ديمغرافياً كثيفاً، خصوصاً في إقليم بلوشستان الذي يقطنه أبناء قومية واحدة موزّعة بين الجانبَين.
مسار معقد لعلاقات تاريخية
في هذا السياق، يتطلّب فهم حقيقة الموقف الباكستاني الرسمي تجاه المزاعم الأخيرة العودة إلى طبيعة العلاقة التاريخية بين البلدَين، التي اتسمت بالتقلّب بين التحالف والتوجّس. فعلى الرغم من الروابط المبكّرة التي نشأت بعد استقلال باكستان، والدعم المتبادل في مراحل متفرّقة، إلا أن التحوّلات الإقليمية، ولا سيّما بعد الثورة الإيرانية، أدخلت العلاقة في مسارات أكثر تعقيداً، يغلب عليها الحذر والتوازن. لذلك، لا تنسجم التصريحات الإيرانية التي رُوّجت إعلامياً مع المسار التاريخي لعلاقات البلدَين، التي نادراً ما وصلت إلى تحالفات استراتيجية كاملة، بل ظلّت مشدودة إلى اعتبارات الجغرافيا والبراغماتية السياسية، مع حرص باكستان الدائم على تجنّب الانخراط المباشر في صراعات إقليمية قد تضرّ بعلاقاتها المتوازنة مع مختلف الأطراف، بما في ذلك دول الخليج والغرب.
نشأت العلاقة بين إيران وباكستان في أعقاب استقلال باكستان عام 1947، في ظلّ بيئة جيوسياسية إقليمية مضطربة، إذ سعت الدول الإسلامية حديثة الاستقلال إلى بناء تحالفاتٍ تحفظ توازنها أمام القوى الكبرى، ومحيطها المتنازع عليه. وقد كانت إيران أول دولة تعترف رسمياً بباكستان، ليس انطلاقاً من القربين، الجغرافي والديني، فقط، بل أيضاً بدافع التطلّع إلى تشكيل محور إسلامي معتدل في وجه المدّ الشيوعي آنذاك، وللحدّ من نفوذ الهند في جنوب آسيا. وقد تعزّز هذا التقارب بانضمام البلدَين إلى تحالفاتٍ مدعومة من الغرب، مثل “حلف بغداد” و”سنتو”، ما أسس لتعاون أمني واستراتيجي استمرّ عقوداً. وتفيد الباحثة الإيرانية شيرين هانتر، في دراستها حول السياسة الخارجية الإيرانية، بأن طهران في الخمسينيّات كانت ترى في باكستان شريكاً أمنياً طبيعياً في جنوب آسيا، نظراً إلى التقارب السياسي والديني، ولحاجتها إلى ممرّ استراتيجي نحو المحيط الهندي5.
ويشير أليكس فاتانكا في كتابه “Iran and Pakistan: Security, Diplomacy and American Influence” إلى طبيعة العلاقة المعقّدة بين الشاه محمد رضا بهلوي وقيادتَين سياسيَّتَين متعاقبتَين في باكستان، الجنرال أيّوب خان وذو الفقار علي بوتو، فعلى الرغم من التقارب المصلحي الظاهر، خصوصاً في فترة حكم أيّوب خان، كانت العلاقة تتقلّب بفعل تباين أولويات السياسة الخارجية، إذ كان الشاه يسعى إلى لعب دور إقليمي مستقلّ أحياناً عن التوجّهات الباكستانية، ولا سيّما في ما يتعلّق بالقضية الكردية أو العلاقة مع الهند. وفي عهد بوتو، ازدادت الاختلافات وضوحاً، خصوصاً مع توجهات بوتو اليسارية واستقلاليته المتنامية عن المعسكر الأميركي، ما أثار حفيظة الشاه الذي رأى في ذلك تهديداً لتوازن القوى في المنطقة6.
ورغم هذه التوترات، استمرّت العلاقات بين البلدين في العمل ضمن أُطر تعاون أمني واقتصادي، بل توثقت أكثر في بعض المحطّات، مثل الدعم الإيراني لباكستان خلال حربها مع الهند عام 1971، والدور التنسيقي في إطار حلف سنتو. يعلّق فاتانكا على هذه المفارقة بأن العلاقة لم تكن تحكمها الرومانسية السياسية، بل البراغماتية القائمة على المصالح الإقليمية المشتركة، خصوصاً الخوف من التوسّع السوفييتي والاضطرابات في أفغانستان7.
منذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، بدأت تتشكّل معادلة إقليمية جديدة جعلت من باكستان طرفاً مضطرّاً إلى التموضع بين المحورين، الإيراني والخليجي
تصدير الثورة الإيرانية: التوازن الحذر
شكّلت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 لحظة تحوّل جوهري في العلاقات بين طهران وإسلام أباد، إذ انهار الإطار الأيديولوجي والسياسي الذي جمع البلدَين تحت المظلّة الغربية، لتحلّ مكانه رؤيةٌ ثوريةٌ شيعيةٌ تبنّاها النظام الإيراني الجديد بقيادة الخميني، ما أثار حذر باكستان ذات الغالبية السُّنية والمؤسّسات العسكرية المحافظة. وقد ازداد التوتر مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية. حاولت باكستان أن تحافظ على حياد ظاهري، لكنّها مالت ضمناً نحو دعم العراق لأسباب مذهبية وسياسية، ولمواجهة ما اعتبرته تمدّداً للثورة خارج حدود إيران. تبنّت باكستان موقفاً حيادياً ظاهرياً، لكنّها غضّت الطرف عن دعم دول الخليج للعراق عبر أراضيها، وركّزت سياستها الخارجية حينها في احتواء أيّ تصديرٍ محتملٍ للثورة إلى الداخل الباكستاني، خصوصاً مع تصاعد الاحتجاجات الشيعية، وتأسيس تنظيماتٍ مواليةٍ لطهران في كراتشي وبلوشستان. أثارت مساعي طهران هذه لتصدير الثورة قلقاً كبيراً لدى إسلام أباد، التي رافقها تنامي النفوذ الشيعي داخل باكستان، ومحاولات التعبئة العقائدية العابرة للحدود. وبهذا، تحوّلت العلاقة من شراكة استراتيجية إلى تقارب حذر، تغلب عليه الحسابات الأمنية والمذهبية، وتُدار غالباً بعيداً من الأضواء، ووفق توازنات دقيقة بين المصالح الجغرافية والمخاوف العقائدية.
ومع نهاية الحرب الباردة، وتحولات ما بعد 11 سبتمبر، وجدت إيران وباكستان نفسيهما في علاقات متذبذبة تُحدّدها ملفّات إقليمية حساسة، وفي رأسها الملفّ الأفغاني، والنفوذ في آسيا الوسطى، والتوترات في بلوشستان. ففي حين تعاونا أحياناً لمواجهة الجماعات السُّنية، اعتُبرت تنظيماتٍ مُتطرّفة مثل حركة طالبان أو جيش العدل، كان كلّ طرف، في الوقت نفسه، يشكّك في نيات الآخر، خصوصاً في ما يتعلّق بالتحركات الأمنية على الحدود المشتركة. ورغم توقيع اتفاقات اقتصادية مهمة مثل مشروع خط أنابيب الغاز الإيراني الباكستاني، أعاقت العقوبات الدولية على طهران والضغوط الأميركية والخليجية على باكستان تنفيذَ تلك المشاريع. وبذلك، استمرّت العلاقة في إطار “التوازن الحذر”، تُدار وفق منطق براغماتي، يسمح بالتعاون في مجالات محدّدة كالتجارة وضبط الحدود، من دون أن يتحوّل تحالفاً استراتيجياً، وبعيداً من ضجيج التصريحات الإعلامية التي لا تعبّر غالباً عن حقيقة المواقف الرسمية.
تعاون أمني في أجواء انعدام الثقة
تقوم العلاقة بين إيران وباكستان حالياً على جملة من المحدّدات الأساسية، أبرزها:
1- الاعتبارات الأمنية، وفي مقدمها ضبط الحدود المشتركة ومكافحة الجماعات المسلّحة، ولا سيّما في إقليم بلوشستان، حيث ينشط تنظيم جيش العدل المعارض لإيران، وتتهم طهران إسلام أباد بغض الطرف عنه. 2- العامل المذهبي، إذ تؤثّر التوتّرات السُّنية الشيعية داخل باكستان في مستوى الثقة المتبادلة وتغذّي الشكوك الإيرانية. 3 – ملفّ البلوش، باعتباره قضيةً متفجّرةً تُوظّف سياسياً وأمنياً من الطرفَين، مع تبادل الاتهامات حول دعم الانفصاليين أو احتضانهم. 4- التوازن الإقليمي، إذ تسعى باكستان إلى عدم الإخلال بعلاقاتها الاستراتيجية مع السعودية والخليج، ما يقيّد تقاربها مع طهران. 5- الضغوط الدولية، خصوصاً الأميركية، التي تعيق تنفيذ مشاريع كُبرى مثل خطّ أنابيب الغاز الإيراني الباكستاني. 6- المصالح الاقتصادية، التي تشمل التجارة العابرة للحدود والتعاون في الطاقة رغم العقبات. 7 – الملفّ الأفغاني، الذي يمثّل ساحة تقاطع وتنافس في آن، خصوصاً في ما يتعلّق بدعم الفصائل والحدّ من نفوذ الجماعات المتشدّدة.
يُعد الملف الأمني، ولا سيما المتعلق بإقليم بلوشستان والجماعات المسلحة العابرة للحدود، من أبرز القضايا المتفجرة في العلاقات الإيرانية الباكستانية، وأكثرها تعقيداً وحساسية. يمتد الإقليم في كلا البلدَين ويضم أقلية عرقية ذات تطلعات انفصالية، ما جعله بيئة خصبة لحركات تمرّد ونشاطات مسلّحة، أبرزها تنظيم جيش العدل السُّني البلوشي، الذي تتهمه إيران بتنفيذ هجمات دامية ضدّ الحرس الثوري في محافظتي سيستان وبلوشستان. وفي المقابل، تتهم باكستان إيران بدعم جماعات شيعية داخل أراضيها، وتغذية النزاعات الطائفية في مناطق مثل كراتشي وبلوشستان الباكستانية، ما يزيد من تعقيد العلاقة الأمنية. وقد وثّقت وكالة رويترز هذه الاتهامات المتبادلة في سياق تغطيتها التصعيد العسكري أخيراً بين البلدَين8.
يظلّ ملفّ الجماعات البلوشية بؤرة توتّر مستمرّة، قابلة للاستثمار الإقليمي من أطراف تسعى إلى توظيف الفوضى لصالح حسابات نفوذ أوسع
تاريخياً، تعود جذور هذا التوتّر إلى غياب مشروع تنموي شامل لدى الطرفَين لإقليم بلوشستان، وتداخل البُعد العرقي مع المذهبي، ما أدّى إلى تصاعد النزعة الانفصالية وتكاثر الجماعات المسلّحة. ورغم محاولات متكرّرة للتعاون الأمني، بما في ذلك إنشاء نقاط اتصال حدودية وتوقيع اتفاقيات لتبادل المعلومات، ظلّ انعدام الثقة هو السائد، في ظلّ تبادل الاتهامات بعد كلّ حادثة أمنية. وقد شهد العقدان الأخيران محطّات تصعيد خطيرة، منها الهجمات عامي 2014 و2019، والتي تبنّاها “جيش العدل”، وسبّبت مقتل عشرات من عناصر الأمن الإيراني، وهو ما دفع طهران إلى التهديد علناً باتخاذ إجراءات عسكرية داخل باكستان، كما جاء في تقرير9.
وبلغ التصعيد ذروته في 16 يناير/ كانون الأول 2024، حين شنّت إيران ضربةً صاروخيةً وجوّيةً داخل الأراضي الباكستانية، استهدفت مواقع قالت إنها تؤوي عناصر من “جيش العدل”، ما أسفر عن مقتل طفلين وخمسة مدنيين، وفق بيان من وزارة الخارجية الباكستانية10. ردّت باكستان سريعاً عبر عملية عسكرية مضادّة تحت اسم “Marg Bar Sarmachar” يوم 18 يناير، استهدفت مواقع داخل الأراضي الإيرانية، وأدت إلى مقتل تسعة أشخاص بينهم نساء وأطفال.11 هذه الضربات المتبادلة أدت إلى سحبٍ مؤقّتٍ للسفراء، وتجميد قنوات دبلوماسية، ما كشف هشاشة البنية الأمنية بين البلدَين. ورغم استئناف العلاقات لاحقاً، وصدور تصريحات تهدئة، أظهر هذا الحادث استعداد الطرفَين لاستخدام القوة العسكرية في حماية أمنهما القومي، كما أكّد أن ملفّ الجماعات البلوشية يظلّ بؤرة توتّر مستمرّة، قابلة للاستثمار الإقليمي من أطراف تسعى إلى توظيف الفوضى لصالح حسابات نفوذ أوسع في جنوب آسيا وغربها.
حسابات الطائفة والمذهب
يرتكز الخلاف المذهبي بين إيران وباكستان على التباين العميق بين هُويَّة النظام الإيراني الشيعي، ذي النزعة الثورية منذ عام 1979، وهُويَّة الدولة الباكستانية ذات الغالبية السُّنية والمؤسّسات الأمنية المحافظة. لم يكن هذا التباين ذا أثر مباشر في بداية العلاقة، بل تعمّق تدريجياً بعد الثورة الإيرانية، حين شرعت طهران في تصدير نموذجها الثوري الشيعي إلى الدول الإسلامية، ما أثار خشية باكستان من تفجّر صراعات داخلية على خلفية مذهبية، خاصّة في ظلّ وجود أقلّية شيعية كبيرة داخل البلاد. في المقابل، تلقّت الجماعات السُّنية المتشدّدة في باكستان دعماً سياسياً أو مادّياً من خصوم إيران الإقليميين، وفي مقدّمتهم السعودية، ما زاد في حدّة الاستقطاب، وجعل باكستان ساحةً لصراع غير مباشر بين المحورين، الإيراني الشيعي والسُّني الخليجي.
تاريخياً، شهدت باكستان تصاعداً كبيراً في التوتر الطائفي خلال ثمانينيّات القرن العشرين وتسعينياته، مع بروز جماعات مثل “لشكر جنقوي” و”سباه صحابة”، اللتين تبنّتا خطاباً معادياً للشيعة، في مقابل جماعات شيعية مدعومة من إيران مثل “تحريك جعفريا”، ما أدّى إلى تصاعد العنف الطائفي، ووقوع تفجيرات واغتيالات متبادلة12. وقد انعكس هذا التوتّر داخلياً على السياسة الخارجية الباكستانية، فباتت إسلام أباد تتوخّى الحذر في علاقاتها مع طهران، متجنّبة الانخراط في أيّ محاور مذهبية علنية، لكنّها، في الوقت نفسه، لم تتمكّن من فصل سياستها الداخلية عن الضغوط الإقليمية. وقد جعل هذا التوتّر البنيوي العلاقات بين البلدَين هشّةً ومعرّضةً دائماً للتقلّب، ولا سيّما حين يتصاعد الخطاب المذهبي في أحد البلدَين أو حين تقع أحداث أمنية تُقرأ في إطار طائفي.
معادلة جديدة
منذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، بدأت تتشكّل معادلة إقليمية جديدة جعلت من باكستان طرفاً مضطرّاً إلى التموضع بين محاور متصارعة، أبرزها المحوران، الإيراني والخليجي بقيادة السعودية. وبما أن باكستان ذات غالبية سنّية وتربطها علاقات استراتيجية طويلة الأمد مع السعودية والولايات المتحدة، فقد سعت إلى تبنّي سياسة توازن دقيق، تتجنّب فيها الانخراط المباشر في الاستقطاب الإقليمي، مع الحفاظ على حدّ أدنى من العلاقات الودّية مع إيران. وقد جعل هذا الحذر الاستراتيجي العلاقة مع طهران خاضعةً دائماً لمعادلة المصالح الأوسع، ولا سيّما المرتبطة بالأمن الإقليمي في الخليج وآسيا الوسطى. ولم يكن هذا التوازن ممكناً من دون تدخّلات وضغوط دولية مباشرة، خصوصاً من الولايات المتحدة، التي عملت بشكل منهجي لتقويض أيّ تقارب استراتيجي بين إسلام أباد وطهران. أحد أبرز الأمثلة على ذلك مشروع خطّ أنابيب الغاز الإيراني الباكستاني، الذي تعرّض للتجميد بعد أن واجهت باكستان تحذيرات أميركية واضحة من المضي فيه تحت طائلة العقوبات. وقد نشرت وكالة رويترز تقريراً يؤكّد أن واشنطن ربطت بين استمرار المساعدات العسكرية والمالية لإسلام أباد وتراجعها عن الاتفاق مع طهران حول هذا المشروع، في سياق ما وصفته مصادر دبلوماسية “ردعاً غير مُعلَن”13.
لم يتوقّف هذا النوع من الضغوط عند المشاريع الاقتصادية، بل شمل أيضاً إعادة تأطير باكستان داخل تحالفات أمنية جديدة تركز على احتواء إيران بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان. وقد دفعت هذه السياسة القائمة على التوازن القلق باكستان إلى تبنّي خطاب مزدوج، رسمي محايد تجاه إيران، وميداني أقرب إلى التحالفات المناوئة لها، ما يفسّر هشاشة العلاقة، رغم الضرورات الجغرافية والاقتصادية التي تدفع باتجاه قدر من التعاون بين البلدَين.
تظلّ العلاقة بين إيران وباكستان محكومةً بمنطق التوازن الهشّ، الذي لا انقطاعَ كاملاً فيه، ولا تحالفَ استراتيجياً ثابتاً
“طالبان” والتنافس الإيراني الباكستاني
مثّلت أفغانستان أحد أبرز ملفّات التنافس الإيراني الباكستاني، فشكّلت ساحة صراع جيوسياسي حادّ بين الطرفَين منذ الثمانينيّات، فقد تبنت باكستان موقفاً داعماً للفصائل السُّنية المدعومة من الولايات المتحدة والسعودية في مواجهة الغزو السوفييتي، بينما اتجهت إيران إلى دعم الفصائل الشيعية، ولا سيّما في منطقة الهزارة. وكشف هذا التباين مبكّراً طبيعة الصراع بين البلدَين حول هُويَّة الدولة الأفغانية المنشودة، إذ سعت كلّ دولة إلى تأمين نظام حليف يعكس انتماءها الأيديولوجي ويخدم مصالحها الإقليمية14.
تعمّق هذا الانقسام خلال تسعينيّات القرن العشرين، مع صعود حركة طالبان، فقد دعمت باكستان الحركة بصراحة، بينما شعرت إيران بتهديد مباشر بسبب الخطاب السلفي والطابع المعادي للشيعة في فكر الحركة. بلغ التوتر ذروته عام 1998 بعد اقتحام “طالبان” مدينة مزار شريف، ومقتل عدة دبلوماسيين إيرانيين، ما دفع طهران إلى حشد قواتها عند الحدود مع أفغانستان، والتلويح بتدخّل عسكري مباشر. يُعلّق فاتانكا بأن هذا الحدث مثّل أخطر لحظة صدام مباشر محتملة بين إيران و”طالبان”، وتبعاً لذلك، بين إيران وباكستان، باعتبار الأخيرة الراعي الرئيس للحركة في تلك المرحلة.
ومع الغزو الأميركي أفغانستان في 2001، تبدّلت ملامح الصراع من المواجهة العسكرية إلى النفوذ السياسي غير المباشر. احتفظت باكستان بعلاقات خفيّة مع عناصر “طالبان” رغم تحالفها الرسمي مع الولايات المتحدة، بينما بدأت إيران تبني نفوذها من خلال وكلاء سياسيين وعلاقات مع الحكومة المركزية، خصوصاً في عهد رئاسة حامد كرزاي. يرى فاتانكا أن هذا الصراع لم يختفِ بعد 2001، بل اتّخذ أشكالاً أكثر مرونةً وتأثيراً، فبقيت أفغانستان ميداناً لتنافس سرديات النفوذ بين دولتَين تحاول كلّ منهما تصدير رؤيتها للنظام الإقليمي، مع إدراك كلّ طرف أن السيطرة على كابول تفتح بوابة التأثير في عموم جنوب آسيا15.
خاتمة
تُظهر العلاقة بين إيران وباكستان تعقيداً بنيوياً متجذّراً في التاريخ، متشابكاً مع محدّدات جغرافية وأمنية ومذهبية وسياسية، تجعل من التقييم الأحادي لهذه العلاقة اختزالاً مخلّاً بالواقع. وبينما تتنوّع محطّات التقارب والتباعد بين البلدَين، تظلّ العلاقة محكومةً بمنطق التوازن الهشّ، الذي لا انقطاعَ كاملاً فيه، ولا تحالفَ استراتيجياً ثابتاً. إن فهم هذا النمط المتقلّب يتطلّب قراءةً معمّقةً ترفض السرديات الدعائية، وتستند بدلاً من ذلك إلى تفكيك السياقات وتتبّع التحوّلات، بما يسمح بإدراك كيف يتعايش التوتر والتعاون معاً داخل معادلة إقليمية معقّدة، تحكمها المصالح أكثر من المبادئ.
هوامش
[1] العربي الجديد (@alaraby_ar). “نشر مقطعًا يتناول التصريحات الباكستانية المنفية رسميًا بشأن دعم عسكري لإيران X.” 15-06-2025. https://x.com/alaraby_ar/status/1934337552124625316
[2] The Economic Times. “Pakistan to attack Israel with nuclear missile? Islamabad issues big statement.” 2025-06-16. https://economictimes.indiatimes.com/news/new-updates/pakistan-to-attack-israel-with-nuclear-missile-islamabad-issues-big-statement/articleshow/121887855.cms.
[3] خواجة محمد آصف (@KhawajaMAsif). “تغريدة رسمية تناقل فيها تصريح وزير الدفاع الباكستاني حول القدرات النووية والردع”. X، 2025-06-15. https://x.com/KhawajaMAsif/status/1934329856545935622
[4] Associated Press. “The Latest: Death toll grows as Israel and Iran trade attacks for third day.” 2025-06-16. https://apnews.com/article/israel-palestinians-iran-war-latest-06-15-2025-291df01b03179cd414db21ca33791b39
[5] Shireen T. Hunter, Iran’s Foreign Policy in the Post-Soviet Era: Resisting the New International Order (Santa Barbara, CA: Praeger, 2010), p. 45.
[6] Alex Vatanka, Iran and Pakistan: Security, Diplomacy and American Influence (London: I.B. Tauris, 2015), pp. 58–62.
[7] المصدر نفسه.
[8] Reuters. “Pakistan recalls envoy from Iran after ‘unprovoked’ missile strikes.” 2024-01-17. https://www.reuters.com/world/asia-pacific/pakistan-recalls-ambassador-iran-after-airspace-violation-2024-01-17/
[9] Reuters. “Suicide bomber kills 27 members of Iran’s elite Revolutionary Guards.” 2019-02-13. https://www.reuters.com/article/world/suicide-bomber-kills-27-members-of-irans-elite-revolutionary-guards-idUSKCN1Q22J0/